الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والعشرون
29 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ ابْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ» قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» .
قوله: "أُريت النار" بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول، والتاء هو النائب، والنار المفعول الثاني، أي: أراني الله النار، وفي رواية تأتي في الكسوف:"ورأيت النار" بالواو، وفي رواية:"فرأيت" بالفاء.
وقوله: "فإذا أكثر أهلها النساء" برفع أكثر مبتدأ خبره النساء، وفي رواية:"رأيت النار فرأيت أكثر أهلها النساء" بنصب أكثر والنساء مفعولي رأيت، وفي رواية:"أريتُ النار أكثر أهلها النساء" بحذف فرأيت، وحينئذ فقوله:"أريت" بمعنى أُعلمت، والتاء والنار والنساء مفاعيله الثلاثة، وأكثر بدل من النار وفي رواية:"رأيت النار" بالنصب "أكثرُ" بالرفع.
لم يذكر المصنف في هذه الرواية هنا رؤيته عليه الصلاة والسلام الجنة، وذكرها في الرواية الآتية في الكسوف، فقال فيها: "إني رأيت الجنة، فتناولت منها عُنقودًا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار
…
إلخ".
قال في "الفتح" ظاهره أنها رؤية عين، فمنهم من حمله على أن الحُجُب كُشفت له دونها، فرآها على حقيقتها، وطُويت المسافة بينهما حتى أمكنه أن يتناول منها، وهذا أشبه بظاهر هذا الخبر، ويؤيده حديث
أسماء في أوائل صفة الصلاة بلفظ: "دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقِطْف من قِطافها" ومنهم من حمله على أنها مُثِّلت له في الحائط كما تنطبع الصورة في المرآة، فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس الآتي في التوحيد:"لقد عُرضت علي الجنةُ والنار آنفًا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي". وفي رواية: "لقد مُثِّلت" ولمسلم: "لقد صُوِّرت" ولا يرد على هذا أن الانطباع إنما هو في الأجسام الصَّقيلة، لأنا نقول هو شرط عادي، فيجوز أن تنخرق العادة خصوصًا للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر، ولا مانع من أن يرى الجنة والنار مرتين بل مرارًا على صور مختلفة، وأبْعَد من قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم، فإنه كان عالمًا علمًا تامًا بهما قبل هذا الوقت. قال القُرطبيّ: لا إِحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها، سيما على مذهب أهل السنة في أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه عليه الصلاة والسلام إدراكًا خاصًا به أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما.
وقوله: "ولو أصَبْته" في رواية مسلم: "ولو أخذته" واستشكل مع قوله: "تناولت" وأجيب يحمل التناول على تكلف الأخذ لا حقيقة الأخذ، أو بأن الإِرادة مُقَدَّرة، أي: أردت أن أتناول، ثم لم أفعل، ويؤيده حديث جابر عند مسلم:"ولقد مَدَدتُ يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل" ومثله للمصنف في آخر الصلاة عن عائشة بلفظ: "حتى لقد رأيْتُني أريد أن آخذ قِطفًا من الجنة حين رأيتُموني جَعَلت أتقدم" ولعبد الرزاق من طريق مُرسلة: "أردتُ أن آخذ منها قِطفًا لأُريكُموه، فلم يُقدَّر" ولأحمد من حديث جابر: "فحِيل بيني وبينه" وقيل: المراد تناولت لنفسي، ولو أخذته لكم، وليس بجيد. وقيل: المراد بقوله: "تناولت" أي: وضعت يدي عليه، بحيث كنت قادرًا على تناوله، لكن لم يقدر لي قطفُه، "ولو أصبته" أي: لو تمكنت من قطفه، ويدل عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خُزيمة:"أهوى بيده ليتناول شيئًا"
وللمصنف في أوائل الصلاة عن أسماء: "حتى لو اجترأت عليها" وكأنه لم يؤذن له في ذلك، فلم يجترىء عليه.
قال ابن بَطّال: لم يأخذ العنقود لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى، والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يَفنى. وقيل: إنه لو رآه الناس لكان من إيمانهم بالشهادة لا بالغيب، فيُخشى أن يقع رفع التوبة، فلا ينفع نفسًا إيمانها. وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال، والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة، وأما قول ابن العربي عن بعض شيوخه: إن معنى قوله: "لأكلتم منه" أن يخلق في نفس الآكل مثل الذي أكل دائمًا، بحيث لا يغيب عن ذوقه، فهو باطلٌ، لأنه رأي فلسفيٌّ مبنيٌّ على أن دار الآخرة لا حقيقة لها، وإنما هي أمثال، والحق أن ثمار الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وإذا قطعت خلقت في الحال، فلا مانع أن يخلق الله مثل ذلك في الدنيا إذا شاء، فالفرق بين الدارين في وجوب الدوام وجوازه.
قوله: "ورأيتُ النار" وقع في رواية عبد الرزاق أن رؤيته النار كانت قبل رؤيته الجنة، وذلك أنه قال فيه: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم النار، فتأخر عن مصلاه، حتى إن الناس ليركب بعضهم بعضًا، وإذا رجع عُرضت عليه الجنة، فذهب يمشي حتى وقف في مُصلاه. ولمسلم من حديث جابر:"لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها" وفيه: "ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدمت، حتى قمت في مقامي" وزاد فيه: "ما من شيء توعدونه إلا قد رأيتُهُ في صلاتي هذه" وفي حديث سَمُرة عند ابن خُزيمة: "لقد رأيتُ منذ قُمت أصلي ما أنتم لاقون في دُنياكم وآخرتكم".
وقوله: "يكفُرن" بياء المضارعة، جملة مستأنفة تدل على السؤال، كأنه جواب سؤال سائل سأل: يا رسول الله لم؟ قال: "يكفرن"، وفي رواية "بكفرهن" أي: بسبب كفرهن.
وقوله: "يكفُرن العشير" أي: الزّوج، أو المعاشر مطلقًا كما مر قريبًا.
قال الكِرْماني: لم يُعدِّ كفر العشير بالباء كما عدى الكفر بالله، لأن كفر
العشير لا يتضمن معنى الاعتراف.
وقوله: "ويكفُرن الإِحسان" كأنه بيان لقوله: "يكفرن العشير" لأن المقصود كفر إحسان العشير لا كفر ذاته، والمراد بكفر الإِحسان تغطيتُه أو جَحْده، كما يدل عليه آخر الحديث. قال النووي: تَوَعُّدُه على كفران العشير وكفران الإِحسان بالنار يدل على أنهما من الكبائر.
وقوله: "لو أحسنتَ إلى إحداهن الدَّهر كله" بيان للتغطية المذكورة، والدهر منصوب على الظرفية، والمراد منه مدة عمر الرجل، أو الزمان كله مبالغة في كُفرانهن، وليس المراد بقوله:"أحسنت" مخاطبة رجل بعينه، بل كل من يتأتى منه أن يكون مخاطبًا، فهو خاصٌّ لفظًا، عام معنىً، فهو على سبيل المجاز، لأن الأصل في الخطاب أن يكون خاصًّا، لكنه جاء على نحو {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ} [السجدة: 12] ولو هنا شرطية لا امتناعية من قبيل: نعم العبدُ صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، فالحكم ثابت على النقيضين، والطرف المسكوت عنه أولى من المذكور.
وقوله: "ثم رأت منك شيئًا" التنوين فيه للتقليل، أي: شيئًا قليلًا لا يُوافق غرضها من أي نوع كان، أو شيئًا حقيرًا لا يعجبها.
وقوله: "قالت ما رأيت منك خيرًا قطُّ" أي: بفتح القاف، وتشديد الطاء مضمومة على الأشهر ظرف زمان لاستغراق ما مضى، وقد مضى ما فيها من اللغات في حديث: "أول ما بُدىء به رسول الله
…
إلخ" في بدء الوحي.
ووقع في حديث جابر ما يدل على أن المرئي في النار من النساء من اتصف بصفات ذميمةٍ ذُكرت، ولفظه:"وأكثر من رأيت فيها من النساء اللّاتي إن اؤتِمِنَّ أفْشين، وإن سُئلن بَخِلن، وإن سألْن ألْحفن، وإن أُعطينَ لم يَشكُرن" .. الحديث.
وفي هذا الحديث من الفوائد وعظ الرئيس المرؤوس وتحريضه على
الطاعة، ومراجعته المتعلم العالم والتابع المتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه، وجواز إطلاق الكفر على كفر النعمة وجَحْد الحق، وإن المعاصي تُنقص الإِيمان، لأنه جعله كفرًا، ولا يخرج إلى الكفر الموجب للخلود في النار، وإن إيمانهن يزيد بشكر نعمة العشير، فثبت أن الأعمال من الإِيمان، وفيه معجزةٌ ظاهرةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه من نُصح أمته وتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم مما يَضرُّهم، وفيه أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان، وجواز العمل في الصلاة إذا لم يَكثُر.
وحديث ابن عبّاس هذا طرفٌ من حديث طويل أورده المصنف في باب صلاة الكسوف، ونبه هنا على فائدتين:
إحداهما: أن البخاري يذهبُ إلى جواز تقطيع الحديث إذا كان ما يفصله منه لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلقًا يُفضي إلى فساد المعنى كما هو أحد الأقوال الأربعة الآتية في الاقتصار على بعض الحديث، فصنيعه ذلك يوهم من لا يحفظ الحديث أن المختصر غير التام، لا سيما إذا كان ابتداء المختصر من أثناء التام، كما وقع في هذا الحديث، فإن أوله هنا قوله صلى الله عليه وسلم:"أُريت النار" إلى آخر ما ذكر منه، وأول التام عن ابن عباس قال: خَسَفَت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر صفة صلاة الكسوف، ثم خُطبة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها القَدْر المذكور هنا، فمن أراد عد الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب يظن أن هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف الابتداء، وقد وقع في ذلك من حكى أن عدته بغير تكرار أربعة آلاف ونحوها، كابن الصلاح، والشيخ محي الدين النووي، ومن بعدهما، والحق أن عدته على التحرير ألفا حديث وخمس مئة حديث وثلاثة عشر حديثًا كما يأتي إن شاء الله تحريره في خاتمة هذا الكتاب.
الفائدة الثانية تقرر أن البخاري لا يُعيد الحديث إلا لفائدة، لكن تارة تكون في المتن، وتارة تكون في الإِسناد، وتارة فيهما، وحيث تكون في المتن خاصة لا يُعيده بصورته، بل يتصرف فيه، فإن كثرت طرقه أورد لكل باب طريقًا، وإن قلت اختصر المتن أو الإِسناد، وقد صنع