المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أخرجه البُخاري هنا، وفي الإِيمان أيضًا عن أبي هُريرة، وفي - كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري - جـ ٢

[محمد الخضر الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب قول النبي صلى الله عليه وسلم أنا أعلمكم بالله وأن المعرفة فعل القلب لقول الله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}

- ‌الحديث الثالث عشر

- ‌وفي هذا الحديث فوائد:

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب من كره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار من الإِيمان

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌رجاله أربعة:

- ‌باب تفاضل أهل الإِيمان في الأعمال

- ‌الحديث الخامس عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث السادس عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌بابٌ: الحياء من الإِيمان

- ‌الحديث السابع عشر

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم

- ‌الحديث الثامن عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌باب

- ‌الحديث التاسع عشر

- ‌رجاله ستة:

- ‌باب إذا لم يكن الإِسلام على الحقيقة وكان على الاستسلام أو الخوف من القتل لقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فإذا كان على الحقيقة فهو على قوله جل ذكره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} ومن يبتغ غير الإِسلام دينًا فلن يقبل منه

- ‌الحديث العشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب السلام من الإِسلام

- ‌الحديث الحادي والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب كُفران العشير وكفر دون كفر فيه أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الحديث الثاني والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌بابٌ المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك

- ‌الحديث الثالث والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] فسماهم المؤمنين

- ‌الحديث الرابع والعشر ون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌باب ظلم دون ظلم

- ‌الحديث الخامس والعشرون

- ‌رجاله ثمانية:

- ‌باب علامات المنافق

- ‌الحديث السادس والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث السابع والعشرون

- ‌رجاله ستة:

- ‌بابٌ قيام ليلة القدر من الإِيمان

- ‌الحديث الثامن والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب الجهاد من الإِيمان

- ‌الحديث التاسع والعشرون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب تطوع قيام رمضان من الإِيمان

- ‌الحديث الثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب صوم رمضان احتسابًا من الإِيمان

- ‌الحديث الحادي والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌بابٌ الدينُ يُسْرٌ

- ‌الحديث الثاني والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب الصلاة من الإِيمان

- ‌الحديث الثالث والثلاثون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌باب حسن إسلام المرء

- ‌الحديث الرابع والثلاثون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب أحب الدين إلى الله أدْوَمُهُ

- ‌الحديث السادس والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث السابع والثلاثون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون

- ‌رجاله ستة:

- ‌باب الزكاة من الإِسلام وقوله {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}

- ‌الحديث التاسع والثلاثون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب اتِّباعُ الجنائز من الإِيمان

- ‌الحديث الأربعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب: خوف المؤمن من أن يحبطَ عملُه وهو لا يشعر

- ‌الحديث الحادي والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌الحديث الثاني والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإِسلام والإحسان وعلم الساعة

- ‌الحديث الثالث والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الرابع والأربعون

- ‌رجاله سبعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب فضل من استبرأ لدينه

- ‌الحديث الخامس والأربعون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب أداء الخمس من الإِيمان

- ‌الحديث السادس والاربعون

- ‌رجاله أربعة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرىء ما نوى

- ‌الحديث السابع والأربعون

- ‌رجاله ستة:

- ‌الحديث الثامن والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث التاسع والأربعون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌باب قول النبى صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة لله ولرسوله

- ‌الحديث الخمسون

- ‌رجاله خمسة:

- ‌لطائف إسناده:

- ‌الحديث الحادي والخمسون

- ‌لطائف إسناده:

- ‌خَاتِمَة

الفصل: أخرجه البُخاري هنا، وفي الإِيمان أيضًا عن أبي هُريرة، وفي

أخرجه البُخاري هنا، وفي الإِيمان أيضًا عن أبي هُريرة، وفي الصلاة من حديث أنس، ومسلم من حديث جابر ثم قال المؤلف.

‌باب

من قال أن الإِيمان هو العمل لقول الله تعالى. {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عن لا إله إلا الله وقال {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} .

باب مضاف حتمًا، مطابقة الآية والحديث لما ترجم له بالاستدلال بالمجموع على المجموع، لأن كل واحد منها دال بمفرده على بعض الدعوى، فقوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} عام في الأعمال، وقد نقل جماعة من المفسرين أنَ قوله تعالى:{تَعْمَلُونَ} معناه تؤمنون فيكون خاصًا. وقوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 93] خاص بعمل اللسان على ما نقل المؤلف، وقوله:{فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] عام أيضًا. وقوله في الحديث: "إيمان بالله" في جواب: أي العمل أفضل؟ دال على أن الاعتقاد والنُّطق من جملة الأعمال، فإن قيل: الحديث يدل على أن الجهاد والحج ليسا من الإِيمان لما تقتضيه ثَمَّ من المغايرة والترتيب، فالجواب: أن المراد بالإِيمان هنا التصديق، هذه حقيقته، والإِيمان يُطْلق على الأعمال البدنية لأنها من مكملاته.

وقوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} أي: صُيِّرت لكم إرثًا، فأطلق الإِرْث مجازًا على الإِعطاء لتحقق الاستحقاق، أو الموروث الكافر، وكان له نصيب منها، ولكن كفره منعه، فانتقل منه إلى المؤمن. وقال البيضَاوي: شبه جزاء العمل بالميراث، لأنه يَخْلُفُه عليه العامل، والإِشارة إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70] وتلك مبتدأ خبره الجنة.

وقوله: {الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا} صفة الجنة، أو الجنة صفة للمبتدأ الذي

ص: 61

هو تلك، والتي أُورثتُموها صفة أخرى، والخبر قوله:{بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تؤمنون، وما مصدرية، أي: بعملكم، أو موصولة محذوفة العائد، أي: بالذي كنتم تعملونه، والباء للملابسة، أي: أورثتموها ملابسةً لأعمالكم، أي: لثواب أعمالكم، أو للمقابلة، وهي التي تدخل على الأعواض كاشتريت بألف.

ولا تنافي بين الآية وحديث: "لن يدخلَ أحدٌ الجنةَ بعمله" المخرج في "الصحيحين" لأن المثبت في الآية الدخول بالعمل المقبول، والمُنتفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عنه، والقَبول إنما هو من رحمة الله تعالى، فآل ذلك إلى أنه لم يقع الدخول إلا برحمته.

وقال ابن بَطّال في الجمع بين الآية والحديث ما محصله: أنْ تُحمل الآية على أن الجنة تُنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن يُحْمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها، ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى:{سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فصرح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال، ومثل الآية في الإِيراد ما رواه الدَّارَقُطْنيّ عن أبي أُمامة أنه عليه الصلاة والسلام قال:"نعم الرَّجُلُ أنا لشرارِ أمتي" فقالوا: فكيف أنت لخيارها؟ فقال: "أما خيارُها فيدخلون الجنة بأعمالهم، وأما شِرارها فيدخلون الجنة بشفاعتي" وأجاب عن الآية بما هو جواب عن الحديث أيضًا، بأنه لفظٌ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول، ثم قال: ويجُوز أن يكون الحديث مفسرًا للآية والتقدير: ادخُلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله وتفَضُّلِه عليكم، لأن اقتسام منازل الجنة برحمة الله، وكذا أصل دخول الجنة هو برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضل عليهم ابتداءً بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم.

ص: 62

وقال عِياض: طريق الجمع أن الحديث فَسّر ما أُجْمل في الآية، فذكر نحوًا من كلام ابن بَطّال الأخير، وأن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله، وإنما هو بفضل الله ورحمته.

وقال ابن الجَوْزيَ. يتحصل عن ذلك أربعة أجوبة: الأول أن التوفيق للعمل عن رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإِيمان ولا الطاعة التي يحصُلُ بها النجاة، الثاني: أن منافع العبد لسيده، فعمله مستحق لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله. الثالث: جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال. الرابع: أن أعمال الطاعات كانت في زمن يسير، والثواب لا يَنْفَد، فالإِنعام الذي لا يَنْفد في جزاء ما يَنْفَد بالفضل لا بمقابلة الأعمال.

وجزم ابن هشام في "المغني" بأن الباء ترد للمقابلة، وهي الداخلة على الأعواض، كاشتريته بألف، ومنه ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، وإنما لم تقدر هنا للسببية كما قالت المعتزلة، وكما قال الجميع في "لَن يدخل أحدُكُم الجنة بعملِه" لأن المُعطى بعوضٍ قد يُعطى مجانًا، بخلاف المسبب، فلا يوجد بدون السبب، قال: وعلى ذلك ينتفي التعارض بين الآية والحديث.

وجزم النّووي بأن ظاهر الآية أن دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث بأن التوفيق للأعمال والهداية للإِخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل وهو من رحمة الله تعالى، ورد الكِرماني الأخير بأنه خلاف صريح الحديث.

قال المازَرِيّ: ذهب أهل السنة إلى أن إثابة الله تعالى مَنْ أطاعه بفضل منه، وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدلٍ منه، ولا يثبُتُ واحد منهما إلا بالسمع، وله سبحانه وتعالى أن يُعَذِّب الطائع ويُنَعِّم العاصي، ولكنه

ص: 63

أخبر أنه لا يفعل ذلك، وخبره صدق لا خلاف فيه، وهذا الحديث يُقوّي مذهبهم، ويرد على المعتزلة حيث أثبتوا بعقولهم أعواض الأعمال، ولهم في ذلك خَبْط كثير.

وقال بعض العلماء: لا تنافيَ بين ما في الآية والحديث، لأن الباء التي أثبَتَتِ الدخول هي باء السبب التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلًا بحصوله، والباء التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلًا للآخر، نحو اشتريت منه بكذا، فأخبر أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة، لأن العمل بمجرده ولو تناهى لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا يكون عوضًا لها، لأنه لو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمةَ الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة، فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من التشكر على تلك النعمة بقية لم يَقُم بها، فلذلك لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا من أعمالهم كما في حديث أُبيّ بن كَعْب عند أبي داود وابن ماجه، وهذا فصلُ الخطاب مع الجبرية النفاة للحكمة والتعليل، القائلين: إن القيام للعبادة ليس إلا لمجرد الأمر، من غير أن يكون سببًا للسعادة في معاشٍ ولا معاد ولا للنجاة، المعتقدين أن النار ليست سببًا للإِحراق، وأن الماء ليس سببا للإِرواء ولا التبريد، والقدرية الذين ينفون نوعًا من الحكمة والتعليل، القائلين: إن العبادات شُرِعت أثمانًا لما يناله العبد من الثواب والنعيم، وإنما هو بمنزلة استيفاء الأجير أجرته، مُحْتَجِّين بأن الله تعالى جعلها عوضًا عن العمل، كما في قوله تعالى:{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وبقوله عليه الصلاة والسلام مخبرًا عن ربه تعالى: "يا عبادي إنما هي أعمالكم، أُحصيها لكم، ثم أفيكم إياها" وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطًا بالجزاء البتَّة، والقدرية جعلت ذلك بمحض الأعمال ثمنًا لها، والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم

ص: 64

الذي فطر الله عليه عباده، وجاءت به رسله، ونزلت به كتبه، وهو أن الأعمال أسبابٌ موصلةٌ إلى الثواب والعقاب مقتضياتٌ لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله تعالى ومنته وصدقته على عبده أن أعانه عليها ووفقه لها وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحببها إليه وزينها في قلبه، وكره إليه أضدادها، ومع هذا فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرًا له أن قبلها سبحانه منه، ولهذا نفى عليه الصلاة والسلام دخول الجنة بالعمل ردًّا على القدرية القائلين: إن الجزاء بمحض الأعمال وثمنًا لها، وأثبت سبحانه وتعالى دخول الجنة بالعمل ردًّا على الجبرية الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطًا بالجزاء، فتبين أن لا تنافي بينهما، إذ تواردُ النفي والإِثبات ليس على معنى واحد، فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال وكون الأعمال ثمنًا لها وعوضًا ردًّا على القدرية، والمثبت الدخول بسبب العمل ردًّا على الجبرية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فالتعارض إنما هو من جهة أنه كثيرًا ما تجيء السنة ببيان الحقيقة، ويأتي القرآن بإضافة الفعل إلى سببه ومكتسبه، والحاصل أنه كلّما نُفِيَ في الكتاب أو السنة الحكم عن السبب، فالمراد من ذلك النفي الرد على القدرية الملزمين وجود الثواب والعقاب به، وكُلّما ورد فيهما إثبات الحكم للسبب. فالمراد من ذلك الإِثبات الرد على الجبرية الذين لم يجعلوا بين الأسباب والمتسببات ارتباطًا البتة، وهذه فائدة عظيمة لأهل السنة، ويأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام على هذا الحديث عند ذكره في كتاب الرقاق في باب القصد والمداومة على العمل.

وقوله: "وقال عِدَّةٌ من أهل العلم" أي -بكسر العين وتشديد الدال- أي: عدة من أهل العلم كأنس بن مالك فيما رواه الترمذي مرفوعًا بإسناد فيه ضَعْف وابن عُمر فيما رواه الطّبري في "تفسيره" والطبراني في "الدعاء" له، ومجاهد فيما رواه عبد الرزاق في "تفسيره"، وعبد الله بن عمر ومجاهد مرّا في الآثار المذكورة قبل ذكر حديث من هذا الكتاب، وأنس في السادس منه.

ص: 65

وقوله: "في قوله تعالى" في رواية الأصيلي وأبي الوقت: "عز وجل".

وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} [الحجر: 92] أي: المقتسمين جواب القسم مؤكد باللام.

وقوله: {أَجْمَعِينَ} تأكيد للضمير في لَنَسألَنَّهم مع الشمول في أفراد مخصوصين.

وقوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} عن لا إله إلا الله، في رواية عن قول لا إله إلا الله.

قال النووي: المعنى: لنسألنهم عن أعمالهم كلها التي يتعلق بها التكليف، فقول من خَصَّ بلفظ التوحيد دعوى تخصيص بلا دليل فلا تقبل.

قال في "الفتح" لتخصيصهم وجه من جهة التعميم في قوله: {أَجْمَعِينَ} بعدم تقدم ذكر الكفار والمؤمنين في قوله: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] فيدخل المسلم والكافر في العموم، لكن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف، بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف، فمن قال: إنهم مخاطبون، يقول: إنهم مسؤولون عن الأعمال كلها، ومن قال: إنهم غير مخاطبين، يقول: إنما يُسألون عن التوحيد فقط، فالسؤال عن التوحيد متفق عليه، وحمل الآية على المتفق عليه أولى من حملها على ما فيه اختلاف، فهذا هو دليل التخصيص، وقول العيني: إن التعميم ليس في قوله: {أَجْمَعِينَ} بل التعميم في قوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فتخصيص ذلك بالتوحيد تحكم غير ظاهر، فإن قوله:{عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 93] راجع لقوله: {أَجْمَعِينَ} فعمومه عموم له، فتأمل. ولا تنافي بين هذه الآية وبين قوله تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} لأن في القيامة مواقف مختلفة، وأزمنة متطاولة، ففي موقف وزمان يُسألون، وفي آخر لا يُسألون، أو لا يسألون سؤال استخبار بل سؤال توبيخ لمستحقه.

ص: 66

وقوله: "وقال" أي الله تعالى، وفي رواية سقوط وقال.

وقوله: {لِمِثْلِ هَذَا} [الصافات: 61] أي الفوز العظيم.

وقوله: {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] أي في الدنيا، والظاهر أن المصنف تأولها بما تأول به الآيتين المتقدمتين، أي: فليؤمن المؤمنون لذلك الفوز العظيم، لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، أو يُحمل العمل على عمومه، لأن من آمن لا بد أن يقبل، ومن قبل فمن حقه أن يعمل، ومن عمل لا بد أن ينال، فإذا وصل "قال لمثل هذا فليعمل العاملون" والقائل يحتمل أن يكون المؤمن الذي رأى قرينه، ويحتمل أن يكون كلامه انقضى عند قوله:{الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات: 60] والذي بعده ابتداءٌ من قول الله تعالى أو بعض الملائكة لا حكاية عن قول المؤمن، والاحتمالات مذكورة في التفسير، ولعل هذا هو السِّرُّ في إبهام المصنف القائل، فإن كان غرض البخاري من هذا الباب وغيره إثبات أن العمل من أجزاء الإِيمان ردًّا على من قال: إن العمل لا دخل له في ماهية الإِيمان، فهذا الغرض غير تام إذ لا يَخْفى أن العمل ليس من نفس الإِيمان، وإن كان مراده جواز إطلاق العمل على الإِيمان فلا نزاع فيه، لأن الإِيمان عمل القلب، وهو التصديق، وقد مرّ الكلام عليه مستوفى.

ص: 67