الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والأربعون
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنِ الْمُرْجِئَةِ، فَقَالَ حَدَّثَنِى عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ".
قوله: "سألت أبا وائل عن المرجئة" أي: عن مقالتهم أو معتقدهم، وقد مر الكلام على حقيقتهم في الكلام على الترجمة.
وقوله: "سبابُ المسلم" هو بكسر السين، وبتخفيف الموحدة، مصدر مضاف للمفعول، أي: شتمه والتكلم في عرضه بما يَعيبُهُ ويؤلمه. وقيل: السباب أشد من السب، وهو أن يقول في الرجل ما فيه وما ليس فيه، يريد بذلك عَيْبته. وقيل: السباب هنا مثل القتال، فيقتضي المفاعلة، أي تشاتمهما، وقد مر بعض الكلام على السباب في باب المعاصي من أمر الجاهلية، وهذا السؤال فيه دلالة على أن بدعة الإرجاء قديمة.
وقوله: "فسوق" أي: فجور وخروج عن الحق، والفسق في اللغة الخروج، وفي الشرع الخروج عن طاعة الله ورسوله، وهو في عرف الشرع أشد من العصيان، قال الله تعالى:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} ، ففي الحديث تعظيم حق المسلم، والحكم على من سبه بغير حق بالفسق، ومقتضاه الرد على المرجئة، وعرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال: كيف تكون مقالتهم حقًّا والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول هذا.
وقوله: "وقتاله كفر" أي: فكيف يحكم بتصويب قولهم: إن مرتكب الكبيرة غير فاسق. مع حكم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على من سب المسلم بالفسق، ومن قاتله بالكفر.
وليس المراد هنا بالكفر حقيقته التي هي الخروج عن الملة، وإنما أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدًا على ما تقرر من القواعد على عدم كفره بمثل ذلك، مثل حديث الشفاعة، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقد مضى بعض الكلام على هذا في باب المعاصي من أمر الجاهلية، أو أُطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر، أو المراد الكفر اللغوي وهو التغطية، لأن حق المسلم على المسلم أن يعينه وينصره ويكف عنه أذاه، فلما قاتله كان كأنه غطى على هذا الحق، والأوَّلان أليق بمراد المصنف، وأولى بالمقصود من التحذير من ذلك والزجر عنه، بخلاف الثالث.
وقيل: المراد بقوله: كفر، أي: قد يؤول هذا الفعل بشؤمه إلى الكفر، وهذا بعيد، وأبعد منه حمله على المُسْتَحِلِّ لذلك؛ لأنه لا يطابق الترجمة، ولو كان مرادًا لم يحصل التفريق بين السباب والقتال، فإن مستحل لعن المسلم بغير تأويل يكفر أيضًا كما يأتي مبوبًا له في كتاب المحاربين إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: هذا وإن تضمن الرد على المرجئة، لكن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفِّرون بالمعاصي، فالجواب: إن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك، ولا متمسك للخوارج فيه، لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشد من السباب لأنه مفضٍ إلى إزهاق الروح، عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة .. إلخ ما مر قريبًا.
ومثل هذا الحديث قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "لا ترجِعُوا بعدي كفارًا يضربُ بعضكم رقابَ بعضٍ" ففيه هذه الأجوبة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الفتن. ونظيره قوله تعالى:{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} بعد قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} الآية، فدل على أن بعض الأعمال يطلق عليه الكفر تغليظًا.