المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث السادس والاربعون - كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري - جـ ٢

[محمد الخضر الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب قول النبي صلى الله عليه وسلم أنا أعلمكم بالله وأن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌وفي هذا الحديث فوائد:

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار من الإِيمان

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌رجاله أربعة:

- ‌باب تفاضل أهل الإِيمان في الأعمال

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌بابٌ: الحياء من الإِيمان

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌باب

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌باب إذا لم يكن الإِسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ومن يبتغ غير الإِسلام دينًا فلن يقبل منه

- ‌الحديث العشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب السلام من الإِسلام

- ‌الحديث الحادي والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب كُفران العشير وكفر دون كفر فيه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌بابٌ المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] فسماهم المؤمنين

- ‌الحديث الرابع والعشر ون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌باب ظلم دون ظلم

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌باب علامات المنافق

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌رجاله ستة:

- ‌بابٌ قيام ليلة القدر من الإِيمان

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب الجهاد من الإِيمان

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب تطوع قيام رمضان من الإِيمان

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب صوم رمضان احتسابًا من الإِيمان

- ‌الحديث الحادي والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌بابٌ الدينُ يُسْرٌ

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب الصلاة من الإِيمان

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌باب حسن إسلام المرء

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب أحب الدين إلى الله أدْوَمُهُ

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌رجاله ستة:

- ‌باب الزكاة من الإِسلام وقوله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب اتِّباعُ الجنائز من الإِيمان

- ‌الحديث الأربعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب: خوف المؤمن من أن يحبطَ عملُه وهو لا يشعر

- ‌الحديث الحادي والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث الثاني والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإِسلام والإحسان وعلم الساعة

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب فضل من استبرأ لدينه

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب أداء الخمس من الإِيمان

- ‌الحديث السادس والاربعون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرىء ما نوى

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث التاسع والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب قول النبى صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة لله ولرسوله

- ‌الحديث الخمسون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الحادي والخمسون

- ‌لطائف إسناده:

- ‌خَاتِمَة

الفصل: ‌الحديث السادس والاربعون

‌الحديث السادس والاربعون

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِى جَمْرَةَ قَالَ كُنْتُ أَقْعُدُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ، يُجْلِسُنِى عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِى حَتَّى أَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِى، فَأَقَمْتُ مَعَهُ شَهْرَيْنِ، ثُمَّ قَالَ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنِ الْقَوْمُ أَوْ مَنِ الْوَفْدُ؟. قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: "مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ -أَوْ بِالْوَفْدِ- غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى". فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلَاّ فِى شَهْرِ الْحَرَامِ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَىُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرْ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا وَنَدْخُلْ بِهِ الْجَنَّةَ. وَسَأَلُوهُ عَنِ الأَشْرِبَةِ. فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ". قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ". وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ عَنِ الْحَنْتَمِ وَالدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالْمُزَفَّتِ. وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ. وَقَالَ:"احْفَظُوهُنَّ وَأَخْبِرُوا بِهِنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ".

قوله: "كنت أقعدُ مع ابن عباس" بلفظ المضارع، حكاية عن الحال الماضية، استحضارًا لتلك الصورة للحاضرين.

قوله: "مع ابن عباس" رضي الله تعالى عنهما، أي: عنده في زمن ولايته البصرة من قبل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.

وقوله: "يُجلِسُني" بضم أوله من غير فاء من أجلس، وفي رواية أبوي ذرٍّ والوقت:"فيُجلسُني" بالفاء، أي: يرفعني على سريره بعد أن أقعد، فهو عطف على أقعد بالفاء، لأن الجلوس على السرير قد يكون بعد القعود وغيره، هكذا قال القسطلّاني تبعًا لشيخه الشيخ زكرياء، والظاهر

ص: 397

عندي أن هذا التقدير غير محتاج له، وأن قوله:"يجلسني" جملة تفسيرية لقوله: "أقعد"، ولا يمنع ذلك وجود الفاء في بعض الروايات، لأن الفاء تكون تفسيرية.

والسرير جمعه أسرَّة وسُرر -بضمتين، وحكي فتح الراء- سمي بذلك لأنه مجلس السرور.

وقد بين المصنف في العلم السبب في إكرام ابن عباس له، ولفظه:"كنت أُترجم بين ابن عبّاس وبين الناس".

قال ابن الصلاح: أصل الترجمة التعبير بلغة عن لغة، وهو عندي هُنا أعم من ذلك، وإنه كان يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفى عليه، ويبلغه كلامهم، إما لزحام، أو لقصور فهم.

قال في "الفتح": الثاني أظهر، لأنه كان جالسًا معه على سريره، فلا فرق في الزحام بينهما، إلا أن يحمل على أن ابن عباس كان في صدر السرير، وكان أبو جَمْرة في طرفه الذي يلي مَن يترجم عنهم، وقيل: إن أبا جَمْرة كان يعرف الفارسية، فكان يترجم لابن عباس بها.

قال القُرطبي: فيه دليل على أن ابن عباس كان يكتفي في الترجمة بواحد، وقد بوب عليه البخاري في أواخر كتاب الأحكام.

وقوله: "فقال: أقِمْ عندي" أي: لتساعدني بتبليغ كلامي إلى من خفي عليه من السائلين، أو بالترجمة عن الأعجمي، لما مر أنه كان يعرف الفارسية ويترجم بها لابن عباس.

وقوله: "حتى أجعلَ لك سهمًا من مالي" أي: نصيبًا، واستنبط منه ابن التين جواز أخذ الأجرة على التعليم، لقوله:"حتى أجعلَ لك سهمًا من مالي".

قال في "الفتح": وفيه نظر، لاحتمال أن يكون إعطاؤه ذلك كان بسبب الرؤيا التي رآها في العمرة قبل الحج كما سيأتي عند المصنف

ص: 398

صريحًا في الحج، فإن في الرواية المذكورة في الحج:"ثم قال لي: أقم عندي، وأجعل لك سهمًا من مالي، قال شُعبة: فقلت: ولم؟ فقال: للرؤيا التي رأيت" فهذا صريح في أن الإعطاء كان إكرامًا له على الرؤيا التي رآها، وهي أن أبا جمرة كما في هذا الحديث قال:"تمتعت، فنهاني ناس، فسألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فأمرني، فرأيت في المنام كأن رجلًا يقول لي: حج مبرور. وعمرة متقبلة، فأخبرت ابن عباس، فقال: سنة أبي القاسم" ويؤخذ من هذا الحديث إكرام من أخبر المرء بما يسره، وفرح العالم بموافقته للحق، والاستئناس بالرؤيا لموافقة الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا على العالم، والتكبير عند المسرة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على اختلاف أهل العلم ليُعمل بالراجح منه الموافق للدليل.

وقوله: "فأقمت معه شهرين"، أي: عنده، وإنما عبر بمع المشعرة بالمصاحبة دون عند المقتضية لمطابقة "أقم عندي" لأجل المبالغة.

وقوله: "ثم قال: إن وقد عبد القيس" وهو ابن أفْصى بوزن أعْمى ابن دُعْميّ -بضم الدال وسكون العَيْن المهملة وبياء النسبة- ابن جَديلة -وزن كبيرة- ابن أسد بن ربيعة قبيلة كبيرة كانوا يسكنون البحرين، والوفد الجماعة المختارة للتقدم في لقي العظماء، واحدهم وافد.

وقوله: "لما أتَوْا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" كان سبب مجيئهم إسلام منقذ بن حبان، وتعلمه الفاتحة وسورة اقرأ، وكتابته عليه الصلاة والسلام لجماعة عبد القيس كتابًا، فلما رحل إلى قومه كتمه أيامًا، وكان يصلي، فقالت زوجته لأبيها المنذر بن عائذ -وهو الأشَجّ-: إني أنكرت فعل بعلي منذ قدم من يثرب، إنه ليغسل أطرافه، ثم يستقبل الجهة -تعني: الكعبة- فيحني ظهره مرة، ويقع أخرى، فاجتمعا، فتحادثا ذلك، فوقع الإِسلام في قلبه، وقرأ عليهم الكتاب، وأسلموا، وأجمعوا المسير إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

ص: 399

وقوله: "قال: منِ القومُ، أو: من الوفد" شك شعبة أو أبو جَمْرة، والضمير في "قال" له عليه الصلاة والسلام.

وقوله: "قالوا: ربيعةُ" أي: نحن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وإنما قالوا ربيعة لأن عبد القيس من أولاده كما مر، وعُبِّر عن البعض بالكل، لأنهم بعض ربيعة، ويدل عليه ما عند المصنف في الصلاة:"فقالوا: إنًا هذا الحي من ربيعة" والحي: منصوب على الاختصاص، أي إنا هذا الحي حيٌّ من ربيعة، والحي اسم لمنزل القبيلة، ثم سميت القبيلة به، لأن بعضهم يحيى ببعض.

وقوله: "مرحبًا بالقوم أو بالوفد" مرحبًا منصوب بفعل مضمر، أي: صادفت رُحبًا -بضم الراء- أي: سعة، أو يكون مرحبًا اسم مكان، أي: صادفت مكانًا رحبًا، أي: واسعًا، والرَّحب -بالفتح- الشيء الواسع، وقد يزيدون معها أهلًا، أي: وجدت أهلًا فاستأنس ولا تستوحش، وأول من قال مرحبًا سيف بن ذي يزن، وفيه دليل على استحباب تأنيس القادم، وقد تكرر ذلك من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ففي حديث أم هانىء عند البخاري:"مرحبًا بأم هانىء" وفي قصة عكرمة بن أبي جَهل: "مرحبًا بالراكب المهاجر"، وفي قصة فاطمة:"مرحبًا بابنتي" وكلها صحيحة.

وأخرج النسائي عن عاصم بن بشير الحارثي، عن أبيه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال له لما دخل فسلم عليه:"مرحبًا، وعليك السلام".

قلت: ما وقع في حديث الإسراء من ترحيب الرسل والملائكة بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يدل على أن القادم لا يقال له شيء أفضل من هذه الكلمة، إذ لو كان شيء أفضل منها لقالته الملائكة والرسل له عليه الصلاة والسلام.

ص: 400

وقوله: "غير خزايا" بنصب غير على الحال، وروي بالكسر على الصفة، وأنكره الأُبيّ قائلًا: إنه يلزم منه وصف المعرفة بالنكرة، إلا أن تُجعل الأداة في القوم للجنس، كقوله:

وَلَقَدْ أمرُّ على اللئيمِ يسبُّني

وعلى رواية الكسر فالأولى أن تعرب بالبدل، ويؤيد الأول رواية المصنف في "الأدب المفرد" عن أبيِ جَمْرة:"مرحبًا بالوفد الذين جاؤوا غيرَ خزايا ولا ندامى"، وخزايا جمع خزْيان على القياس، وهو الذي أصابه خِزْي، والمعنى: أنهم جاؤوا غير أذلاء، أو غير مستحيين لقدومهم مبادرين دون حرب أو سبي يخزيهم ويفضحهم فيوجب استحياءهم.

وقوله: "ولا ندامى"، قال الخطابي: أصله نادمون جمع نادم؛ لأن ندامى إنما هو جمع ندمان، أي: المنادم في اللهو، قال الشاعر:

فإنْ كُنْتَ نَدْماني فبِالأكْبرِ اسقِني

لكنه خرج على الإتباع، كما قالوا: العشايا والغدايا، وغداة جمعها الغدوات، لكنه أتبع، والتحقيق عند أهل اللغة أنه يقال: نادم وندمان في الندامة بمعنى، وعليه يكون جمعه على الأصل، ولا إتباع، وفي رواية النسائي والطَّبراني:"مرحبًا بالوفد ليس الخزايا ولا النادمين" قال ابن أبي جمرة: بشرهم بالخير عاجلًا وآجلًا، لأن الندامة إنما تكون في العاقبة، فإذا انتفت ثبت ضدها، وفيه دليل على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أُمن عليه الفتنة.

وقد بين مسلم السبب في تحديث ابن عباس لأبي جمرة بهذا الحديث، فقال بعد قوله المار:"وبين الناس، فاتته امرأة تسأله عن نبيذ الجرِّ، فنهى عنه، فقلت يا ابن عباس: إنّي أنتبذُ في جرة خضراء نبيذًا حلوًا، فاشرب منه، فتقرقر بطني، قال: لا تشرب منه، وإن كان أحلى من العسل".

ص: 401

وللمصنف في آخر المغازي عن أبي جمرة قال: "قلت لابن عباس: إن لي جرة أنتبذُ فيها فأشربه حلوًا، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قدم وفد عبد القيس

الخ".

قال في "الفتح": ولما كان أبو جمرة من عبد القيس، وكان حديثه يشتمل على النهي عن الانتباذ في الجرار، ناسب أن يذكره له.

قلت: يأتي في تعريف أبي جمرة الاعتراض عليه في جعله أبا جمرة من عبد القيس.

ثم قال: وفي هذا دليل على أن ابن عباس لم يبلغة نسخ تحريم الانتباذ في الجرار، وهو ثابت من حديث بُرَيْدة بن الحُصَيْب عند مسلم وغيره.

قلت: يأتي إن شاء الله تعالى تحرير القول في ذلك عند انتهاء الحديث.

ثم قال: قال القُرطبي: فيه دليل على أن للمفتي أن يذكر الدليل مستغنيًا به عن التنصيص على جواب الفتيا إذا كان السائل بصيرًا بموضع الحجة.

وقوله: "فقالوا: يا رسول الله" فيه دلالة على أنهم حين المقابلة كانوا مسلمين، وكذا في قولهم:"كفار مضر"، وفي قولهم:"الله ورسوله أعلم".

وقوله: "إلَاّ في الشهر الحرام" أي: لحرمة القتال فيه عندهم، والمراد به الجنس، فيشمل الأربعة الحرم، ويؤيد هذا رواية المصنف في المغازي بلفظ:"إلا في أشهر الحرم" وروايته في المناقب بلفظ: "إلَاّ في كل شهرٍ حرام" وقيل: اللام للعهد، والمراد شهر رجب، وفي رواية البَيْهقي التصريح به.

وكانت مضر تبالغ في تعظيم شهر رجب، فلهذا أضيف إليهم في

ص: 402

حديث أبي بكرة، حيث قال:"رجب مضر" كما سيأتي، والظاهر أنهم كانوا يخصونه بمزيد التعظيم، مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخرى، إلا أنهم ربما أنسوها بخلافه.

وللأصيليّ وكريمة: "إلَاّ في شهر الحرام" وهي رواية مسلم، وفيها إضافة الموصوف إلى الصفة، كصلاة الأولى، ومسجد الجامع، والبصريون يمنعون ذلك، ويؤولونه على حذف مضاف، أي: صلاة الساعة الأولى، وشهر الوقت الحرام، ومسجد المكان الجامع.

وقوله: "وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر" وهو بضم الميم وفتح الضاد غير منصرف للعلمية والعدل، أو للعلمية والتأنيث، باعتبار أنه صار علمًا على القبيلة وهي مؤنثة، وهو ابن نزار بن معد بن عدنان أخو ربيعة، وكانت منازل عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا كما عند المؤلف في العلم:"وإنا نأتيكَ من شُقّةٍ بعيدة" والشُّقة: السفر، وقال الزّجّاج: الغاية التي تقصد.

ووفد عبد القيس المذكورون كانوا ثلاثة عشر راكبًا، كبيرهم الأشجّ، ففي "المعرفة" لابن مَنْده عن هود العَصَريّ -بعين وصاد مهملتين مفتوحتين، نسبة إلى عَصَر، بطن من عبد القيس- عن جده لأمه فريدة العَصَريّ قال: بينما النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم: "سيطلُع عليكُم من هاهنا ركبٌ هم خير أهل المشرق" فقام عمر، فتوجه نحوهم، فلقي ثلاثة عشر راكبًا، فبشرهم بقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم مشى معهم، حتى أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فرموا بأنفسهم عن ركائبهم، فأخذوا يده فقبلوها، وتأخر الأشَجُّ في الركاب حتى أناخها وجمع متاعهم، وجاء يمشي، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم "إن فيك خصلتين يحبهما الله، الأناة والحلم".

وأخرجه البَيْهقي، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" مطولًا من وجه آخر عن رجل من وفد عبد القيس لم يسمه، وفي هذا الحديث أن

ص: 403

الأشج جمع رحالهم، وعقل ناقته، ولبس ثيابًا جددًا، ثم أقبل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأجلسه إلى جانبه، ثم إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم:"تبايعوني على أنفسكم وقومكم؟ " فقال القوم: نعم، وقال الأشَجّ: يا رسول الله، إنك لن تزايل الرجل عن شيء أشد عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، وترسل معنا من يدعوهم، فمن اتبع كان منا، ومن أبى قاتلناه. قال:"صدقت، إن فيك لخصلتين يحبُّهما الله، الحلم والأناة" وفي "مسند" أبي يعلى الموصلي أنه قال: أكانا فيَّ أم حدثا؟ قال: "بل قديم" قال: الحمد لله الذي جعلني على خلقين يحبُّهما الله.

والأناة على وزن قناة الثاني والانتظار، وقال النووي: إن الوفد كانوا أربعة عشر، قال في "الفتح": لم يذكر له دليلًا، ويمكن أن يجمع بينه وبين ما في الحديث السابق بأن أحد المذكررين كان غير راكب، أو كان مرتدفًا.

وروى الدُّولابي وابن منده عن أبي خَيْرة -بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتية وبعد الراء هاء- الصُّباحِي -بضم الصاد المهملة، بعدها موحدة مخففة، وبعد الألف حاء مهملة- نسبة إلى صُباح بطن من عبد القيس، قال: كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عبد القيس، وكنا أربعين رجلًا، فنهانا عن الدُّبَّاء والنقير

الحديث.

قال في "الفتح": ويمكن أن يجمع بينه وبين الرواية السابقة بأن الثلاثة عشر كانوا رؤوس الوفد، ولهذا كانوا ركبانًا، وكان الباقون أتباعًا.

قال في "الفتح": والذي تبين لي أنه كان لعبد القيس وفادتان، إحداهما قبل الفتح، ولهذا قالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم:"وبيننا وبيَنك هذا الحي من كفار مضر" وكان ذلك قديمًا، إما في سنة خمس أو قبلها، ويدل على سبق إسلامهم ما رواه المصنف في الجمعة والمغازي

ص: 404

عن ابن عباس قال: "أول جمعة جمعت بعد جمعة جُمعت في مسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجُؤاثَى من البحرين" -وهي بضم الجيم، وبعد الألف مثلثة مفتوحة- وهي قرية شهيرة لهم، وإنما جمعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدل على أنهمٍ سبقوا جميع القرى إلى الإِسلام، وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر راكبًا، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان فيهم الأشجّ، وقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال ثانيتهما: كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ أربعين رجلًا كما مر في حديث أبي خيرة، وفيهم الجارود العَبْدي، ويؤيد التعدد ما أخرجه أبو يَعْلى، وصححه ابن حِبّان من حديث الأشَجّ العَصَري أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم:"ما لي أرى وجوهَكُم قد تغيرت" قالوا: نحن بأرض وخمة، وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا، فلما نهيتنا عن الظروف، فذلك الذي ترى في وجوهنا. فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم:"إن الظروف لا تُحِلُّ ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام" وهذا الحديث صريح في تعدد الوفادة.

وها أنا أسرد أسماء من سماهم في "الفتح" من الوفد المذكور، تاركًا العزو إلى من عزى له التسمية فهم: المنذر بن عائذ، وهو الأشجّ المذكرر، ومُنْقِذ بن حِبّان، ومَزِيدة بن مالك، وعَمْرو بن مَرْحوم، والحارث ابن شُعيب، وعُبيدة بن همّام، والحارث بن جُنْدَب، وصُحار بن العبّاس -بصاد مضمومة وحاء مهملتين- وعُقبة بن جروه، وقيس بن النعمان العَبْدي، والجَهْم بن قُثَم، والرّستم العبدي، وجويرية العبدي، والزارع ابن عامر العبدي، وأخوه مطر، وابن أخته ولم يسم، ومشمرج السعدي، وجابر بن الحارث، وخزيمة بن عبد بن عمرو، وهمّام بن ربيعة، وجارية ابن جابر، وأبو خيرة الصُّباحي، ونوح بن مَخْلد جد أبي جَمْرة، وقد مر أنني سأذكر الاعتراض عليه في جعله أبا جمرة من عبد القيس في تعريف أبي جَمْرة قريبًا، هذا ما ذكره في "الفتح" وهو ثلاثة وعشرون، وذكر العيني

ص: 405

زيادة على أربعين، وأعرضت عن ذكر ما ذكره العيني، لأني لم أر في حديث زيادة الوفد على أربعين.

وقوله: "فمرنا بأمر فصل" بالصاد المهملة وبالتنوين فيهما على الوصف لا بالإضافة، والفصل بمعنى الفاصل، كالعدل بمعنى العادل، أي: بفصل بين الحق والباطل، أو بمعنى المُفَصِّل أي: المبين المكشوف، وقيل: الفصل البين، وقيل: المحكم، والأمر واحد الأوامر، أي: مرنا بعمل بواسطة افعلوا، ولهذا قال الراوي:"أمرهم" وفي رواية للمؤلف: "آمركم" وفي رواية له بصيغة افعلوا.

وأصل مرنا: أؤمرنا بهمزتين، إحداهما للوصل من أمر يأمر، فحذفت الأصلية للاستثقال، فصار أمرنا، فاستُغني عن همزة الوصل، فحذفت، فبقي مُرْ على وزن عُلْ، لأن المحذوف فاء الفعل.

وقوله: "نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة" برفع نخبر على الصفة لأمر، وكذا قوله:"ندخل"، لأنه عطف، ويُروى بالجزم فيهما على أنه جواب الأمر، وسقطت الواو في بعض الروايات من "وندخل"، فيرفع نخبر على الصفة، ويجزم ندخل على الجواب.

وقوله: "من وراءنا" يشمل من جاؤوا من عندهم باعتبار المكان، ويشمل من يحدث لهم من الأولاد وغيرهم، وهذا باعتبار الزمان، فيحتمل إعمالها في المعنيين حقيقة ومجازًا.

وقوله: "وسألوه عن الأشربة" يحتمل عن ظروفها، ويكون الجواب الآتي من قوله:"ونهاهم عن أربع، عن الحنتم .. الخ" موافقا للسؤال، ويحتمل أن يكون المعنى سألوه عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة، ويحتاج الجواب الآتي إلى تأويل كما سأذكره إن شاء الله تعالى هناك، وعلى التقدير الأول يكون المحذوف المضاف، وعلى الثاني الصفة.

ص: 406

وقوله: "فأمرهم بأربع" أي خِصال أو جمل لقولهم فيما رواه المؤلف في المغازي: حدثنا بجمل من الأمر، واستشكل قوله:"أمرهم بأربع" مع أن المذكورات خمس.

وأجاب القرطبي بان أول الأربع المأمور بها إقام الصلاة، وإنما ذكر الشهادتين تبركًا بهما، كما قيل في قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} ونحى الطيبي إلى هذا، فقال: عادة البلغاء أن الكلام إذا كان مسوقًا لغرض جعلوا سياقه له، وطرحوا ما عداه، وهنا لم يكن الغرض في الإيراد ذكر الشهادتين، لأن القوم كانوا مؤمنين مقرين بكلمتي الشهادة، ولكن ربما كانوا يظنون أن الإيمان مقصور عليهما كما كان الأمر في صدر الإِسلام، فلهذا لم يعد الشهادتين في الأوامر.

وعورض هذا بما وقع في رواية حماد بن زيد عن أبي جَمْرة عند المصنف في المغازي: "آمركم بأربع الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلَاّ الله" وعقد واحدة وهو يدل على أن الشهادة إحدى الأربع. وعنده في أوائل المواقيت في رواية عباد بن عباد: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله" ثم فسرها لهم شهادة أن لا إله إلَاّ الله، وأن محمدًا رسول الله، وهذا أيضًا يدل على أنه عد الشهادتين من الأربع، لأنه أعاد الضمير في قوله: ثم فسرها مؤنثًا، فيعود على الأربع، ولو أراد تفسير الإيمان لأعاده مذكرًا.

وأجاب القاضي عياض تبعًا لابن بطّال بأن الأربع ما عدا أداء الخمس، قال: كأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان، وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع منهم جهاد، لأنهم كانوا بصدد محاربة كفار مضر، ولم يقصد ذكرها بعينها، لأنها مسببة عن الجهاد، ولم يكن الجهاد إذ ذاك فرض عين.

وأجاب ابن الصلاح وغيره بأن قوله: "وأن تُعطوا" معطوف على قوله:

ص: 407

"بأربع"، أي: آمركم بأربع، وبأن تُعطوا، ويدل عليه العدول عن سياق الأربع، والإتيان بأن والفعل مع توجه الخطاب لهم.

قال الأبىّ: وهذا أتم جواب في المسألة، لأن به تتفق الطريقان، ويرتفع الإشكال.

قال ابن التين موجهًا له: لا تمتنع الزيادة إذا حصل الوفاء بوعد الأربعة، لكن يرد على هذا الجواب أن المصنف ترجم بأن أداء الخمس من الإيمان، وذلك يقتضي إدخاله مع باقي الخصال في تفسير الإيمان، والتقرير المذكور يخالفه.

وأجيب عن هذا بما مر في الترجمة، من أن المطابقة حاصلة من جهة أخرى، وهي أتهم سألوا عن الأعمال

إلخ ما مر قريبًا.

وأجيب أيضًا بأنه عد الصلاة والزكاة واحدة، لأنها قرينتها في كتاب الله تعالى، وتكون الرابعة أداء الخمس، أو أنه لم يعد أداء الخمس لأنه داخل في عموم الزكاة، والجامع بينهما أنهما إخراج مال معين في حال دون حال.

وقال البيضاوي: إن الأمور الخمسة المذكورة هنا تفسير للإيمان، وهو أحد الأربعة الموعود بذكرها، والثلاثة الآخر حذفها الراوي اختصارًا أو نسيانًا.

قال في "الفتح": وهذا غير ظاهر، والظاهر من السياق أن الشهادة أحد الأربع، لقوله فيما مر: وعقد واحدة. قال: وكان القاضي أراد أن يرفع الإشكال من كون الإيمان واحدًا، والموعود بذكره أربعًا، وأجيب عن ذلك بأنه باعتبار أجزائه المفصلة أربع، وهو في حد ذاته واحد، والمعنى أنه اسم جامع للخصال الأربع التي ذكر أنه يأمرهم بها، ثم فسرها، فهو واحد بالنوع، متعدد بحسب وظائفه، كما أن المنهي عنه وهو الانتباذ فيما يسرع إليه الإسكار واحد بالنوع، متعدد بحسب أوعيته، والحكمة في الإجمال بالعدد قبل التفسير أن تتشوف النفس إلى التفصيل،

ص: 408

ثم تسكن إليه، وأن يحصل حفظها للسامع، فإذا نسي شيئًا من تفاصيلها، طلب نفسه بالعدد، فإذا لم يستوف العدد الذي في حفظه، علم أنه قد فاته بعض ما سمع.

قلت: قوله: قال: "أتدرون ما الإيمان بالله وحده .. الخ" يفهم منه صريحًا أن الإيمان بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم داخل في الإيمان بالله وحده، ليس شيئًا زائدًا على الإيمان به تعالى، وهذا فيه من غاية تعظيمه عليه الصلاة والسلام ما يُدهش العقول، حيث إن الله تعالى جعل الإيمان به عليه الصلاة والسلام إيمانًا به تعالى وحده، لا مزيد فيه من جهته صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا فيه من التنويه ما ليس في قوله:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وقد مر في حديث: "بُني الإِسلام على خمس" أول الكتاب الكلام مستوفى على معنى الإيمان والشهادة، ومعنى إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان.

ولم يذكر الحج في الحديث، واختلف في سبب عدم ذكره، فقيل: لأنه لم يكن فوض، وهذا هو المعتمد بناء على تقدم اسلامهم، فإن فوض الحج كان في سنة ست على الأصح وجعل القاضي عياض فوضه سنة تسع، وقدوم الوفد سنة ثمان قبل فوضه، وقيل: إنما لم يذكره لهم لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد اعلامهم بجميع الأحكام التي تجب عليهم فعلًا وتركًا، ويدل على هذا اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية، مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ، لكن اقتصر عليها لكثرة تعاطيهم لها، وأما قول من قال: إنه ترك ذكره لكونه على التراخي، فليس بجيد، لأن كونه على التراخي لا يمنع من الأمر به، وكذا قول من قال: إنه تركه لشهرته عندهم ليس بقوي، لأنه عند غيرهم ممن ذكره لهم أشهر منه عندهم، وكذا قول من قال: انه ترك ذكره لأنهم لم يكن لهم سبيل إليه من أجل كفار مضر ليس بمستقيم، لأنه لا يلزم من عدم الاستطاعة في الحال ترك الإخبار به ليُعمل به عند الإمكان كما في الآية،

ص: 409

بل دعوى أنهم كانوا لا سبيل لهم إلى الحج ممنوعة، لأن الحج يقع في الأشهر الحرم، وقد ذكروا أنهم كانوا يأمنون فيها.

ووقع في كتاب الصيام من "السنن الكبرى" للبيهقي من طريق أبي قلابة الرَّقاشىِ، عن أبي زيد الهَرَوي، عن قُرّة في هذا الحديث زيادة ذكر الحج، ولفظه:"وتحجوا البيت الحرام" وهذه رواية شاذة، وقد أخرجه الشيخان، ومن استخرج عليهما، والنسائي، وابن خُزَيْمة، وابن حبّان من طريق قُرة، لم يذكر أحد منهم الحج، وأبو قِلابة تغير حفظه في آخر عمره، فلعل هذا مما حدث به في التغير، وعلى تقدير أن يكون ذكر الحج فيه محفوظًا، فالجواب عنه أن يقال: المراد بالأربع ما عدا الشهادتين وأداء الخمس، واعلم أن عدم ذكر الحج إنما هو بالنسبة لرواية أبي جمرة، وإلا فقد ورد ذكره في "مسند" الإِمام من رواية أبان العطار، عن سعيد ابن المُسَيِّب، وعن عكرمة عن ابن عباس في قصة وقد عبد القيس.

وقوله: "ونهاهم عن أربع عن الحنتم

الخ" إن كان المراد بقوله أولًا: وسألوه عن الأشربة، أي: عن ظروفها، فالجواب مطابق للسؤال، وإن كان المراد عن الأشربة نفسها، فالجواب هنا من إطلاق المحل وإرادة الحال، أي: ما في الحَنْتَم ليوافق السؤال، وصرح بالمراد في رواية النسائي، فقال: "وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الحنتم

الحديث".

والحَنْتَم: -بفتح المهملة، وسكون النون، وفتح المثناه الفوقية- هي الجرة مطلقًا، وتجمع على جرار، ككلبة وكلاب، أو الحنتم: الجرار الخضراء، أو هي جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم، أو الحنتم ما طلبي من الفخار بالحنتم المعمول بالزجاج وغيره.

وقوله: وعن الدُّبَّاء -هو بضم المهملة، وتشديد الموحدة، وبالمد- اليقطين، كان أهل الطائف يأخذون القرع، فيخرطون فيه العنب، ثم يدفنونه حتى يهدر، ثم يموت.

ص: 410

وقوله: "والنَّقِير" هو بفتح النون وكسر القاف، أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء، كان أهل اليمامة ينقرون أصل النخلة، ثم ينبذون الرطب والبسر، ثم يدعونه حتى يهدر، ثم يموت.

وقوله: "والمُزَفَّت" بالزاي والفاء ما طُلي بالزفت.

وقوله: "وربما قال: والمُقَيَّر" وهو بالقاف والياء الأخير ما طلبي بالقار، ويقال له: القير، وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت.

وقوله: "وأخبروا بهنَّ من وراءكم" مرَّ في قوله السابق: "من وراءنا" المراد به فراجعه.

ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع إليه فيها الإسكار، فربما شرب منها من لم يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كل وعاء، مع النهي عن شرب كل مسكر. ففي "صحيح" مسلم عن بُريدة:"كنت نهيتُكم عن الانتباذ إلا في الأسقية، فانتبذوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا".

وحاصل المسألة أن بعض العلماء أخذ بالرخصة العامة، فقال بالإباحة مطلقًا لحديث بُريدة هذا، وحديث الأشَجّ العَصَريّ السابق:"إن الظروف لا تُحِلُّ ولا تحرم، ولكن كل مسكر حرام".

قال الخطابي: ذهب الجمهور إلى أن النهي إنما كان أولًا، ثم نسخ، وعلى هذا سائر الكوفيين، وعن أحمد روايتان.

وقال ابن بطّال: النهي عن الأوعية إنما كان قطعًا للذريعة، فلما قالوا: لا نجد بدًّا من الانتباذ في الأوعية، قال: انتبذوا وكل مسكر حرام، وهكذا الحكم في كل شيء نهى عنه بمعنى النظر إلى غيره، فإنه يسقط للضرورة، كالنهي عن الجلوس في الطرقات، فلما قالوا: لابد لنا منها، قال:"فأعطوا الطريق حقَّها".

ص: 411