الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والثلاثون
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِى سُهَيْلِ ابْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ يُسْمَعُ دَوِىُّ صَوْتِهِ وَلَا نفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ "لَا إِلَاّ أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "وَصِيَامُ رَمَضَانَ". قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ "لَا، إِلَاّ أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ. قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ "لَا، إِلَاّ أَنْ تَطَوَّعَ". قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أَنْقُصُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ".
قوله: "جاءَ رجل" هذا الرجل قيل: هو ضِمام بن ثعلبة، وقيل: غيره، ولم يسم، وضِمام يأتي تعريفه في الحديث الخامس من العلم. وقوله:"ثائر الرأس" مرفوع، صفة لرجل، أو منصوب على الحال، ولا تضر إضافته لأنها لفظية، أي: متفرق شعر الرأس من عدم الرفاهية لقرب عهده بالوفادة، فحذف المضاف الذي هو الشعر للقرينة العقلية، أو أطلق اسم الرأَس على الشعر، إما لكونه نبت منه، كما يطلق اسم السماء على المطر، وإما مبالغة بجعل الرأس كأنها المُنتفشة على حد:{وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] ونَجْد بفتح النون وسكون الجيم ما ارتفع من تِهامة إلى أرض العراق، وهو ما بين جُرَش وسواد الكوفة، وحدُّه من الغرب الحجاز.
وقوله: "نسمعُ دويَّ صوته ولا نفقه ما يقول" بالنون في نسمع ونفقه، ونصب دوي وما الموصولة على المفعولية، وروي يسمع ويفقه بالياء
التحتانية مبنيّان لما لم يُسمَّ فاعله، ودويّ وما نائبان، والدوي بفتح الدال وكسر الواو وتشديد الياء هو شدة الصوت وبعدُه في الهواء، فلا يُفهم منه شيء، وحكي فيه ضم الدال، والصواب الفتح.
وقوله: "فإذا هو يسأل عن الإِسلام" أي: عن شرائعه، ويحتمل أنه سأل عن حقيقة الإِسلام، وإنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها، أو علم أنه إنما يسأل عن الشرائع الفعلية، أو ذكرها ولم ينقلها الراوي لشهرتها، وإنما لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض بعد، أو الراوي اختصره، ويؤيد هذا الثاني ما أخرجه المصنف في كتاب الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر في هذا الحديث، قال: فأخبره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشرائع الإِسلام، فدخَّل فيه باقي المفروضات بل والمندوبات.
وقوله: "خمس صلوات في اليوم والليلة" خمس بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: هو خمس، أو منصوب بخُذْ مقدر، ويجوز الجر بدلًا من الإِسلام، وفي رواية إسماعيل بن جعفر المذكورة أنه قال في سؤاله: أخْبِرْني ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ فقال: "الصلوات الخمس"، فتبين بهذا مطابقة الجواب للسؤال، ويستفاد من سياق مالك أنه لا يجب شيء من الصلوات في كل يوم وليلة غير الخمس، خلافًا لمن أوجب الوتر، أو ركعتي الفجر، أو صلاة الضحى، أو صلاة العيد، أو الركعتين بعد المغرب.
وقوله: "هل على غيرها؟ " مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، وقوله قال:"لا إلَاّ أن تَطَّوَّعَ" تطوع بتشديد الطاء والواو، أصله تتطوع بتاءين، فأدغمت إحداهما، ويجوز تخفيف الطاء على حذف إحداهما، واستدل بهذا على أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه تمسكًا بالأصل من أن الاستثناء متصل، وبه قالت المالكية والحنفية، وقرر القرطبي من المالكية وجه الاتصال بأنه في الحديث نفي وجوب شيء آخر إلا ما تُطُوعَ به، والاستثناء من النفي إثبات، ولا قائل بوجوب التطوع، فتعين أن يكون المراد إلا أن
تَشْرع في تطوع، فيلزمك إتمامه، واستدلوا من خارج بقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وبأنهم اتفقوا على أن حج التطوع يلزم بالشروع، وبما أخرجه أحمد في "مسنده" من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أصبحتُ أنا وحفصةُ صائمتين، فأُهديت لنا شاةٌ، فأكلنا فدخل علينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأخبرناه، فقال:"صوما يومًا مكانه" والأمر للوجوب، فدل على أن الشروع ملزم، وبما رواه الدّارقطني عن أم سَلَمة أنها صامت يومًا تطوعًا، فأفطرت، فأمرها النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم أن تقضي يومًا مكانه.
وقالت الشافعية: إن التطوع لا يجب بالدخول فيه، لكن يستحب إتمامه، وجعلوا الاستثناء في هذا الحديث منقطعًا، قائلين: إن الاستثناء فيه من غير الجنس؛ لأن التطوع لا يقال فيه عليك، فكأنه قال: لا يجب عليك شيءٍ، لكن إن أردت أن تطَّوّع فذلك لك، واستدلوا على انقطاعه بما رواه النَّسائي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان أحيانًا ينوي صومَ التطوع، ثم يُفطر. وفي "البخاري" أنه أمر جُوَيرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شَرعَت فيه. قالوا: فدل على أن الشروع في العبادة لا يَسْتلزم الإتمام إذا كانت نافلة بهذا النص في الصوم، وبالقياس في الباقي، وأجابوا عن وجوب الحج بالشروع فيه بأنه امتاز عن غيره بلزوم المُضِيِّ في فاسده، فكيف في صحيحه؟! وكذلك امتاز بلزوم الكفارة في نفله كفرضه.
وأجاب الأوَّلون عن حديث النسائي بأنه لا يدُلُّ على أنه عليه الصلاة والسلام ترك القضاء بعد الإفطار، وإفطاره قد يكون لعذرٍ، وعن حديث جُويرية بأنها صامت تطوعًا بغير إذن الزوج، والزوج له إفطار الزوجة إذا صامت صوم تطوع بغير إذنه، أو صوم قضاء مع سَعَة الزمان، ولكن استدلال الحنفية باتصال الاستثناء في هذا الحديث فيه نظر، لأنهم لا يقولون بفرضية الإتمام بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطعٌ لتباينهما عندهم، ولأن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات، بل
مسكوتٌ عنه، والواجب من النفل بالشروع عند المالكية محصورٌ في قول القائل:
صلاةٌ وصومٌ ثم حجٌّ وعمرةٌ
…
طوافٌ عُكوفٌ بالدُّخول تَحتَّما
وفي غيرِها كالوَقْف والطُّهْر خَيِّرنْ
…
فمَنْ شاءَ فَلْيقْطَعْ ومن شاء تمّما
قوله: "وذكرَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الزكاة" في رواية إسماعيل بن جَعْفر: "قال: أخبرني بما فرض الله علي من الزكاة، قال: فأخبره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشرائع الإِسلام" فتضمنت هذه الرواية أن في القصة أشياء أُجملت منها بيان نُصُب الزكاة، فإنها لم تُفَسر في الروايتين، وكذا أسماء الصلوات، وكأن السبب فيه شهرة ذلك عندهم، أو القصد بيان أن المتمسك بالفرائض ناجٍ وإن لم يفعل النوافل.
وقوله: "والله" في رواية إسماعيل بن جعفر: "فقال: والذي أكرَمَك".
وقوله: "لا أزيدُ على هذا ولا أنْقُص" قيل: معناه: قبلت كلامك قبولًا لا مزيد عليه من جهة السؤال، ولا نقصان فيه من طريق القبول، أو: لا أزيد على ما سمعت ولا أنْقُصُ منه عند الإبلاغ؛ لأنه كان وافد قومه ليتعلم ويعلمهم، لكن يُعكر عليهما رواية إسماعيل بن جعفر حيث قال:"لا أتطوعُ شيئًا ولا أنقُصُ ممّا فرض الله على شيئًا" أو المراد لا أغير صفة الفرض، كمن ينْقُص الظهر مثلًا ركعة، أو يزيد المغرب.
وقوله: "أفلح إن صدقَ" في رواية إسماعيل بن جعفر عند مسلم: "أفلح وأبيه إن صدق أو دخل الجنة وأبيه إن صدق"، ولأبي داود مثله، لكن بحذف أو، فإن قيل: ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب بأن ذلك كان قبل النهي، أو بأنها كلمة جارية على اللسان، لا يقصد بها الحلف كما جرى على لسانهم: عَقْرَى حَلْقَى وما أشبه ذلك، وهذان هما أقوى الأجوبة. وقيل: فيه إضمار اسم الرب، كأنه