الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأربعون
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَنْجُوفِىُّ، قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا أو يَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ".
قوله: "من اتّبع" هو بالتشديد، وفي رواية الأصيلي تَبعَ بحذف الألف وكسر الموحدة، وقد تمسك بهذا اللفظ من قال إن المشي خلفها أفضل، وهو قول الأوْزاعيّ وأبي حنيفة ومن تبعهما، ولا حجة لهما فيه لأنه يقال: تبعه إذا مشى خلفه، أو إذا مر به فمشى معه، وكذلك اتّبعه بالتشديد وهو افتعل منه، فهو مقول بالاشتراك، وأما أتْبَعهُ بالإسكان فهو بمعنى لحقه إذا كان سبقه، ولم تأت به الرواية هنا، وتمسكوا أيضًا بما رواه سعيد بن منصور وغيره عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: المشي خلفها أفضل من المشي أمامها، كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفَذّ، وإسناده حسن، وهو موقوف له حكم الرفع، لكن حكى الأثْرم أن أحمد تكلم في إسناده، والجمهور على أن المشي أمامها أفضل، لأن مشيعها شفيع، والشفيع إنما يكون إمام المشفوع.
وأخرج أصحاب "السنن" من حديث ابن عُمر أنه يكون أمامها، ورجاله رجال الصحيح، إلا أنه اختُلف في وصله وإرساله، وصححه ابن حِبّان، لكن الشافعية لم يفرقوا بين أن يكون المشيع ماشيًا أو راكبًا، وفصلت المالكية فقالوا: إن الراكب يتأخر عنها لانحطاطه بسبب الركوب عن رتبة الماشي، والماشي يتقدمها لما أخرجه أصحاب "السنن"،
وصححه ابن حِبّان والحاكم من حديث المُغيرة بن شُعبة مرفوعًا: "الراكبُ خلف الجنازة، والماشي حيثُ شاء منها" فأخذوا بالأول في كون الماشي أمامها، وبالثاني في كون الراكب خلفها، وقال النَّخَعيّ: إن كان في الجنازة نساء مشى أمامها وإلا مشى خلفها. وقال أنس بن مالك كما في "البخاري" تعليقًا: أنتم مشيِّعون، فامشِ بين يديها وخلفها، وعن يمينها وعن شمالها، وظاهره قرب منها أو بعد، ووافقه عبد الرحمن بن قُرْط -بضم القاف وسكون الراء ثم طاء مهملة- الصحابي، لكنه قيد ذلك بالقرب من الجنازة، وظاهر صنيع البخاري اختياره لهذا المذهب الذي هو التخيير في المشي مع الجنازة، وهو قول الثوري، وبه قال ابن حَزْم، لكن قيده بالماشي اتباعًا لما مر قريبًا عن المُغيرة بن شعبة.
وقوله: "إيمانًا واحتسابًا" أي مؤمنًا محتسبًا، لا مكافأة أو مخافة، وقد مر معناهما.
قوله: "وكان معه" أي: المسلمُ وللكشميهني: "معها" أي: الجنازة.
وقوله: "حتى يصلى عليها" بكسر اللام وروي بفتحها، فعلى الأول لا يحصُل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثاني قد يقال يحصُل له ذلك ولو لم يصل، لكن المعتمد حمل رواية الفتح على رواية الكسر، لأن حصول القيراط متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصُل له، اللهم إلا إذا قصد الصلاة، وحال دونه مانع، فالظاهر حصول الثواب له مطلقًا.
وقوله: "ويُفرَغُ من دفنها" بضم أوله وفتح الراء، وروي بالعكس، وعلى الأول من دفنها نائب عن الفاعل، وعلى الثاني في محل المفعول به، والفراغ من الدفن بتسوية التراب عليها على المعتمد، وقيل: بمجرد الوضع في القبر، وقيل: عند انتهاء الدفن بعد نصب اللبن عليه قبل إهالة التراب عليه، وقد وردت الأخبار بكل ذلك، لكن على الأول جُلُّ الروايات كرواية البخاري هنا:"حتى يفرغ من دفنها" وعند مسلم في إحدى
الروايتين عن مَعْمر: "حتى يفرغ منها" وفي الأخرى: "حتى تُوضع في اللحد" وكذا عنده في رواية أبي حازِم بلفظ: "حتى تُوضع في القبر" وفي رواية أبي مُزاحم عند أحمد: "حتى يُقضى قضاؤها" وفي رواية أبي سلمة عند التِّرمِذِي: "حتى يُقضى دفنها" وفي رواية ابن عِياض عند أبي عَوانة: "حتى يُسوّى عليها التراب" وهذه هي أصرح الروايات في ذلك، ويُحتمل حصول القيراط بكلٍّ من ذلك، لكن يتفاوت القيراط كما سيأتي من تفاوت القراريط.
وقوله: "من الأجر بقيراطين" تثنية قيراط بكسر القاف، وأصله قرّاط بتشديد الراء، لأن جمعه قراريط، فأُبدل من أحد حرفي تضعيفه ياءً. قال الجوهري: وهو نصف دانق، والدانق سدس الدرهم، فعلى هذا يكون القيراط جزءًا من اثني عشر جزءًا من الدرهم. وأما صاحب "النهاية" فقال: القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثرِ البلاد، وفي الشام جزء من أربعة عشر جزءًا. ونقل ابن الجوزي عن ابن عقيل أنه كان يقول: القيراط نصف سدس درهم، أو نصف عُشْر دينار، والإشارة بهذا المقدار إلى الأجر المتعلق بالميت في تجهيزه وغسله وجميع ما يتعلق به، فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدفن قيراط، وذكر القيراط تقريبًا للفهم لمّا كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته، وعد من جنس ما يعرف، وضرب له المثل بما يعلم. وقال ابن العربي القاضي: الذرة جزء من ألف وأربعة وعشرين جزءًا من حبة، والحبة ثلث القيراط، فإذا كانت الذرة تخرج من النار فكيف بالقيراط؟ قال: وهذا قدر قيراط الحسنات، فأما قيراط السيئات فلا.
وقد ورد لفظ القيراط في عدة أحاديث، فمنها ما يُحمل على القيراط المتعارف، ومنها ما يُحمل على الجزء في الجملة وإن لم تُعرف النسبة، فمن الأول حديث كعب بن مالك مرفوعًا:"إنكم ستَفْتحون بلدًا يُذكر فيها القيراط" وحديث أبي هُريرة مرفوعًا: "كُنت أرعى غنمًا لأهلِ مكةَ بالقراريط" قال ابن ماجه عن بعض شيوخه: يعني: كل شاة بقيراط، قال
غيره: قراريط جبلٍ بمكة، ومن المحتمل حديث ابن عمر في الذين أوتوا التوراة أعطوا قيراطًا قيراطًا، وحديث الباب فقد ذهب الأكثر إلى أن المراد بالقيراط فيه جزء من أجزاء معلومة عند الله تعالى، وقد قرّبها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للفهم بتمثيله القيراط بأُحد، ومن المحتمل حديث أبي هُريرة مرفوعًا:"من اقتنى كلبًا نقَصَ من عمله كلَّ يوم قيراطٌ" قال النووي وغيره: لا يلزم من ذكر القيراط في الحديثين تساويهما؛ لأن عادة الشارع تعظيم الحسنات وتخفيف مقابلها. وقال غيره: القيراط في اقتناء الكلب جزء من أجزاء عمل المقتني له في ذلك اليوم.
وقوله: "كل قيراطٍ مثل أحد" قال الطيبي: قوله: "مثل أُحد" تفسير للمقصود من الكلام لا للفظ القيراط، والمراد منه أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر، وذلك لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله:"من الأجر"، وبين المقدار المراد منه بقوله:"مثل أحد" وقال الزين بن المنير: أراد تعظيم الثواب، فمثله للعيان بأعظم الجبال خلقًا، وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حبًّا، لأنه الذي قال في حقه:"إنه جبلٌ يُحبُّنا ونحبه" ولأنه أيضًا قريبٌ من المخاطبين، يشترك أكثرهم في معرفته، وخُصَّ القيراط بالذكر لأنه كان أقل ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل اهـ.
قلت: والأخير أولى لما مر قريبًا في حديث: "ستفتحونَ بلدًا يُذكر فيها القيراط" فإنه دالٌّ على أن القيراط لم يكن مذكورًا في ذلك الزمان، وأُحُد بضمتين الجبل المعروف بالمدينة، سُمي به لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك.
وقوله: "ومنْ صلى عليها ثم رجعَ قبل أن تُدفن فإنه يرجِعُ بقيراط" أي: من الأجر، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده، ثم حضر الدفن لم يحصل له القيراط الثاني، وكذا لو حضر الدفن ولم يصلِّ، أو تبعها ولم يصل، فليس في الحديث حصول القيراط له، إنما القيراط لمن تبعها بعد الصلاة، لكن له أجر في الجملة، قاله النووي.
وروى عن أشهب من المالكية كراهة ما إذا تبعها ولم يصلِّ ولم يحضر الدفن، وقد أثبتت رواية الباب أن القيراطين إنما يحصُلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن يحصُل بها قيراط واحد، وهو المعتمد خلافًا لمن تمسك بظاهر رواية الأعرج عن أبي هُريرة الآتية في الجنائز بلفظ:"من شهدَ الجنازة حتى يصلي فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن كان له قيراطان" فقال: إن له بالمجموع ثلاثة قراريط، وعزى ابن التين هذا القول للقاضي أبي الوليد، لكن رواية ابن سِيرين في الباب صريحة، في أن الحاصل من الصلاة والدفن قيراطان، وكذلك رواية خباب عند مسلم بلفظ:"من خرجَ مع جنازة من بيتها، ثم تبعها حتى تُدفن، كان له قيراطان من أجرٍ، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رَجعَ كان له قيراط" وكذلك رواية الشعبي عن أبي هُريرة عند النّسائي بمعناه.
قال النووي: رواية ابن سيرين صريحة في أن المجموع قيراطان، ومعنى رواية الأعرج على هذا كان له قيراطان، أي بالأول مثل حديث من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله، أي: بانضمام صلاة العشاء، ورواية خباب المارة عند مسلم، ورواية أحمد عن أبي سعيد الخُدْري:"فمشى معها من أهلها" يقتضيان أن القيراط يختصُّ بمن حضر من أول الأمر إلى انقضاء الصلاة، وبذلك صرح المحب الطبريّ وغيره، والذي يظهر أن القيراط يحصُل أيضًا لمن صلى فقط، لأن كل ما قبل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون قيراط من شَيَّع مثلًا وصلى، ورواية مسلم عن أبي هريرة بلفظ:"أصغرهما مثل أحُد" يدل على أن القراريط تتفاوت، وفي هذه الرواية عند مسلم:"من صلى على جنازة ولم يتْبَعْها فله قيراطٌ" وعند أحمد عن أبي هُريرة أيضًا: "من صلى ولم يتبع فله قيراطٌ" فدل على أن الصلاة تحصِّل القيراط وإن لم يكن اتباع، ويمكن أن يُحمل الاتباع هنا على ما بعد الصلاة، وجاء في حديث البزّار عن أبي هُريرة مرفوعًا ما هو صريح في حصول القيراط بالصلاة فقط، ولفظه: "من أتى