الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث العشرون
27 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى رَهْطًا -وَسَعْدٌ جَالِسٌ- فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً هُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا. فَسَكَتُّ قَلِيلاً. ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلَانٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَرَاهُ مُؤْمِنًا فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا. فسكت قليلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَعُدْتُ لِمَقَالَتِي وَعَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: «يَا سَعْدُ إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ» .
قوله: "أعطى رَهْطًا" الرهط العدد من الرجال لا امرأة فيهم، من ثلاثة إلى عشرة، وربما جاوز ذلك قليلًا، ولا واحد له من لفظه، وجمعه: أرهُط وأراهِط وأراهِيط وأرْهاط، ورهط الرجل بنو أبيه الأدنى، وقيل: قبيلته، وعند الإِسماعيلي أنه "جاءهُ رهْطٌ، فسألوه، فأعطاهم وترك رجلًا، وإنّما أعطاهم لِيَتألَّفَهم لضَعْف إيمانهم".
وقوله: "وسعدٌ جالسٌ" جملة اسمية حالية، ولم يقل: وأنا جالس كما هو الأصل، بل جرَّد من نفسه شخصًا، وأخبر عنه بالجلوس، أو هو من باب التعبير بخلاف مُقتضى الظاهر، إذ المَقام مقام التكلم، وعدل عنه إلى الغَيْبة، ويسميه صاحب "المفتاح" التفاتًا، ولفظه في
الزكاة: "أعطى رجلًا وأنا جالسٌ" فساقه بلا تجريد ولا التفات، وزاد فيه:"فقُمتُ إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فسارَرْتُه" وغَفَل بعضهم، فعزا هذه الزيادة إلى مسلم فقط.
وقوله: "فتركَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجلًا" أي: سأله أيضًا مع كونه أحبَّ إليه ممن أعطى، وهو جُعَيْل، ويأتي تعريفه في آخر السند.
وقوله: "هو أعجبهم إلي" أي: أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي، والجملة في محل نصب صفة لرجلًا، وفي قوله:"إليّ" التفات من الغَيْبة إلى التكلم.
وقوله: "مالَكَ عن فلانٍ؟ " أي: أي سبب لعُدولِك عنه إلى غيره، ولفظ فلان كناية عن اسم أُبْهم بعد أن ذُكر.
وقوله: "فوالله" فيه القسم في الإِخبار على سبيل التأكيد.
وقوله: "لأراه مؤمنًا" فيه فتح الهمزة ومعناه أعلم، وضم الهمزة ومعناه أظنه. وجَزَم القُرْطُبيّ بالضم قائلا: إنه هو الرواية. ومنعه النّوويّ محتجًّا بقوله الآتي: "ثم غلبني ما أعلم منه" ولأنه راجع النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا، فلو لم يكن جازمًا باعتقاده لما كرر المراجعة، وتُعُقِّب بأنه لا دلالة فيه على تَعَيُّن الفتح لجواز إطلاق العلم على الظن الغالب نحو قوله تعالى:{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] أي: العلم الذي يمكنكم تحصيله، وهو الظن الغالب بظهور الأمارات، وإنما سمي علمًا إيذانًا بأنه كالعلم في وجوب العمل. وقال العَيْني: إن قسم سعد وتأكيد كلامه بأن واللام ومراجعته للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتكرار نسبة العلم إليه يدُلُّ على أنه كان جازمًا باعتقاده، وإنما كانت همزة أراه بمعنى الظن، مضمومة وبمعنى العلم مفتوحة لغلبة استعمال التي بالضم في معنى الظن، فلم ينطِقوا في أرأيت بمعنى أظننت، وفي مضارعها بالمبني
للفاعل كما لم ينطقوا بأظَنَنت التي أُريتَ بمعناها، وأصل أُرى يريني الله، فعُمِل فيه العمل المشهور من ضم أوله وفتح ما قبل آخره وحذف الفاعل، وزيد على ذلك هنا إبدال الياء همزة للاحتياج إلى ذلك، لأنه لما حذف الفاعل وأنيب المفعول به لزم إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم، ولا يسند له إلا المبدوء بالهمزة، فحذفت الياء، وأُتي بالهمزة عوضَها.
وقوله: "فقال: أو مسلمًا" أي: بسكون الواو فقط، فقيل: هي للتنويع، وقيل: للتشريك، وإنه أمره أن يقولهما معًا لأنه أحوط، ويَرُدُّ هَذا رواية ابن الأعْرابي في "معجمه" في هذا الحديث فقال:"لا تَقُل: مؤمنٌ بل مسلمٌ" فوضح أنها للإِضراب، وليس معناه إنكار أن الرجل مؤمنٌ، بل معناه النهي عن القطع بإيمان من لم يُخْتَبَر حاله الخبرة الباطنة، لأن الباطن لا يَطَّلع عليه إلا الله، فالأولى التعبير بالإِسلام الظاهر، بل في الحديث إشارة إلى إيمان المذكور، وهي قوله:"لأعطي الرجل وغيرُهُ أحبَّ إليّ منه" وقوله: "ثمَّ غلبني ما أعلم منه، فعُدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم" وليس في رواية الكُشْمِيهَنِيّ إعادة السؤال ثانيًا، ولا الجواب عنه.
وقوله: "إني لأُعطي الرجل وغيرُهُ أحب إلي منه" أي: أعجب إليّ منه، وهو جملة حالية "خشية أن يَكُبَّه الله في النار" لكفره إما بارتداده إن لم يُعْطَ، أو لكونه يَنْسُبُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى البخل، وأما من قوي إيمانه فهو أحب إليّ فأكلُهُ إلى إيمانه، ولا أخشى عليه رجوعًا عن دينه، ولا سوءًا في اعتقاده.
وقوله: "يَكُبّه الله" هو بفتح أوله وضم الكاف، يقال: أكَبَّ الرجل إذا أطرق، وكَبَّه غيره إذا قلبه، وهذا على خلاف القياس، لأن الفعل اللازم يتعدى بالهمزة، وهذا زيدت فيه الهمزة فَقَصُر، وجاء نظير هذا في أحرف يسيرة منها: أنْسَلَ ريشُ الطائر ونَسَلْتُه، وأنْزفَتِ البئرُ ونَزَفتها، وأمْرَت الناقةُ: درت، ومَرَيْتُها، وأشْبق البعير: رفع رأسه، وشَبَقته،
وأقشع الغيمُ، وقَشَعَتْه الريح، وفي هذا اللفظ كناية، فإن الكَبَّ في النار لازم الكفر، فأُطلق اللازم واريد الملزوم الذي هو الكفر.
ومحصل القصة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يُوسع العطاء لمَن أظهر الإِسلام تألفًا، فلما أعطى الرّهْط وهم من المُؤلَّفَة، وترك جُعَيْلًا وهو من المهاجرين، مع أن الجميع سألوه، خاطبه سعد في أمره لأنه كان يرى أن جعيلًا أحق منهم لما اختبره منه دونهم، ولهذا راجع أكثر من مرة، فأرشده النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أمرين: أحدهما: إعلامه بالحكمة في إعطاء أولئك وحرمان جُعَيل، مع كونه أحب إليه ممن أعطى، لأنه لو ترك إعطاء المؤلف لم يُؤمن ارتداده فيكون من أهل النار. ثانيهما: إِرشاده إلى التوقف عن الثناء بالأمر الباطن دون الثناء بالأمر الظاهر، فَوَضحَ بهذا فائدة رَدِّ الرسول عليه الصلاة والسلام على سعد، وأنه لا يستلزم محض الإِنكار عليه، بل كان أحد الجوابين على طريق المشورة بالأوْلى أي: الإشارة، والآخر على طريق الاعتذار.
فإن قيل: كيف لم تُقْبل شهادة سعد لجُعيل بالإِيمان، ولو شَهِد له بالعدالة لقُبل منه وهي تستلزم الإِيمان؟ فالجواب أن كلام سعد لم يَخْرُج مخرج الشهادة، وإنما خرج مخرج المدح له، والتوسل في الطلب لأجله، فلهذا نوقِشَ في لفظه، حتى ولو كان بلفظ الشهادة لما استلزمت المشورة عليه بالأمر الأوْلى رد شهادته، بل السياق يرشِدُ إلى أنه قَبِل قوله فيه، بدليل أنه اعتذر إليه، ويأتي في تعريفه قريبًا حديث أبي ذَرٍّ المصرح فيه بفضله.
وفي حديث الباب من الفوائد التفرقة بين حقيقتي الإِيمان والإِسلام، وترك القطع بالإِيمان الكامل لمن لم يُنَصَّ عليه، وأما منع القطع بالجنة فلا يؤخذ من هذا صريحًا، وإن تعرض له بعض الشارحين، نعم هو كذلك فيمن لم يَثْبُت فيه النص كالعشرة، وفيه الرد على غُلاة المرجئة في اكتفائهم في الإِيمان بِنُطْق اللسان، وفيه جواز تصرف الإِمام في مال