الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والثلاثون
40 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ -أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ- مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَاّهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا -كَمَا هُمْ- قِبَلَ الْبَيْتِ. وَكَانَتِ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ.
قوله: "أول ما قدم" منصوب على الظرفية، أي في أوّل زمن قدومه، وما مصدرية، لا خبر كان، كما توهمه بعضهم، فإن خبرها نزل، وقوله المدينة يعني طيبَة في هجرته من مكة، وقد مر في حديث هرقل في بدء الوحي الكلامُ على اشتقاقها. وقوله نزل على أجداده، أو قال أخواله من الأنصار، وفي كليهما مجاز، لأن الأنصار أقاربه من جهة الأمومة، لأن أم جده عبد المطلب سَلْمى بنت عَمرو منهم من بني عَديّ بن النَّجّار، وإنما نزل النبيُّ عليه الصلاة والسلام بالمدينة على إخوتهم بني مالك بن النجار، ففيه على هذا مجاز آخر. وقوله:"قِبَل بيت المقدس" بكسر القاف وفتح الموحدة، والمقْدس مصدر ميمي كالمَرْجع، أي حال كونه متوجهًا إليه. وقوله "ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر" وقع هنا وفي الصلاة وعند التِّرمذي بالشك. ورواه مسلم وأبو عُوانة في صحيحه والنّسائي ستة عشر "بغير شك". ورواه البَزَّار والطَّبراني سبعة عشر "بغير شك" والجمع
بين الروايتين سهل، بأن يكون من جَزَمَ بستة عشر لفّق بين شهر القدوم وشهر التحويل شهرًا، وألغى الزائد. ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا.
ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف، وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور.
ورواه الحاكم بَسَند صحيح عن ابن عباس، وقال ابن حِبان: سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام، وهو مبني على أن القدوم كان في ثاني عشر ربيع الأول. وقال ابن حبيب: كان التحويل في نصف شعبان، وهو الذي ذَكره النّوويّ في الروضة، وأقره مع كونه رجَّح في شرح مسلم رواية ستة عشر شهرًا لكونها مجزومًا بها عند مُسلم، ولا يستقيم أن يكون ذلك في شعبان إلا إن أُلغي شهرا القدوم والتحويل.
وقوله: "وأنه صلّى أول صلاة صلّاها صلاة العصر" وأنه بفتح الهمزة عطفًا على أنه الأولى. وأول بالنصب لأنه مفعول صلى، وصلاة العصر كذلك، على البدلية. وأعربه ابن مالك بالرفع، وفي الكلام مُقدَّر لم يُذْكر لوضوحه، أي أول صلاة صلاها متوجهًا إلى الكعبة صلاة العصر.
وعند ابن سَعْد حُوّلت القبلة في صلاة الظهر أو العصر على التردد. والتحقيق أن أول صلاة صلاها في بني سلمة لما مات بِشْر بن البَرَاء بن مَعْرُور الظُّهْر. وأول صلاة صلاها بالمسجد النبوي العصر، وأما الصبح فهو من حديث ابن عمر، في قُبَاء. وقوله: فخرج رجلٌ ممن صلّى .. إلخ، الرجل هو عبّاد بن بِشْر بن قَيْظيّ. كما رواه ابن مَنْده من حديث طَويلة بنت أسْلم، وقيل: هو عبّاد بن نَهِيك بفتح النون، وقد عرفناهما في الحديث السابع من أبواب القبلة.
وأهل المسجد الذين مرّ بهم. قيل: هم بنُو حَارِثة. ويُجمع بين حديث البَراء هذا وحديث ابن عمر الآتي في أبواب استقبال القبلة، حيث قال فيه: بينا الناس بقُبَاء في صلاة الصُّبح إذ جاءهم آتٍ .. الخ،
بأن الخبر وصل وقت العصر إلى من هو داخل المدينة، وهم بنو حارثة وهذا هو الذي في حديث البَراء، والآتي إليهم بذلك عبّاد بن بِشر أو عبّاد بن نَهِيك كما مر، ووصل الخبر وقت الصبح إلى من هو خارج عن المدينة، وهم بنو عَمْرو بن عَوْف أهل قُباء، وذلك في حديث ابن عُمر، ولم يُسَمِّ الآتي بذلك إليهم. وقد نقل ابن ظاهر وغيره أنه عَبّاد بن بِشر، فإن كان ما نقلوه محفوظًا، فيحتمل أن يكون عباد أتى بني حارثة أولًا في وقت العصر، ثم توجه إلى أهل قُباء فأعلمهم بذلك في وقت الصبح.
وقوله: وهم راكعون، أي حقيقة، أو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. وقوله "أشهد لقد صلّيت إلخ"، الّلام للتأكيد، وقد للتحقيق، وجملة أشهد اعتراض بين القول ومَقُوله. وقوله: فَدَاروا، أي: سمعوا كلامه فدَاَروا. وقوله: كما هم قِبل البيت، أي الحرام، ولم يَقطعوا الصلاة، بل أتموها إلى جهة الكعبة، فصلوا صلاة واحدة إلى جهتين بدليلين شرعيين. والكاف في "كما هم" للمبادرة، وقيل للمقارنة، وما كافة، وهم مبتدأ حُذِف خبره، أي: عليه. وقيل: ما موصولة، والعائد عليه المحذوف، لكن يلزم عليه حذف العائد المجرور مع تخلّف شرطه، ووقع كيفية التَّحوُّل عند ابن أبي حاتم في حديث ثُويْلة بنت أسْلَم، قالت فيه: فَتَحوَّل النّساء مكان الرجال، والرِّجالُ مكان النّساء فصلينا السجدتين الباقيتين إلى البيت الحرام.
قال في الفتح: وتصويره أن الإِمام تحوّل من مكانه في مقدم المسجد إلى مؤخر المسجد، لأن من استقبل الكعبة استدبر بيت المقدس، وهو لو دار كما هو في مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف. ولمّا تحوّل الإِمام تحولت الرجال، حتى صاروا خلفه، وتحولت النساء حتى صِرْن خلف الرجال، وهذا يستدعي عملًا كثيرًا في الصلاة. فيحتمل أن يكون ذلك وقع قبل تحريم العمل الكثير، كما كان قبل تحريم الكلام. ويحتمل أن يكون العمل المذكور من أجل المصلحة المذكورة أو لم تتوال الخطا عند التحول، بل وقعت مُفرَّقة.
وقوله: "وقد أعجبهم" أي النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو منصوب على المفعولية، وقوله:"قِبَل بيت المقدس" أي حال كونه متوجهًا إليه. وقوله: "وأهلُ الكتاب" بالرفع، عطفًا على اليهود، وهو من عطف العام على الخاص، أو المراد النصارى فقط. وردُّ هذا بأنّ النصارى لا يصلون إلى بيت المقدس فكيف يعجبهم؟ وأجيب بأن إعجابهم بطريق التَّبعيّة لليهود، وفيه بُعدٌ، لأنهم أشد الناس عداوة لليهود، ويحتمل أن يكون بالنصب، والواو بمعنى مع، أي؛ يصلي مع أهل الكتاب إلى بيت المقدس. وعلى هذا، المراد بأهل الكتاب اليهود خاصة. وقوله "أنكروا ذلك" يعني اليهود، فنزلت {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} [البقرة: 142].
وقد صرح المصنف بذلك في روايته من طريق إسرائيل.
واختُلف في صلاته عليه الصلاة والسلام إلى بيت المَقْدس وهو بمكة، فقال قوم: لم يزل يستقبل الكعبة بمكة، فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس، ثم نسخ. وعلى هذا يلزم النسخ مرتين. وقال البَيْضاويّ في تفسير قوله:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} [البقرة: 143] أي: الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، فإنه كان صلى الله عليه وسلم يُصلّي إليها بمكة، ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصَّخرة تألُّفًا لليهود، ثم نُسِخ.
وقال قومٌ: كان لبيت المقدس، فروى ابنُ ماجه حديث "صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المَقْدس ثمانية عشر شهرًا وصرفت القبلة إلى الكعبة بعد دخول المدينة بشهرين" وظاهره أنه كان يصلي إلى بيت المقدس محضًا، ويؤيد حمله على ظاهره خبرُ إمامة جبريل، ففي بعض طرقه أن ذلك كان عند باب البيت. وعن ابن عبّاس: كانت قبلته بمكة بيت المقدس، إلا أنّه كان يجعل الكعبة بينه وبينه، فكان يصلي بين الرُّكْنَين اليمانيَّين. قال البَيْضاويّ: فالمخبر به في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} [البقرة: 143] على الأول، الجَعْل النّاسخ، وعلى الثاني الجعلُ المنسوخ. والمعنى: أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وما جعلنا قِبلتك بيتَ المقدس.
وفي هذا الحديث أن حُكْم الناسخ لا يثبت في حق المُكَلَّف حتى يبلُغَه، لأن أهل قُباء لم يؤمروا بالإعادة مع كون الأمر باستقبال القبلة قد وقع قبل صلاتهم تلك الصلوات، واستنْبط الطَّحاوِيّ منه أن من لم تَبلُغْه الدعوة ولم يمكنه استعلام ذلك، فالفرض غير لازم له وفيه جواز الاجتهاد في زمنه عليه الصلاة والسلام، لأنهم لما تَمادَوْا في الصلاة ولم يقطعوها، دل على أنه رَجَح عندهم التمادي والتحول على القطع، والاستئناف.
ولا يكون ذلك إلا عن اجتهاد. قيل: وفيه نظر، لاحتمال أن يكون عندهم في ذلك نصٌّ سابق، لأنه صلى الله عليه وسلم كان مُترقِّبًا التحوُّل المذكور، فلا مانع من أن يعلمهم ما صنعوا من التمادي والتحول. قلتُ: هذا فيه بُعدٌ، لأنه وإن كان مترقبا للتحول لا يكون مُطَّلعًا على أن أهل مسجد يُخبَرُونَ به في أثناء الصلاة، وما رأينا أنه عليه الصلاة والسلام علَّم الناس حُكْم شيء لم يُسأل عنه قبل وقوعه، فتأمل.
وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، ونسخ ما تقرر بطريق العلم به، لأن صلاتهم إلى بيت المقدس كان عندهم بطريق القطع، لمشاهدتهم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة، ووقع تحولهم عنها إلى جهة الكعبة بخبر هذا الواحد. وأجيب بأنّ الخبر المذكور احْتفَّت به قرائنُ ومُقدِّمات أفادت القطع عندهم بصدق ذلك المُخْبر، فلم يُنسخ عندهم ما يفيد العلم إلا بما يفيد العلم. قلت: هذا الجواب واهٍ، فأين هذه القرائن غير أنه صحابيّ عَدلٌ لا حامل له على الكذب؟.
وقيل: كان النَّسخُ بخبر الواحد جائزًا في زمنه عليه الصلاة والسلام مطلقا، وإنما مُنِع بعده، وهذا يحتاج إلى دليل. وفيه جواز تعليم مَنْ ليس في الصلاة من هو فيها، وأن استماع المصلي أم من ليس فيها لا يُفْسد صلاته. وفيه الرد على المُرْجئة في إنكارهم تسمية أعمال الدين إيمانا وفيه أن تَمَنِّي تغيير بعض الأحكام جائزٌ إذا ظهرت المصلحة في ذلك. وفيه بَيَان شَرَفِه صلى الله عليه وسلم، وكرامته على ربه، لإِعطائه له ما أحبّ من غير تصريح بالسؤال. وفيه بيانُ ما كان في الصحابة من الحرص على دينهم والشفقة على إخوانهم.