الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والثلاثون
41 -
قَالَ مَالِكٌ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَاّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا» .
قوله: "إذا أسلم العبد" هذا الحكم يشترك فيه الرجال والنساء، وذكره بلفظ المذكر تغليبًا.
وقوله: "فحسن إسلامه" أي: صار إسلامه حسنًا باعتقاده وإخلاصه، ودخوله فيه بالباطن، والظاهر، وأن يستحضر عند عمله قرب ربه منه، وإطلاعه عليه، كما دل عليه تفسير الإِحسان في حديث سؤال جبريل كما سيأتي.
وقوله: "يكفر الله عنه كل سيئة" هو بضم الراء، لأن إذا وإن كانت من أدوات الشرط لكنها لا تجزم إلا في الضرورة، واستعمل الجواب مضارعًا وإن كان الشرط بلفظ الماضي لكنه بمعنى المستقبل، وفي رواية البزار:"كفر الله" فواخى بينهما، واعتراض العيني على صاحب "الفتح" بأن إذا تجزم، واستشهاده ببيت الشاعر غلط، فإن جزمها مقيد بالشعر، وهذا النثر.
قوله: "كان زلفها" رويت بالتشديد والتخفيف وأزلفها بالهمزة، وكلها بمعنى واحد، أي: أسلف وقدم، كما قاله الخطابي، وقال في "المحكم": أزلف الشيء قربه، وزلفه مخففًا ومثقلًا قدمه، والزُّلفة تكون في الخير والشر، وأما القُربة فلا تكون إلا في الخير، وفي "المشارق": زلف بالتخفيف أي: جمع وكسب، وهذا يشمل الأمرين.
وروى الدارقطني هذا الحديث عن مالك بلفظ: ما من عبد يسلم فيحسن إسلامه إلا كتب الله له كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل خطيئة زلفها بالتخفيف فيهما، وللنسائي نحوه، لكن قال: أزلفها.
وقوله في هذا الحديث: "كتب الله" أي: أمر أن يكتب، ورواه الدارقطني عن مالك بلفظ:"يقول الله للملائكة: اكتبوا". وكتابة الحسنات المتقدمة قبل الإِسلام الساقطة من رواية البخاري ثابتة في جميع الروايات، وقد قيل: إن البخاري أسقطها عمدًا لأنها مشكلة على القواعد، وقال المارزي: الكافر لا يصح منه التقرب، فلا يثاب على العمل الصالح الصادر منه في شركه، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفًا لمن يتقرب إليه، والكافر ليس كذلك، ووافقه القاضي عياض على هذا الإِشكال، واستضعف النووي ذلك، وقال: الذي عليه المحققون، بل نقل بعضهم فيه الإجماع، أن الكافر إذا فعل أفعالًا جميلة كالصدقة وصلة الرحم، ثم أسلم ومات على الإِسلام فإن ثواب ذلك يكتب له، وأما دعوى أن ذلك مخالف للقواعد، فغير مسلم، لأنه قد يعتد ببعض أفعال الكافر في الدنيا، ككفارة الظهار، فإنه لا تلزمه إعادتها إذا أسلم، وتجزئه، وقد جزم بما جزم به النووي إبراهيم الحربي، وابن بطّال، وغيرهما من القدماء، والقرطبي وابن المنير من المتأخرين.
قال ابن المنير: المخالف للقواعد دعوى أن يكتب له ذلك في حال كفره، وأما أن الله يضيف إلى حسناته في الإِسلام ثواب ما كان صدر منه مما كان يظنه خيرًا فلا مانع منه، كما لو تفضل عليه ابتداء من غير عمل، وكما يتفضل على العاجز بثواب ما كان يعمل، وهو قادر، فهذا جاز أن يكتب له ثواب ما لم يعمل البتة، جاز أن يكتب له ثواب ما عمله غير موفى الشروط.
وقال ابن بطال: لله أن يتفضل على عباده بما شاء، ولا اعتراض لأحد عليه.
واستدل غيره بأن من آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين، كما دل عليه القرآن والحديث الصحيح، وهو لو مات على إيمانه الأول لم ينفعه شيء من عمله الصالح، بل يكون هباءً منثورًا، فدل على أن ثواب عمله الأول يكتب له مضافًا إلى عمله الثاني، وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لما سألته عائشة عن ابن جُدْعان وما كان يصنعه من الخير هل ينفعه؟ فقال:"إنه لم يقُل يومًا ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين" فدل على أنه لو قالها بعد أن أسلم نفعه ما عمله في الكفر.
قلت: ما قاله النووي ومن وافقه هو صريح ما أخرجه البخاري في كتاب الأدب والزكاة والعتق، عن حكيم بن حِزام، ولفظه أنه قال: يا رسول الله أرأيت أمورًا كنت أتَحنَّثُ بها في الجاهلية من صلة وعتاقة وصدقة، هل كان لي فيها من أجر؟ قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "أسلمتَ على ما سلفَ من خيرٍ". والذين قالوا: إن الكافر لا يثاب، حملوا هذا الحديث على وجوه أخرى، منها أن يكون المعنى: أنك بفعلك ذلك اكتسبت طباعًا جميلة، فانتفعت بتلك الطباع في الإِسلام، وتكون تلك العادة قد مَهَّدت لك معونةً على فعل الخير، أو أنك اكتسبت بذلك ثناءً جميلًا، فهو باق لك في الإِسلام، أو أنك ببركة فعل الخير هُديت إلى الإِسلام، لأن المبادىء عنوان الغايات، أو أنك بتلك الأفعال رُزقت الرزق الواسع، قال ابن الجوزي: قيل: إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورّى عن جوابه، فإنه سأل: هل لي فيها من أجر؟ فقال: "أسلمت على ما سَلفَ من خير" والعتق فعل الخير، وكأنه أراد: إنك فعلت الخير، والخير يُمدح فاعله، ويُجازى عليه في الدنيا، فقد روى مسلم عن أنس مرفوعًا:"إن الكافر يُثاب في الدنيا بالرِّزقِ على ما يفعله من حسنةٍ" وفيما أخرجه في العتق عن هشام. إن حكيمًا أعتق في الجاهلية مئة رقبة، وحمل على مئة بعير، وقال: فوالله لا أدع شيئًا صنعته في الجاهلية إلا فعلت في الإِسلام مثله.
قال في "الفتح": والحق أنه لا يلزم من كتابة الثواب للمسلم في
حال إسلامه تفضلًا من الله تعالى وإحسانًا أن يكون ذلك لكون عمله الصادر منه في الكفر مقبولًا، والحديث إنما تضمن كتابة الثواب، ولم يتعرض للقبول، ويحتمل أن يكون القبول يصير معلقًا على إسلامه فيُقبل ويُثاب إن أسلم، وإلا فلا، وهذا أقوى.
والتكفير هو التغطية، وهو في المعاصي كالإِحباط في الطاعات.
وقال الزَّمَخْشَرِيّ: التكفير إماطة المستحق من العقاب بثواب زائد.
وقوله: "وكان بعد ذلك القصاص" أي: بعد حسن الإِسلام، والقصاص بالرفع اسم كان على أنها ناقصة، أو فاعل على أنها تامة، وعبر بالماضي وإن كان السياق يقتضي المضارع، لتحقق الوقوع، كما في نحو قوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} والقصاص هو كتابة المجازاة في الدنيا.
وقوله: (الحَسَنَةُ بعَشْرِ أَمْثَالِهَا) الحسنة مبتدأ والخبر بعشر، والجملة استئنافية.
وقوله: "إلى سبع مئة ضِعْف" متعلق بمقدر، أي: منتهية، والضعف -بكسر الضاد- المثل إلى ما زاد، ويقال: لك ضعفه يريدون مثليه، أو ثلاثة أمثاله، لأنه زيادة غير مخصوصة، وقد حكى الماوردي أن بعض العلماء أخذ بظاهر هذه الغاية، فقال: إن التضعيف لا يتجاوز سبع مئة، ورد بقوله تعالى:{وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261] والآية محتملة للأمرين، فتحتمل أن يكون المراد أنه يُضاعف تلك المضاعفة بأن يجعلَها سبع مئة، ويحتمل أنه يضاعف السبع مئة بأن يزيد عليها، والمصرح بالرد عليه حديث ابن عباس المخرج عند المصنف في الرقاق، ولفظه:"كتبَ اللهُ له عشرَ حسناتٍ إلى سبع مئة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةٍ"، وقد ذكرت هذا الحديث في باب: أنا أعلمكم بالله، وذكرت جميع مباحثه هناك مستوفاة.
وقوله "إلا أن يتجاوزَ الله عنها" زاد سمّويه في "فوائده": "إلا أن