الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والأربعون
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا أَبُو حَيَّانَ التَّيْمِىُّ عَنْ أَبِى زُرْعَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ مَا الإِيمَانُ قَالَ:"الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ". قَالَ مَا الإِسْلَامُ قَالَ: "الإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤَدِّىَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ". قَالَ مَا الإِحْسَانُ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ: "مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّهَا، وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِبِلِ الْبُهْمُ فِى الْبُنْيَانِ، فِى خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَاّ اللَّهُ". ثُمَّ تَلَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآيَةَ. ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَالَ "رُدُّوهُ". فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا. فَقَالَ "هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الإِيمَانِ.
قوله "بارزًا يومًا للناس" أي: ظاهرًا لهم غير محتجب عنهم ولا متلبس بغيره، والبروز الظهور، قال تعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} أي: ظاهرة، ليس لها مستظل ولا متقىً.
وقد وقع في رواية أبي فروة عند أبي داود والنسائي عن أبي هُريرة وأبي ذرٍّ بيان ذلك، فإن أولها:"كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجلس بين أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو، فطلبنا إليه أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه، قال: فبنينا له دكانًا من طين كان يجلس عليه". واستنبط القُرْطُبي منه استحباب جلوس العالم بمكان يختص به ويكون مرتفعًا إذا احتاج لذلك لضرورة تعليم ونحوه.
وقوله: "فأتاه رجل" أي: ملك في صورة رجل، وفي التفسير
للمصنف: "إذ أتاه رجلٌ يمشي" وفي رواية أبي فروة المارة: "فإنا لجلوس عنده إذ أقبل رجل أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كان ثيابه لم يمسها دنس" ولمسلم من طريق كَهْمَس في حديث عمر: "بينما نحن ذات يوم عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر. وفي رواية ابن حِبّان: "سواد اللحية، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه". وفي رواية سليمان التَّيمي في "صحيح" ابن خُزيمة:"ليس عليه سحناء السفر، وليس من البلد، فتخطى حتى برك بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما يجلس أحدنا في الصلاة، ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم".
"والسَّحْناءَ" -بفتح السين وسكون الحاء وبالنون والمد- الهيئة، وكذلك السَّحنة -بالتحريك- وفي رواية أحمد عن ابن عباس وأبي عامر الأشعري:"ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم" فبينت هذه الروايات أن الضمير في رواية ابن حِبّان السابقة في قوله على فخذيه يعود على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وبه جزم البغوي، وإسماعيل التيمي لهذه الروايات، ورجحه الطِّيْبيّ بحثًا لأنه نسق الكلام، خلافًا لما جزم به النووي، ووافقه الثُّورِبشْتِي -بضم الفوقية، وسكون الواو، بعدها راء فموحدة مكسورتان، ثم شين معجمة ساكنة، ففوقية مكسورة- لأنه حمله على أنه جلس كهيئة المتعلم بين يدي من يتعلم منه، وهذا وإن كان ظاهرًا من السياق، لكن وضعه يديه على فخذي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صنيع منبه للإصغاء إليه.
وفيه إشارة لما ينبغي للمسؤول من التواضع والصفح عما يبدو من جفاء السائل، والظاهر أنه أراد بذلك المبالغة في تعمية أمره، ليقوى الظن أنه من جفاة الأعراب، ولهذا تخطى الناس حتى انتهى إليه صلى الله
تعالى عليه وسلم، ولهذا استغرب الصحابة صنيعه، ولأنه ليس من أهل البلد، وجاء ماشيًا ليس عليه أثر السفر.
وقول عمر السابق: "لا يعرفه منا أحد" يحتمل أن يكون استند في ذلك إلى ظنه أو إلى صريح قول الحاضرين، وهذا أولى لما في رواية عثمان بن غياث عند أحمد في "مسنده" عن ابن عمر، عن عمر:"فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: ما نعرفه" وأفاد مسلم سبب ورود هذا الحديث، فعنده في أوله قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "سلوني، فهابوا أن يسألوه، فجاء رجل
…
إلخ" ووقع في رواية ابن منده عن كَهْمَس: "بينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخطب، إذ جاءه رجل" فكان أمره لهم بسؤاله وقع في خطبته، وظاهره أن مجيء الرجل كان في حال الخطبة، فإما أن يكون وافق انقضاءها، أو كان ذكر ذلك القدر جالسًا، وعبر عنه الراوي بالخطبة.
قوله: "فقال: ما الإيمان؟ " زاد المصنف في التفسير: "يا رسول الله: ما الإيمان؟ " والجواب عما قيل: كيف بدأ بالسؤال قبل السلام؟ هو أنه يحتمل أن يكون ذلك مبالغة في التعمية لأمره، أو ليبين أن ذلك غير واجب، أو سلم فلم ينقله الراوي، وهذا الثالث هو المعتمد، فقد ثبت في رواية أبي فَرْوة الماضية بعد قوله:"كأن ثيابه لم يمسها دنس، حتى سلم من طرف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد، فرد عليه السلام، قال: أدنو يا محمد؟ قال: ادنُ. فما زال يقول: أدنو؟ مرارًا. ويقول له: ادن". ونحوه في رواية عطاء عن ابن عمر عند الطبراني، لكن قال:"السلام عليك يا رسول الله". وفي رواية مطر الوراق عند أبي عوانة في "صحيحه" فقال: "يا رسول الله: أدنو منك؟ قال: ادن" ولم يذكر السلام.
فاختلفت الروايات: هل قال له: يا محمد أو يا رسول الله؟ وهل سلم أولًا؟ فأما السلام فمن ذكره مقدم على من سكت عنه.
قال القرطبي -بناء على أنه لم يسلم، وقال: يا محمد-: إنه أراد بذلك التعمية، فصنع صنيع الأعراب.
قال في "الفتح" من يجمع بين الروايتين، بأنه بدأ أولًا بندائه باسمه لهذا المعنى، ثم خاطبه بقوله: يا رسول الله، ووقع عند القرطبي أنه قال: السلام عليكم يا محمد، فاستنبط منه أنه يستحب للداخل أن يعمم بالسلام، ثم يخصض من يريد تخصيصه.
قال في "الفتح": وما وقفت عليه من الروايات ما فيه إلا الإفراد، وهو: السلام عليك يا محمد.
وقوله: "ما الإيمان" قيل: قدم السؤال عن الإيمان لأنه الأصل، وثنى بالإِسلام لأنه يظهر مصداق الدعوى، وثلث بالإحسان لأنه متعلق بهما. وفي رواية عمارة بن القعقاع عند مسلم بدأ بالإسلام لأنه بالأمر الظاهر، وثنى بالإيمان لأنه بالأمر الباطن، ورجح هذا الطيبي لما فيه من الترقي، والحق أن الواقع أمر واحد، والتقديم والتأخير وقع من الرواة، لأن القصة واحدة، اختلف الرواة في تأديتها، وليس في السياق ترتيب، ويدل عليه رواية مَطَر الورّاق فإنه بدأ بالِإسلام، وثنى بالإحسان، وثلث بالإيمان.
وقوله: "قال: الإيمان أن تؤمنَ باللهِ" دل الجواب على أنه عليه الصلاة والسلام علم أنه سأله عن متعلقاته لا عن حقيقته، وإلا لكان الجواب: الإيمان: التصديق، وإنما فسر الإيمان بذلك لأن المراد من المحدود الذي في السؤال الإيمان الشرعي، ومن الحد الذي هو التفسير اللغوي، فليس فيه تفسير الشيء بنفسه، يعني أن قوله:"أن تؤمن" ينحل منه الإيمان، فكأنه قال: الإيمان الشرعي تصديق مخصوص، والذي يظهر أنه إنما أعاد لفظ الإيمان للاعتناء بشأنه تفخيمًا لأمره، ومنه قوله تعالى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} في جواب من يحيي العظام وهي رميم.
وقال الطّيبي: هذا يوهم التكرار، وليس كذلك، فإن قوله "أن تؤمن بالله" مضمن معنى أن تعترف، ولهذا عداه بالباء، أي أن تصدق معترفًا بكذا.
قال في "الفتح" والتصديق أيضًا يتعدى بالباء، فلا يحتاج إلى دعوى التضمين، يعني أن الاحتجاج على التضمين بالتعدية بالباء غير مستقيم، لأن التصديق يتعدى بها أيضًا، وبهذا يظهر لك بطلان اعتراض العيني عليه.
والإِيمان بالله هو التصديق بوِجوده، وأنه متصف بصفات الكمال، منزه عن صفات النقص، وحمله الأُبَيّ على الحقيقة، معللًا بأن السؤال بما إنما يكون عن الحقيقة لا عن الحكم، وعلى هذا فقوله: أن تؤمن
…
إلخ من حيث أنه جواب السؤال المذكور، يتعين أن يكون حدًّا، لأن المقول في جوابه إنما هو الحد، فإن قلت: لو كان حدًّا لم يقل جبريل عليه السلام في جوابه صدقت كما في مسلم، لأن الحد لا يقبل التصديق، أجيب بأنه: إذا قيل في الإنسان: إنه حيوان ناطق، وقصد به التعريف، فلا يقبل التصديق كما ذكرت، وإن قصد أنه الذات المحكوم عليها بالحيوانية والناطقية، فهو دعوى وخبر، فيقبل التصديق، فلعل جبريل عليه الصلاة والسلام راعى هذا المعنى، فلذلك قال: صدقت. أو يكون قوله: صدقت تسليمًا، والحد يقبل التسليم، ولا يقبل المنع، لأن المنع طلب الدليل، والدليل إنما يتوجه للخبر، والحد تفسير لا خبر.
قلت: هذا الإيراد والجواب إنما يتمشيان على معرفة أن جبريل عليه السلام ملتزم لمصطلح أهل المنطق في الحدود، يثبت ما أثبتوه، ويمنع ما منعوه، ومن أين لنا بهذا الالتزام، فإن مصطلح المناطقة لم يقل به كثير من علماء المسلمين، ولم يعترف به، فكيف يحكم به على جبريل عليه السلام، ويقع به عليه الإيراد والجواب في كلامه، فهذا ساقط غاية السقوط، بل كان الأولى أن يستدل بمراجعة جبريل والنبي عليهما الصلاة والسلام على بطلان مصطلح المناطقة اهـ.
وقوله: "وملائكته" أي: الإيمان بملائكته، وهو التصديق بوجودهم، وأنهم كما وصفهم الله تعالى:{عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وهم أجساد علوية
نورانية، متشكلة بما شاءت من الأشكال الطيبة لا الخسيسة، ليسوا بذكور ولا إناث، وحاشاهم من أن يكونوا خُناثى، والملائكة: جمع ملك، وأصله مأْلُك مَفْعُل من الألوكة بمعنى الرسالة، زيدت فيه التاء لتأكيد معنى الجمع أو لتأنيث الجمع، ومر بعض الكلام عليهم في الثالث أو الرابع من بدء الوحي.
وقدم الملائكة على الكتب والرسل نظرًا للترتيب الواقع، لأنه سبحانه وتعالى أرسل الملك بالكتاب إلى الرسول، وليس فيه متمسك لمن فضل الملك على الرسول.
وقوله: "وكتبه" هذه في رواية الأصيلي هنا، واتفق الرواة على ذكرها في التفسير، والإيمان بكتب الله التصديق بأنها كلام الله، وأن ما تضمنته حق.
وقوله: "وبلقائه" وقعت هنا بين الكتب والرسل، وكذا لمسلم من طريقين، ولم تقع في بقية الروايات، وقد قيل: إنها مكررة، لأنها داخلة في الإيمان بالبعث، والحق أنها غير مكررة، فقيل: المراد بالبعث القيام من القبور، والمراد باللقاء ما بعد ذلك. وقيل: اللقاء يحصُلُ بالانتقال من دار الدنيا، والبعث بعد ذلك. ويدل على هذا رواية مَطَر الورّاق السابقة، فإن فيها:"وبالموت وبالبعث بعد الموت" وكذا في حديث أنس عند البزار والبخاري في "خلق أفعال العباد"، وحديث ابن عباس في "مسند" أحمد. وقال الرّاغب: اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته، لقِيَهُ يَلْقاهُ. ويقال أيضًا في الإدراك بالحس وبالبصيرة، ومنه:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ} وملاقاة الله يعبر بها عن الموت وعن يوم القيامة، وقيل ليوم القيامة: يوم التلاق لالتقاء الأولين والآخرين فيه.
قلت: قول عائشة فيما أخرجه مسلم والنسائي: "والموت دون لقاء الله" صريح في أن لقاء الله غير الموت، وأنه بعدها، ولكن الموت معترض
دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، ويتحمل مشاقه، حتى يصير إلى الفوز باللقاء.
وفي "الفتح" عند حديث عائشة في الرقاق: "من أحبَّ لقاءَ الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه
…
إلخ" ما نصه: اللقاء يقع على أوجه: منها المعاينة، ومنها البعث كقوله تعالى:{الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ} ومنها الموت: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} وقوله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} .
وقال ابن الأثير في "النهاية": المراد بلقاء الله هنا، يعني: في حديث عائشة المار، المصير إلى الدار الآخرة، وطلب ما عند الله تعالى، وليس الغرض به الموت، لأن كلًا يكرهه، فمن ترك الدنيا وأبغضها أحب لقاء الله، ومن آثرها وركن إليها كره لقاء الله، لأنه إنما يصل إليه بالموت. وقول عائشة:"والموت دون لقاء الله" يبين أن الموت غير اللقاء
…
إلخ ما مر قريبًا.
ومما يبين ما قاله ابن الأثير أن الله تعالى عاب قومًا بحب الحياة، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} وقال الطيبي: يريد أن قول عائشة: إنا لنكره الموت، يوهم أن المراد بلقاء الله في الحديث الموت، وليس كذلك، لأن لقاء الله غير الموت، بدليل قوله في الرواية الأخرى: والموت دون لقاء الله، لكن لما كان الموت وسيلة إلى لقاء الله، عبر عنه بلقاء الله.
وقال الخطابي: معنى محبة العبد للقاء الله تعالى إيثاره الآخرة على الدنيا، فلا يحب استمرار الإقامة فيها، بل يستعد للارتحال عنها، والكراهة بضد ذلك.
وقال النّووي: معنى الحديث: أن المحبة والكراهة التي تُعتبر شرعًا هي التي تقع عند النزع في الحالة التي لا تقبل فيها التوبة، حيث ينكشف الحال للمُستحضَرِ، ويظهر له ما هو صائر إليه.
وقيل: المراد باللقاء رؤية الله تعالى، قاله الخطابي، وتعقبه النووي بأن أحدًا لا يقطع لنفسه برؤية الله، فإنها مختصة بمن مات مؤمنًا، والمرء لا يدري بم يختم له، فكيف يكون ذلك من شروط الإيمان. وأُجبيب بأن المراد الإيمان بأن ذلك حق في نفس الأمر، واقع للمؤمنين جملة، لا أن كل أحد يقطع بأنه سيحصل له كما زعمه النووي، وهذا من أقوى الأدلة لأهل السنة في إثبات رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، إذ جُعِلَتْ من قواعد الإيمان على هذا التفسير، وسيأتي استيفاء الكلام على الرؤية إن شاء الله تعالى عند ذكرها في كتاب التوحيد، وقد استوفينا الكلام عليها في كتابنا على متشابه الصفات.
وقوله: "ورسله بإسقاط الباء" وللأصيلي: "وبرسله" بإثباتها، ووقع في حديث أنس وابن عباس المار ذكرهما:"والملائكة، والكتاب، والنبيين" وكل من السياقين في القرآن في البقرة، الأول في قوله الله تعالى:{كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} والثاني في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} والتعبير بالنبيين يشمل الرسل من غير عكس، والإيمان بالرسل: التصديق بأنهم صادقون فيما أخبروا به عن الله تعالى، ودلَّ الإِجمال في الملائكة والكتب والرسل على الاكتفاء بذلك في الإيمان بهم، من غير تفصيل، إلا مَن ثبتت تسميته، فيجب الإيمان به على التعيين.
ومناسبة الترتيب المذكور، وإن كانت الواو لا تفيد الترتيب، هي أن المراد من التقديم أن الخير والرحمة من الله، ومن أعظم رحمته أن أنزل كتبه إلى عباده، والمتلقي لذلك منهم الأنبياء، والواسطة بين الله ويينهم الملائكة.
وقوله: "وتؤمن بالبعث" زاد في التفسير: "الآخر"، ولمسلم في حديث عمر:"واليوم الآخر" فأما البعث الآخر فقيل: ذكر الآخر تأكيدًا، كقولهم أمس الدابر أو الذاهب. وقيل: لأن البعث وقع مرتين، الأولى: الإخراج من العدم إلى الوجود، أو من بطون الأمهات بعد النطفة والعلقة إلى الحياة
الدنيا، والثانية: البعث من بطون القبور إلى محل الاستقرار، وهذا نظير قوله تعالى:{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} وأما اليوم الآخر، فقيل له ذلك لأنه آخر أيام الدنيا، أو آخر الأزمنة المحدودة، والمراد بالإيمان به التصديق بما يقع فيه من الحساب والميزان والجنة والنار، كما وقع التصريح بها في رواية سليمان التيمي، وحديث ابن عباس المشار إِليهما فيما مر، وإنما أعاد لفظ وتؤمن عند ذكر البعث، للإشارة إِلى أنه نوع آخر مما يؤمن به، لأن البعث سيوجد بعد، وما ذكر قبله موجود الآن، وللتنويه بذكره لكثرة من كان ينكره من الكفار، ولهذا كثر تكراره في القرآن.
وزاد الإسماعيلي في "مستخرجه" هنا: "وتؤمن بالقدر" وهي في رواية أبي فَرْوة المشار لها سابقًا، وكذا لمسلم من رواية عمارة بن القعقاع، وفي رواية كَهْمس عنده أيضًا، ورواية سليمان التيمي المشار لها:"وتؤمن بالقدر خيره وشره"، وفي رواية عطاء عن ابن عمر المشار لها أيضًا بزيادة:"وحلوه ومره من الله" وفيه إعادة لفظ وتؤمن أيضًا كلاهما البعث، إشارة إِلى ما يقَع فيه من الاختلاف، فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة تؤمن، ثم قرره بالإبدال بقوله:"خيره وشؤ وحلوه ومره"، ثم زاد تأكيدًا بقوله في الرواية الأخيرة:"من الله".
والقدر مصدر، تقول: قدرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها أقدره -بالكسر والفتح- قَدْرًا وقَدَرًا -بالتحريك والسكون- إذا أحطت بمقداره، والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين، إلى أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة.
وقد روى مسلم القصة في ذلك عن يحيى بن يَعْمر، قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة مَعْبد الجُهَنِيّ، قال: فانطلقت أنا وحُميد
الحِمْيَرِي، فذكر اجتماعهما بعبد الله بن عمر، وأنه سأله عن ذلك، فأخبره بأنه بريء ممن يقول ذلك، وأن الله لا يقبل ممن لم يؤمن بالقدر عملًا.
وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارىء عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها، قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب، ولا نعرف أحدًا يُنسب إليه من المتأخرين، قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الاستقلال، وهو مع كونه مذهبًا باطلًا أخف من المذهب الأول، وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارًا من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: إن سَلَّمَ القدريُّ العلمَ خُصِمَ. يعني: يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم؟ فإن منع وافق قول أهل السنة، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل لله تعالى، تعالى الله عن ذلك اهـ.
وظاهر السياق يقتضي أن الإيمان لا يطلق إلا على من صدق بجميع ما ذكر، وقد اكتفى الفقهاء بإطلاق الإيمان على من آمن بالله ورسوله، ولا اختلاف، لأن الإيمان برسول الله المراد به الإيمان بوجوده وبما جاء به عن ربه، فيدخل جميع ما ذكر تحت ذلك، وقد مر هذا في أول كتاب الإيمان.
وقوله: "أن تعبدَ اللهَ" العبادة: طاعة الله تعالى، مع تذلل وخضوع.
قال النووي: يحتمل أن يكون المراد بالعبادة معرفة الله، فيكون عطف الصلاة وغيرها عليها لإدخالها في الإِسلام، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقًا، فيدخل فيه جميع الوظائف، وعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من عطف الخاص على العام.
قال في "الفتح": أما الاحتمال الأول فبعيد، لأن المعرفة من متعلقات الإيمان، وأما الإِسلام فهو أعمال قولية وبدنية، وقد عبر في حديث عمر
عند مسلم بقوله:"أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله" فدل على أن المراد بالعبادة في حديث الباب النطق بالشهادتين، وبهذا تبين دفع الاحتمال الثاني، ولما عبر الراوي بالعبادة احتاج إلى أن يوضحها بقوله:"ولا تشرك به شيئًا" ولم يحتج إليها في رواية عمر، لاستلزامها ذلك، وإنما عبر بأن والفعل دون المصدر، لأن:"أن تفعل" تدل على الاستقبال، والمصدر لا يدل على زمان، فكان التعبير بما يدل على الاستقبال أولى. وفي رواية عثمان بن غياث عند أحمد في "مسنده" التعبير بالمصدر، فقال:"شهادة أن لا إله إلا الله" ولا يقال: إن السؤال عام، لأنه سأل عن ماهية الإِسلام، والجواب خاص، لقوله: أن تعبد، أو تشهد، وأن تؤمن، وفي الإحسان: أن تعبد، لأنا نقول: ليس المراد بمخاطبته بالإفراد اختصاصه بذلك، بل المراد تعليم السامعين الحكم في حقهم وحق من أشبههم من المكلفين، وقد تبين ذلك بقوله في آخره:"يعلّمُ الناس دينهم" وقوله: "ولا تشرك به" بالفتح، وفي نسخة كريمة بالضم، وفي رواية مسلم:"لا تشرك به شيئًا" وقد مرَّ أنها على ما قال في "الفتح" ذكرت للإيضاح. وعلى ما قال النووي في تفسير العبادة، قال: إنما ذكر بعد العبادة لأن الكفار كانوا يأتون بصورة عبادة الله تعالى في بعض الأشياء، ويعبدون الأوثان وغيرها، يزعمون أنهم شركاء، فنفى هذا.
وقوله: "وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة" قد مر في الحديث الأول من الإيمان الكلام على معنى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وعلى حقيقة الصلاة والزكاة، وعلى معنى الصوم والحج مستوفى.
وفي رواية مسلم: "الصلاة المكتوبة"، وهذا نظير قوله تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وقد اشتهرت تسميتها مكتوية في الأحاديث "الصحيحة" كقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أُقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوية"، "وخمس صلوات كتبهنَّ الله" و"أفضلُ الصلاة بعد المكتوبة .. " فيحتمل التقييد بذلك الاحتراز من النافلة، لأنها وإن كانت من وظائف الإِسلام فليست من أركانه، ويحتمل أن يكون المراد
مراعاة الأدب مع ألفاظ القرآن الكريم، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يلازم هذا الأدب كما اشتهر في الأحاديث الصحيحة كقوله عليه الصلاة والسلام:"آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته" فنكر مقامًا، وإن كان المراد مقامًا معينًا، مراعاة للأدب المذكور، قال الله تعالى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وأمثال هذا كثيرة، وأما تقييد الزكاة بالمفروضة، فقيل: احتراز من الزكاة المعجلة قبل الحول، لأنها زكاة وليست مفروضة الآن، والصحيح أنه احتراز من صدقة التطوع، فإنها زكاة لغة، وإنما فرق بين الصلاة والزكاة في التقييد كراهية تكريم اللفظ الواحد، وللتفنُّن في العبارة.
وقوله: "وتصوم رمضان" استدل به على جواز قول رمضان من غير إضافة شهر إليه، وهو الذي عليه الجمهور، واستدل له البخاري في كتاب الصوم بعدة أحاديث، ونقل عن أصحاب مالك الكراهية، وعن ابن الباقِلاّني منهم، وكثير من الشافعية أنه إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا يكره، ولم يذكر الحج إما ذهولًا أو نسيانًا، ويدل له مجيئه في رواية كَهْمَس عند مسلم:"وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا" وقيل: لأنه لم يكن فرض، ويرده ما في رواية ابن مَنْده بسند على شرط مسلم أن الرجل جاء في آخر عمره صلى الله تعالى عليه وسلم، فيُحتمل أن يكون بعد حجة الوداع، فإنها آخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام لتقرير أمور الدين التي بلغها مفترقة في مجلس واحد لتنضبط، ويدل على أن عدم ذكره إنما هو من اختلاف الرواة أن الصوم لم يذكر في رواية عطاء الخُراساني عند أبي نُعيم في "الحلية" وفي حديث أبي عامر عند أحمد ذكر الصلاة والزكاة فحسب، ولم يذكر في حديث ابن عباس عند أحمد أيضًا مزيدًا على الشهادتين، وذكر سليمان التَّيْمي في روايته عند ابن خُزيمة في "صحيحه" الجميع، وزاد بعد قوله:"وتحج وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء" وقال مَطَر الورّاق في روايته عند أبي عوانة في "صحيحه":
"وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة" قال: فذكر عرى الإِسلام، فتبين مما ذكر أن بعض الرواة ضبط ما لم يضبطه غيره.
وقوله: "ما الإحسان" مبتدأ وخبر، وال فيه للعهد، أي: ما الإحسان المتكرر في القرآن، المترتب عليه الثواب، كقوله تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقوله: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ ..} إلى غير هذا، وهو مصدر، لُقول: أحسن يحسن إحسانًا، ويتعدى بنفسه وبغيره، تقول: أحسنت كذا إذا أتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع، والأول هو المراد، لأن المقصود إتقان العبادة، وقد يلحظ الثاني بأن المخلص مثلًا محسن بإخلاصه إلى نفسه، وإحسان العبادة الإخلاص فيها، والخشوع، وفراغ البال حال التلبس بها، ومراقبة المعبود.
وقوله: "أن تعبدَ اللهَ كأنّك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراكَ" أشار بهذا الجواب إلى مقامين، مقام المشاهدة، ومقام المراقبة، وأرفعهما الأول، وهو أن تغلب عليه مشاهدة الحق بقلبه، حتى كأنه يراه بعينه، وهو قوله:"كأنك تراه" أي: وهو يراك، والثاني: أن يستحضر أن الحق مطلع عليه، يرى كل ما يعمل، وهو قوله:"فإنه يراك" وهاتان الحالتان يثمرهُما معرفةُ الله وخشيته.
وقد عبر في رواية عمارة بن القعقاع عند مسلم بقوله: "أن تخشى الله كأنك تراه" وكذا في حديث أنس عند البزار والبخاري في "خلق أفعال العباد" وقال النووي: معناه: أنك إنما تراعي الآداب المذكورة إذا كنت تراه ويراك، لكونه يراك لا لكونك تراه، فهو دائمًا يراك، فأحسن عبادته وان لم تره، فتقدير الحديث: فإن لم تكن تراه فاستمر على إحسان العبادة فإنه يراك.
قال القَسْطلاني تبعًا للشيخ زكرياء: ويتضح لك ذلك بأن تعرف أن للعبد في عبادته ثلاث مقامات:
الأول: أن يفعلها على الوجه الذي تسقط معه وظيفة التكليف، باستيفاء الشرائط والأركان.
الثاني: أن يفعلها كذلك، وقد استغرق في بحار المكاشفة، حتى كأنه يرى الله تعالى، وهذا مقامه صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال:"وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة" لحصول الاستلذاذ بالطاعة، والراحة بالعبادة، وانسداد مسالك الالتفات إلى الغير باستيلاء أنوار الكشف عليه، وهو ثمرة امتلاء زوايا القلب من المحبوب، واشتغال السرّ به، ونتيجته نسيان الأحوال من المعلوم، واضمحلال الرسوم.
الثالث: أن يفعلها وقد غلب عليه أن الله تعالى يشاهده، وهذا مقام المراقبة، فقوله:"فإن لم تكُن تراهُ" نزول عن مقام المكاشفة إلى مقام المراقبة، أي: إن لم تعبده وأنت من أهل الرؤية المعنوية، فاعبده وأنت بحيث أنه يراك.
وكل من المقامات الثلاث إحسان، إلا أن الإحسان الذي هو شرط في صحة العبادة إنما هو الأول، لأن الإحسان بالآخَرَيْن من صفة الخواص، ويتعذر من كثيرين، وإنما أخر السؤال عن الإحسان لأنه صفة الفعل. أو شرط في صحته، والصفة بعد الموصوف، وبيان الشرط متأخر عن المشروط.
قلت: الإحسان المذكور في الحديث ليس شرطًا في صحة الفعل كما مر قريبًا، فالصواب الاقتصار على المعنى الأول، أو يقال: إنه تكملة للأولين ليس داخلًا في حقيقتهما، فناسب ذلك تأخيره عنهما، وقال النووي تبعًا لعياض في أصل المعنى: وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين، وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين، وهو من جوامع الكَلِم التي أوتيها صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد ندب أهل التحقيق إلى مجالسة الصالحين، ليكون ذلك مانعًا من التلبس بشيء من
النقائص، احترامًا لهم، واستحياءً منهم، فكيف بمن لا يزال الله مطلعًا عليه في سره وعلانيته، وهو المحرك لجوارحه حين العلم.
زاد مسلم في رواية عمارة بن القعقاع قول السائل: "صدقت" عقب كل جواب من الأجوبة الثلاثة، وزاد أبو فَرْوة في روايته عند أبي داود والنسائي:"فلما سمعنا قول الرجل: صدقت، أنكرناه" وفي رواية كَهْمَس عند مسلم "فعجبنا له، يسأله ويصدقه" وفي رواية مَطَر الورّاق عند أبي عَوانة في "صحيحه": "انظُروا إليه كيف يسألُه، وانظُروا إليه كيف يصدقه" وفي حديث أنس عن البزار والبخاري في "خلق أفعال العباد": "انظروا وهو يسأله ويصدقه، كأنه أعلم منه" وفي رواية سُليمان بن بُريدة عن أحمد: "قال القوم: ما رأينا رجلًا مثلَ هذا، كأنه يعلِّم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يقول له: صدقت صدقت".
قال القُرطبي: إنما عجبوا من ذلك، لأن ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يُعرف إلا من جهته، وليس هذا السائل ممن عرف بلقائه عليه الصلاة والسلام، ولا بالسماع منه، ثم هو يسأل سؤال عارف بما يسأل عنه، لأنه يخبره بأنه صادق فيه، فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لذلك.
وقد دل سياق الحديث على أن رؤية الله في الدنيا بالأبصار غير واقعة، وقد صرح بذلك أبو أُمامة فيما رواه مسلم عنه، من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال:"اعلموا أنكم لن تَرَوْا ربَّكم حتى تموتوا" وأما رؤية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم له فذلك لدليل آخر، وقد يقال: رؤيته عليه الصلاة والسلام له تعالى لم تكن في دار الدنيا، بل كانت في الملكوت الأعلى، والدنيا لا تطلق عليه.
وأقدم بعض غلاة الصوفية على تأويل الحديث بغير علم، فقال: فيه إشارة إلى مقام المحو والفناء، وتقديره: فإن لم تكن أي: فإن لم تصر شيئًا، وفنيت عن نفسك، حتى كأنك لست بموجود، فإنك حينئذ تراه،
وغفل قائل هذا للجهل بالعربية عن أنه لو كان المراد ما زعم، لكان قوله:"تراه" محذوف الألف، لأنه يصير مجزومًا، لكونه على زعمه جواب الشرط، ولم يرد في شيء من طرق هذا الحديث حذف الألف، ولا ضرورة هنا تدعو إلى إثباته في الفعل المجزوم، وأيضًا لو كان ما ادعاه صحيحًا لكان قوله:"فإنه يراك" ضائعًا، لأنه لا ارتباط له بما قبله، ومما يفسد تأويله رواية كهمس عند مسلم، فإن لفظها:"فإنّك إنْ لا تراهُ، فإنه يراكَ" وكذلك رواية سليمان التيمي عند ابن خُزيمة، وفي رواية أبي فَروة المشار لها سابقًا:"فإن لم تره فإنه يراك"، ونحوه في حديث أنس وابن عباس المشار إليهما، فسلط النفي على الرؤية في كل هذه الروايات، لا على الكون الذي حُمل على ارتكاب التأويل المذكور.
قال العَيْني: هذه الروايات هي القاطعة لشغبهم، وأما الجواب المتقدم من جهة الصناعة فلا يقطعه، لأن لهم أن يقولوا: الجواب جملة حذف صدرها، تقديره: فأنت تراه، والجزم في الجملة لا يظهر، والمقدر كالملفوظ.
وقوله: "ما المسؤول عنها" ما نافية، وزاد في رواية أبي فَرْوة:"فنكس، فلم يجبه، ثم أعاد، قلم يُجِبْه ثلاثًا، ثم رفع رأسه، فقال: ما المسؤول".
وقوله: "بأعلم" الباء زائدة لتأكيد النفي، وهذا وإن كان مشعرًا بالتساوي في العلم، لكن المراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها، لقوله بعد:"خمس لا يعلمهن إلا الله" وهذا نظير التركيب في رواية أبي فَرْوة: "والذي بعث محمدًا بالحق، ما كنت لأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل".
قال القُرطبي: مقصود هذا السؤال كف السامعين عن السؤال عن وقت الساعة؛ لأنهم كانوا قد أكثروا السؤال عنها، كما ورد في الآيات والأحاديث، كقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} فلما
حصل الجواب بما ذكر، حصل اليأس من معرفتها، فانكفوا بخلاف الأسئلة الماضية، فإن المراد بها استخراج الأجوبة، ليتعلمها السامعون، ويعملوا بها. ونبه بهذه الأسئلة على تفصيل ما تمكن معرفته مما لا تمكن.
وقوله: "من السائل" عدل به عن قوله: لست بأعلم بها منك إلى لفظ يشعر بالتعميم، تعريضًا للسامعين، أي: إن كل مسؤول وكل سائل فهو كذلك، ووقع هذا السؤال والجواب بين عيسى بن مريم وجبريل، لكن كان عيسى سائلًا وجبريل مسؤولًا كما في نوادر الحُمَيْدي بسنده عن الشعبي، قال:"سأل عيسى بن مريم جبريل عن الساعة، قال: فانتفض بأجنحته، وقال: ما المسؤول عنه باعلم من السائل".
قال النووي: يستنبط منه أن العالم إذا سُئِل عما لا يعلم يصرح بأنه
لا يعلمه، ولا يكون في ذلك نقص في مرتبته، بل يكون ذلك دليلًا على مزيد ورعه، ولله در القائل:
ومَنْ كانَ يهوى أن يُرى متصدِّرًا
…
ويكرهُ لا أدري أُصيبت مقاتِلُهْ
وقد سئل مالك رحمه الله تعالى كما في "التمهيد" لابن عبد البر عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري.
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى في ثمان لا أدري ما الدهر، ومحل أطفال المسلمين، ووقت الختان، وإذا بال الخُنثى من الفرجين، والملائكة أفضل أم الأنبياء، ومتى يصير الكلب معلمًا، وسؤر الحمار، ومتى يطيب لحم الجلالة.
وسئل الشافعي رحمه الله تعالى عن المتعة أفيها طلاق أم ميراث أم نفقة تجب، فقال: والله ما أدري.
وكان أحمد رحمه الله تعالى يكثر من لا أدري.
وهذا لا ينافي ما هو مشهور في كتب الأصول، من حد الفقه بأنه
العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، واللام في الأحكام للاستغراق، فيكون الفقيه هو العالم بجميع الأحكام، لأن العلم فيه بمعنى الصلاحية، والتهيء لذلك بأن تكون له ملكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام، وإطلاق العلم على هذه الملكة مشتهر.
وقوله: "وساخبركَ عن أشراطها" وفي رواية أبي فَرْوة: "ولكن لها علاماتٌ تُعْرَفُ بها" وفي رواية كَهْمس قال: "فأخبرني عن أماراتها، فأخبره بها، فترددنا هل ابتدأه بذكر الإمارات، أو السائل سأله عن الإمارات" ويجمع بينهما بأنه ابتدأ بقوله: "سأخبرك"، فقال له السائل:"فأخبرني"، ويدل على ذلك رواية سليمان التَّيمي، ولفظها:"ولكن إن شئتَ نبأتُك عن أشراطها" قال: نعم.
والأشراط جمع شرط، كقلم وأقلام، وهي العلامات، ولم يذكر المؤلف هنا إلا علامتين، وقد عبر بالجمع، وأقله على الصحيح ثلاثة، وقد أجيب عن هذا بأنه جار على أن أقل الجمع اثنان كما هو مذهب مالك، مستدلًا بقوله تعالى:{وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} وليس له إلا طرفان. أو يجاب بأن المذكور من الأشراط ثلاثة، وإنما بعض الرواة اقتصر على اثنين منها، لأنه هنا ذكر الولادة والتطاول، وفي التفسير ذكر الولادة وتراؤس الحفاة.
وأخرج ابن خُزيمة والِإسماعيلي في "مستخرجه" وسليمان التيمي ذكر الثلاثة، والمراد هنا العلامات السابقة على مضايقة الساعة، لأن علامات الساعة على قسمين: ما يكون من نوع المعتاد، وهو المذكور هنا، وما يكون من غير المعتاد، كطلوع الشمس من مغربها، وهو المضايق للساعة قريب منها، وهي عشر كما أخرجه مسلم عن حُذيفة بن أسِيْد -بفتح أوله- قال: اطَّلَعَ علينا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن نتذاكر، فقال:"ما تتذاكرون؟ " قالوا: نذكر الساعة. قال: "إنها لن تقوم حتى ترَوْا قبلَها عشر آيات، فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع
الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن، فتطرد الناس إلى محشرهم" وهذا بظاهره يعارض حديث أنس المخرج عند البخاري، فإن فيه أن أول أشراط الساعة نار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وفي هذا أنها آخر الأشراط، ويجمع بينهما بأن آخريتها باعتبار ما ذكر معها من الآيات، وأوليتها باعتبار أنها أول الآيات التي لا شيء بعدها من أمور الدنيا أصلًا، بل يقع بانتهائها النفخ في الصور، بخلاف ما ذكر معها، فإنه يبقى بعد كل آية منها أشياء من أمور الدنيا.
قال في "الفتح" في كتاب الرقاق: والذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في مطلق الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى بن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة.
وأخرج مسلم عن عبد الله بن عمرو رفعه: "أول الآيات طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، فأيهما خرجت قبل الأخرى فالأخرى منها قريب".
قال في "الفتح": ولعل الحكمة في تقارنهما أن عند طلوع الشمس من مغربها يغلق باب التوبة كما في حديث أبي هُريرة عند البخاري وغيره مرفوعًا: "لا تقومُ الساعةُ حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك {حِيْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} الآية، ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم أو قريب منه، فتميز المؤمن من الكافر، تكميلًا للمقصود من إغلاق باب التوبة".
وروى الطبراني عن عبد الله بن عَمرو رفعه: "إذا طلع الشمس من مغربها خرَّ إبليسُ ساجدًا ينادي إلهي مُرني أن أسجد لمن شئت".
ووردت أحاديث في تتابع هذه العلامات، منها ما أخرجه أحمد ونُعيم بن حَمَّاد عن عبد الله بن عمرو رفعه:"الأياتُ خرَزَاتٌ منْظوماتٌ في سلك، فإذا انقطع السلك تبع بعضها بعضًا" وعن ابن عساكر من حديث حذيفة بن أَسيد الغِفاري رفعه: "بين يدي الساعة عشر آيات كالنظم في الخيط، إذا سقط منها واحدة توالت". وعن أبي العالية: "بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر يتتابعن كتتابع الخرزات في النظام" وما ورد عن عبد الله ابن عمرو موقوفًا على الصحيح أنه قال: "تبقى الناس بعد طلوع الشمس من مغربها عشرين ومئة سنة" يمكن الجمع بينه وبين ما ذكر من الأحاديث بأن المدة ولو كانت كما قال عشرين ومئة سنة، لكنها تمر مرورًا سريعًا، كمقدار مرور عشرين ومئة شهر من قبل ذلك، أو دون ذلك كما ثبت في "صحيح" مسلم عن أبي هريرة رفعه:"لا تقومُ الساعة حتى تكون السنة كالشهر .. الحديث" وفيه: "واليوم كاحتراق السَّعَفَة".
قلت: حديث عبد الله بن عَمرو وإن كان موقوفًا كما أخرجه عَبْد بن حُمَيد في "تفسيره" عنه بسند جيد، فله حكم الرفع، إذ لا مجال فيه للرأي، وعليه بني القُرطبي ما قال في "التذكرة" من قوله: فتوبة من شاهد ذلك، أو كان كالمشاهد له مردودة، لأن هذا من الإيمان بالمعاينة، لا من الإيمان بالغيب، كالإيمان عند الغرغرة، وهو لا ينفع، فلو امتدت أيام الدنيا بعد ذلك إلى أن يُنسى هذا الأمر، أو ينقطع تواتره، ويصير الخبر عنه آحادًا، فمن أسلم حينئذٍ أو تاب قُبِل منه.
وأيد ذلك بأنه روي أن الشمس والقمر يكسيان الضوء بعد ذلك، ويطلعان من المشرق، ويغربان من المغرب كما كانا قبل ذلك.
وأما ما ذكره أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن عِمْران بن حُصَيْن أنه قال: إنما لا يُقبل الإيمان والتوبة وقت الطلوع لأنه يكون حينئذٍ صيحة، فيهلك بها كثير من الناس، فمن أسلم أو تاب في ذلك الوقت لم تقبل توبته، ومن تاب بعد ذلك قبلت توبته، فقد قال في "الفتح": لا أصل له، وقد وردت آثار كثيرة يشد بعضها بعضًا متفقة على أن الشمس إذا
طلعت من المغرب أُغلق باب التوبة، ولم يفتح بعد ذلك، وأن ذلك لا يختص بيوم الطلوع، بل يمتد إلى يوم القيامة.
وما مر من كون الأشراط عشرة إنما هو باعتبار ذكرها مسرودة في حديث واحد، وإلا فقد وردت علامات كثيرة في أحاديث كثيرة متفرقة:
منها ما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود: "لا تقومُ الساعة حتى يكون الولد غيظًا، والمطرُ قيظًا، وتفيض الأيام فيضًا". وأخرج عن أم الغراب مثله، وزاد:"ويجترىء الصغير على الكبير، واللئيم على الكريم، ويخرب عمران الدنيا، ويعمر خرابها".
ومنها ما أخرجه أحمد، وأبو يَعْلى، والبزّار بسند جيد عن أنس:"إن أمام الدجال سنون خداعات، يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكاذب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرُّوَيْبِضَة". ومثله لابن ماجه عن أبي هُريرة، وفيه:"قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه رتكلم في أمر العامة".
ومنها ما أخرجه أحمد والطَّبَراني في حديث طويل عن سَمُرة: "لا تقومُ الساعة حتى تروا أمورًا عظامًا لم تحدثوا بها أنفسكم" وفي لفظ: "يتفاقَم شأنُها في أنفسكم، وتسألون: هل كان نبيكم ذكر لكم منها ذكرًا .. الحديث" وفيه: "وحتى تَرَوْا الجبال تزول عن أماكنها".
ومنها ما أخرجه البزار والطبراني وصححه ابن حِبّان والحاكم عن عبد الله بن عمرو: "لا تقومُ الساعة حتى يُتسافدَ في الطريق تسافد الحمر". ولأبي يَعْلى عن أبي هُريرة: "لا تَفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة، فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريناها وراء هذا الحائط". وللطبراني في "الأوسط" عن أبي هُريرة نحوه. وفيه: "يقول أمثلُهم: لو اعتزلتم الطريق". وفي حديث أبي أُمامة عند الطبراني: "وحتى تمر المرأة بالقوم، فيقوم إليها أحدهم، فيرفع بذيلها كما يرفع ذنب
النعجة، فيقول بعضهم: ألا واريتها وراء الحائط، فهو يومئذ فيهم مثل أبي بكر وعمر فيكم".
ومنها ما أخرجه ابن ماجه عن حُذيفة بن اليمان: "يَدْرُسُ الإِسلامُ كما يدْرسُ وشيُ الثوب، حتى لا يُدرى ما صيام، ولا صلاة، ولا نسك، ولا صدقة، وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ويقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها".
ومنها ما أخرجه أحمد بسند قوي عن أنس: "لا تقوم الساعة حتى لا يقالَ في الأرض: لا إله إلا الله"، وهو عند مسلم بلفظ:"الله الله"، وله من حديث ابن مسعود:"لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس".
ومنها ما أخرجه أحمد بسند جيد عن عبد الله بن عمر: "لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض، فيبقى عجاج لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا".
ومنها ما أخرجه الطّيالِسِيّ عن أبي هريرة: "لا تقوم الساعة حتى يرجع ناس من أمتي إلى الأوثان، يعبدونها من دون الله". ولمسلم من حديث ثَوْبان: "لا تقوم الساعة حتى تلتحق قبائلُ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائلُ من أمتي الأوثان". ولمسلم أيضًا عن عائشة: "لا تذهب الأيام والليالي حتى تُعْبَدَ اللاتُ والعزى من دون الله .. " الحديث، وفيه:"يبعث الله ريحًا طيبة، فيتوفى بها كل مؤمن في قلبه مثقال حبَّة من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم". وفي حديث حُذيفة بن أَسيد أن ذلك بعد موت عيسى بن مَرْيم.
وقد استشكلوا على ما ورد في هذا الحديث حديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، حتى يأتي أمر الله" فإن ظاهر هذا الأول أنه لا يبقى أحد من المؤمنين فضلاً عن القائم بالحق. وظاهر الثاني البقاء، ويمكن أن يكون المراد بقوله: أمر الله هبوب تلك الريح، فيكون الظهور
قبل هبويها، فبهذا الجمع يزول الإشكال، وأما بعد هبويها فلا يبقى إلا الشرار، وليس فيهم مؤمن، وعليهم تقوم الساعة، وتكون الساعة حينئذٍ كالحامل المتمِّ، لا يدري أهلها متى تضع من ليل أو نهار كما رُوي عن عيسى عليه السلام، أخرجه أحمد، وابن ماجه، وصححه الحاكم عن ابن مسعود، ولفظه: قال: "لما كان ليلة أسري برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لقي إبراهيم وموسى وعيسى، فتذاكروا الساعة، فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها، فلم يكن عنده منها علم، ثم سألوا موسى، فلم يكن عنده منها علم، فرد الحديث إلى عيسى فقال: قد عهد إلى فيما دون وجبتها، فأما وجبتها فلا يعلمها إلا الله، فذكر خروج الدجال، قال: فأنزل إليه فأقتله، ثم ذكر خروج يأجوج ومأجوج، ثم دعاءه بموتهم، ثم بإرسال المطر، فيُلْقي جيفَهم في البحر، ثم تُنسف الجبال، وتُمدُّ الأرض مد الأديم، فعُهِدَ إليَّ إذا كان ذلك، كانت الساعة كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادتها، ليلًا كان أو نهارًا.
هذا ما أردت إيراده هنا، وإذا أحياني الله تعالى إلى وصول الرقاق أو الفتن، كملت الكلام على بعض ما أجمل هنا، ولنرجع إلى تفسير الحديث، فأقول:
قوله: "إذا وَلَدَتِ الأمة ربها" عبر بإذا لإشعاره بتحقق الوقوع، لدلالة إذا على الجزم، ولم يعبر بإن لدلالتها على الشك، فلا يصح أن يقال: إن قامت القيامة كان كذا، بل يرتكب قائله محذورًا لأنه يشعر بالشك فيه، وقد ألغز الزَّمَخْشرِيّ في هذا المعنى فقال:
سَلِّمْ على شيخ النُّحاةِ وقُلْ لهُ
…
عندي سؤالٌ من يُجِبْهُ يعظَّمِ
أنا إنْ شكَكْتُ وَجَدْتني به جازمًا
…
وإذا جَزَمْتُ فإنّني لم أجْزِمِ
ولم أطّلع على من أجابه، وأجبته مبينًا علة الجزم وعدمه مني فقلت:
إنْ كنتَ في المعنى المؤدَّى حائرًا
…
بـ"إنِ" الّتي للشكِّ صرِّخْ واجزِمِ
وإذا تكونُ بما يؤدّى جازمًا
…
بـ"إذا" تؤدّيه وما إن تجزمِ
فالشكُّ يجبرُ وصمُهُ إعمالَها
…
وإذا بذاكَ الوصمِ لم تَتَثلَّمِ
ووقعت هذه الجملة بيانًا للاشتراط، نظرًا إلى المعنى والتقدير: ولادة الأمة، وتطاول الرعاة. وفي التفسير:"ربتها" بتاء التأنيث على معنى النسمة، فيشمل الذكر والأنثى. وفي رواية عثمان بن غِياث:"الإماء أربابَهُنَّ" بلفظ الجمع، والمراد بالرب المالك أو السيد، وقد اختلف العلماء في معنى هذه الكلمة اختلافًا كثيرًا، ملخصه أربعة أقوال:
الأول: وهو قول الأكثرين: إن معناه اتساع الإِسلام، واستيلاء أهله على بلاد الشرك، وسبي ذراريهم فهذا ملك الرجل الجارية واستولدها، كان الولد منها بمنزلة ربها، لأنه ولد سيدها، وهذا يرد عليه أن استيلاء الإماء كان موجودًا حين المقالة، والاستيلاء على بلاد الشرك وسبي ذراريهم واتخاذهم سراري وقع أكثره في صدر الإِسلام، وسياق الكلام يقتضي الإشارة إلى وقوع ما لم يقع مما سيقع قرب قيام الساعة، ووجه هذا القول بأن الإماء تلدن الملوك، فتصير الأم من جملة الرعية، والملك سيد رعيته، وقرب هذا التوجيه بأن الرؤساء في الصدر الأول كانوا يستنكفون غالبًا عن وطء الإماء، ويتنافسون في الحرائر، ثم انعكسر الأمر، ولاسيما في أثناء دولة بني العباس، ورواية:"ربتها" لتأويلها بالنسمة لا تنافي ذلك، وقال البعض: إن إطلاق ربها على ولدها مجاز، لأنه لما كان سببًا في عتقها بموت أبيه، أطلق عليه ذلك، وفسره بعضهم بأن النبي إذا كثر، فقد يُسبى الولد أولًا وهو صغير، ثم يعتق ويكبر ويصير رئيسًا بل ملكًا، ثم تُسبى أمه فيما بعد، فيشتريها وهو لا يشعر أنها أمه، فيستخدمها أو يتخذها موطوءة، أو يعتقها ويتزوجها، وقد جاء في بعض الروايات عند مسلم:"أن تلد الأمة بعلَها" فتحمل على هذه الصورة إن فسر البعل بالزوج، وقد يفسر بالرب كما عليه ابن عباس وغيره من المفسرين في قوله تعالى:{أَتَدْعُونَ بَعْلًا} أي: ربًّا، وقيل علم على صنم معين، وتفسيره بالرب أولى ليوافق الروايات.
القول الثاني: أن تبيع السادة أمهات أولادهم، ويكثر ذلك، فيتداول
الملاك المستولدة، حتى يشتريها ولدها ولا يشعر بذلك، وعلى هذا فالذي يكون من الأشراط غلبة الجهل بتحزيم بيع أمهات الأولاد، أو الاستهانة بالأحكام الشرعية، وهذا إنما يحصل إذا حُمِلَ البيع على صورة اتفاقية، كبيعها في حال حملها، فإنه حرام بالإجماع، وأما بيعها في غير هذه الصورة فلا يحصل فيه ما ذكر، لأنه مختلف فيه، والفاعل له معتقدًا الجواز لا يُنسب للجهل ولا الاستهانة بالشرع.
الثالث: وهو من نمط الذي قبله، أن شراء الولد أمه لا يختص بامهات الأولاد، بل يتصور في غيرهن، بأن تلد الأمة حرًّا من غير سيدها بوطء شبهة، أو رقيقًا بنكاح أو زنى، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعًا صحيحًا، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ابنها أو بنتها، ولا يرد على هذا تفسير محمد بن بِشْر بأن المراد بالإماء السراري، لأنه تخصيص بغير دليل.
الرابع: أن يكثر العقوق في الأولاد، فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من الإهانة بالسب والضرب والاستخدام، فأطلق عليه ربها مجازًا لذلك، أو المراد بالرب المربي، فيكون حقيقة، وأورد على هذا أنه لا وجه لتخصيص ذلك بولد الأمة إلا أن يُقال: إنه أقرب إلى العقوق.
قال في "الفتح": وهذا أوجه الأوجه عندي لعمومه، ولأن المقام يدل على أن المراد حالة تكون مع كونها تدل على فساد الأحوال، مستغربة، ومحصلة الإشارة إلى أن الساعة يقرب قيامها عند انعكاس الأمور، بحيث يصير المربَّى مربيًا، والسافل عاليًا، وهو مناسب لقوله في العلامة الأخرى:"أن تصير الحفاة العراة ملوك الأرض".
قال النووي: ليس فيه دليل على تحريم بيع أمهات الأولاد ولا على جوازه، وقد غلط من استدل به لكل من الأمرين، لأن الشيء إذا جعل علامة على شيء آخر لا يدل على حظر ولا إباحة، وقد استدل به إمامان كبيران، أحدهما على الإباحة، والآخر على المنع، وذلك عجيب منهما، وقد أُنكر ذلك عليهما، وهو موضع الإنكار.
اعلم أنه جاء في هذا الحديث إطلاق الرب على السيد المالك في قوله: "ربها" وهو معارض لما أخرجه الشيخان من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقُل أحدُكم: أطعم ربَّك، وضِّىء ربَّك، اسق ربك، وليقل: سيدي ومولاي" والجواب عن هذا أن الذي يختص بالله تعالى إطلاق الرب بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه، كما في قوله تعالى إخبارًا عن يوسف عليه السلام:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} وقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: "ربها" فدل على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز، وقيل: هو مخصوص بغير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يرد ما في القرآن، أو المراد النهي عن الإِكثار من ذلك، واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة.
قلت: الأحسن من الأجوية هو الأخير، وفي حديث النهي دلالة على ذلك؛ لأن قوله:"أطعم ربك، اسق ربك، وضىء ربك" يدل على أنه أراد النهي عن استعمال ذلك في كل الخطاب، ولو لم يرد هذا المعنى لكان يكفي أن يقول: لا يقل ربك أو ربي، والجواب يحمل النهي على التنزيه لا بأس به أيضًا، وأما الأول فغير صحيح لتصريح الحديث بالنهي عما فيه الإضافة، فكيف يجعل هو محل الجواز قطعًا.
وقوله: "وإذا تطاول" أي: تفاخروا في تطويل البنيان، وتكاثروا فيه.
وقوله: "رعاة الإبل البُهْم في البنيان" الرعاة -بضم الراء- جمع راع كقضاة وقاض، والبُهْم -بضم الموحدة وسكون الهاء- جمع أبْهم، يجوز فيه الرفع نعتًا للرعاة، والكسر نعتًا للإبل. وعلى الأول: وصف الرعاة بذلك إما لأنهم مجهولو الأنساب، ومنه: أُبْهِمَ الأمر فهو مبهم إذا لم تعرف حقيقته، أو لأنهم سود الألوان، لأن الأدمة غالب ألوانهم، وقيل: معناه لا شيء لهم، كقوله عليه الصلاة والسلام:"يحشرُ الناس حفاةً عراةً بهمًا"
ولا يرد على هذا إضافة الإبل لهم، لأنها إضافة اختصاص لا ملك على هذا، والغالب أن الراعي يرعى لغيره بالأجرة، وأما المالك فقَلَّ أن يباشر الرعي بنفسه. وعلى الثاني: فوصف الِإبل بالبهم، أي: السود، لأنها شر الألوان عندهم، وخيرها الحمر التي ضرب بها المثل، فقيل: خير من حمر النعم.
وفي رواية مسلم: "رعاء البَهْم" -بفتح الباء- وهي صغار الغنم من الضَّأْن والمعز، وفي رواية للأصيلي كذلك، لكنها لا تتجه مع ذكر الإِبل، وإنما تتجه مع ذكر الشياه، أو مع عدم الإضافة كما في مسلم. وقوله في التفسير:"وإذا كانت الحفاة العراة رؤوس الناس" زاد الإسماعيلي: "الصم البكم"، وقيل لهم ذلك مبالغة في وصفهم بالجهل، أي: لم يستعملوا أسماعهم ولا أبصارهم في شيء من أمر دينهم، وإن كانت حواسهم سليمة.
وقوله: "رؤوس الناس" أي: ملوك الأرض، كما صرح به الإسماعيلي، والمراد بهم البادية، كما صرح به سليمان التَّيْمي، قال: ما الحفاة العراة؟ قال: العُرَيْب: وهو بالعين المهملة على التصغير. وفي الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا: "من انغلاب الدين تفصُّحُ النَّبَط، واتخاذهم القصور في الأمصار".
قال القرطبي: المقصود الإخبار عن تبدل الحال، بأن يستولي أهل البادية على الأمر، ويتملكوا البلاد بالقهر، فتكثر أموالهم، وتنصرف هممهم إلى تشييد البنيان والتفاخر به. قال: وقد شاهدنا ذلك في هذا الزمان.
ولو حضر زماننا هذا لرأى ما هو أفظع من ذلك، وهذا كله عبارة عن ارتفاع الأسافل كالعبيد ورعاة الإبل، وما أحسن قول القائل:
إذا التَحَقَ الأسافلُ بالأعالي
…
فقَدْ طابَتْ منادمةُ المنايا
وقال البيضاوي: بلوغ الغاية منذر بالتراجع المؤذن بأن القيامة ستقوم كما قيل:
وعند التّناهي يقصُرُ المتطاولُ
ومن هذا المعنى الحديث الآخر: "لا تقوم الساعة حتى يكون أسعدَ الناس بالدنيا لكعُ ابن لكع" ومنه: "إذا وسِّدَ الأمر -أي أُسند- إلى غير أهله، فانتظر الساعة" وكلاهما في "الصحيح".
وقوله: "في خمس" الجار متعلق بمقدر: وهو داخل، أي: علم وقت الساعة داخل في جملة خمس، كما في قوله:{فِي تِسْعِ آيَاتٍ} أي: اذهب إلى فرعون بهذه الآية في تسع آيات، فالمحذوف: اذهب، وفي رواية عطاء الخُراساني عند أبي نُعَيم في "الحلية":"قال: فمتى الساعة؟ قال: هي في خمس لا يعلمها إلا الله".
قال القرطبي: لا مطمع لأحد في علم شيء من هذه الأمور الخمس لهذا الحديث، وقد فسر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قول الله تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} بهذه الخمس، وهو في "الصحيح" قال: فمن ادعى علم شيء منها غير مسنده إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان كاذبًا في دعواه. قال: وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي، وليس ذلك بعلم.
وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على تحريم أخذ الأجرة والجعل وإعطائها في ذلك.
وأخرج حَميد بن زَنْجويه عن بعض الصحابة أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل ظهوره، فأنكر عليه، فقال: إنما الغيب خمس، وتلا هذه الآية، وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم.
وفي "شرح المناوي الكبير": خمس لا يعلمهن إلا الله، أي: على
وجه الإحاطة والشمول كليًّا وجزئيًّا، فلا ينافيه إطلاع الله تعالى بعض خواصه على بعض المغيبات، حتى من هذه الخمس، لا على وجه الإحاطة والشمول، بل على وجه الإجمال.
وقوله: "ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية" أي: تلاها إلى آخر السورة، إلى قوله:{خَبِيرٌ} ، وأما ما وقع عند المؤلف في التفسير، من قوله:"إلى الأرحام" فهو تقصير من بعض الرواة، والسياق يرشد إلى أنه تلا الآية كلها، وقد تضمن هذا الجواب زيادة على السؤال، للاهتمام بذلك، إرشادًا للأمة، لما يترتب على معرفة ذلك من المصلحة. فإن قيل: ليس في الآية أداة حصر كما في الحديث، أجاب الطيبي بأن الفعل إذا كان عظيم الخطر، وما ينبني عليه الفعل رفيع الشأن، فُهِم منه الحصر على سبيل الكناية، ولاسيما إذا لوحظ ما ذكر في أسباب النزول من أن العرب كانوا يدعون علم نزول الغيث، فيشعر بأن المراد من الآية نفي علمهم بذلك، واختصاصه بالله سبحانه وتعالى.
وسبب نزول هذه الآية ما أخرجه ابن المنذر والبَغَوي والواحدي والثَّعْلَبي عن عكرمة، أن رجلًا يقال له: الحارث بن عَمرو، جاء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا محمد: متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادُنا فمتى تخصُب؟ وقد تركت امرأتي حُبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبتُ اليوم فماذا أكسب غدًا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟ فنزلت هذه الآية.
والنكتة في العدول عن الإثبات إلى النفي في قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وكذا التعبير بالدراية دون العلم للمبالغة والتعميم، إذ الدراية اكتساب علم الشيء بحيلة، فإذا انتفى ذلك عن كلل نفس مع كونه من مختصاتها، ولم تقع منه على علم، كان عدم اطلاعه على علم غير ذلك من باب أولى.
وقد قال القسطلاّني: إن الله عز وجل إِذا أمر بالغيث وسَوْقه إِلى ما شاء من الأماكن، علمته الملائكة الموكلون به، ومن شاء سبحانه من خلقه عز وجل، وكذا إذا أراد تبارك وتعالى خلق شخص في رحم، يعلِّمُ سبحانه الملك الموكل بالرحم بما يريد جل وعلا، كما يدل عليه ما أخرجه البخاري، عن أنس، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:"إن الله تعالى وكَّلَ بالرحمِ ملكًا، يقول: يا رب نطفة، يا رب علقة، يا رب مضغة، فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه، قال: أذكر أم أنثى، شقي أم سعيد، فما الرزق والأجل، فيكتب في بطن أمه، فحينئذ يعلم ذلك الملك، ومن شاء تعالى من خلقه" وهذا لا ينافي الاختصاص والاستئثار بعلم المذكورات، لأن المراد بالعلم الذي استأثر به سبحانه العلم الكامل بأحوال كل على التفصيل كما مر، وما يعلم به الملك، ويطلع عليه بعض الخواص دون ذلك العلم الكامل.
قلت: ومن هذا القبيل ما رُوي عن أبي بكر في مرض موته، من قوله لعائشة رضي الله تعالى عنهما: وإنما هما أخواك وأختاك، ولم تكن عائشة عالمة حينئذ إِلا بأخت واحدة، وهي أسماء، وكانت بنت خارجة زوجة أبي بكر رضي الله تعالى عنه حاملًا بأم كلثوم، فلما ولدت علمت مراد أبي بكر رضي الله تعالى عنه بقوله: أختاك، ولما قالت له: ما هي إلا أسماء فمن الأخرى؟! قال لها: ذو بطن بنت خارجة، ما أظنها إلا أنثى. فكان كذلك، وبنت خارجة اسمها حبيبة، وهذا الأثر أخرجه في "الموطأ" بقصته في باب ما لا يجوز من النحل في الأقضية.
وقوله: "ثم أدبر، فقال: ردوه، فلم يروا شيئًا" وفي التفسير: "فأخذوا ليردوه، فلم يروا شيئًا" ففيه أن الملك يجوز أن يتمثل لغير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فيراه، ويتكلم بحضرته، وهو يسمع، وقد ثبت عن عِمران بن حُصَين أنه كان يسمع كلام الملائكة.
وقوله: "جاء يعلِّمُ الناسَ دينَهم" في التفسير: "ليعلم"،
وللإسماعيلي: "أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا"، وفي رواية أبي فَرْوَة فيما مر:"والذي بعث محمدًا بالحق، ما كنت بأعلم به من رجل منكم، وإنه لجبريل" وفي حديث أبي عامر عند أحمد: "ثم ولى، فلم نر طريقه، قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان الله، هذا جبريل، جاء يعلم الناس دينهم، والذي نفسُ محمد بيده، ما جاءني قطُّ إلا وأنا أعرفه، إلا أن تكون هذه المرة"، وفي رواية سليمان التَّيْمِي:"ثم نهض، فولى، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: علي بالرجل، فطلبناه كل مطلب، فلم نقدر عليه، فقال: هل تدرون من هذا؟ هذا جبريل أتاكم ليعلمكم دينكم، خذوا عنه، فوالذي نفسي بيده ما شُبِّهَ عليَّ منذ أتاني قبل مرتي هذه، وما عرفته حتى ولّى".
وقول ابن حِبّان: إن سليمان التيمي تفرد بقوله: "خذوا عنه" فيه أنه إنما تفرد بالتصريح، لأن قوله عليه الصلاة والسلام في الروايات الآخر:"جاء يعلم الناس دينهم" فيه إشارة إلى هذه الزيادة، وفي هذه الروايات أنه عليه الصلاة والسلام ما عرف أنه جبريل إلا في آخر الحال، وأن جبريل أتاه في صورة رجل حسن الهيئة، غير معروف لديهم، فما وقع في رواية النسائي من قوله:"وإنه لجبريل نزل في صورة دِحْيَة الكَلْبي" وهم وغلط، لأن دحية معروف عندهم، وقد قال عمر فيما مر:"ما يعرفُهُ منّا أحد" واتفقت هذه الروايات أيضًا على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخبر الصحابة بشأنه بعد أن التمسوه فلم يجدوه، فما وقع عند مسلم وغيره من حديث عمر في رواية كَهْمس:"ثم انطلق، قال عمر: فلبثت مليًّا، ثم قال: يا عمر: أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل" وفي رواية النسائي والترمذي: "فلبثت ثلاثًا" وفي رواية أبي عوانة: "فلبثنا ليالي، فلقيني رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ثلاث" ولابن حبان: "بعد ثالثة"، ولابن مَنْده:"بعد ثلاثة أيام" فقد جمع النووي بين الأحاديث المذكورة، بأن عمر لم يحضر قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المجلس، بل كان ممن قام إمّا مع الذين
توجهوا في طلب الرجل، أولشغل آخر، ولم يرجع مع من رجع لعارض عرض له، فأخبر عليه الصلاة والسلام الحاضرين في الحال، ولم يتفق الإخبار لعمر إلا بعد ثلاثة أيام، ويدل عليه قوله:"فلقيني"، وقوله:"فقال لي: يا عمر"، فوجه الخطاب له وحده، بخلاف إخباره الأول، وهو جمع حسن.
وفي قوله: "يعلمكم دينكم" دلالة على أن السؤال الحسن يسمى علمًا وتعليمًا، لأن جبريل لم يصدر منه سوى السؤال، ومع ذلك فقد سماه معلمًا، وقد اشتهر قولهم: حسنُ السؤال نصف العلم، ويمكن أن يؤخذ من هذا الحديث، لأن الفائدة فيه انبنت على السؤال والجواب معًا.
وقال القُرطبي: هذا الحديث يصلح أن يقال له: أم السنة، لما تضمنه من جمل علم السنة.
وقال الطيبي: لهذه النكتة استفتح به البغوي كتابيه "المصابيح" و"شرح السنة" اقتداء بالقرآن في افتتاحه بالفاتحة، لأنها تضمنت علوم القرآن إجمالًا.
وقال القاضي عِياض: اشتمل هذا الحديث على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان ابتداء وحالًا ومآلًا، ومن أعمال الجوارح، ومن إخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه.
وقوله: "قال أبو عبد الله" جعل ذلك كله من الإيمان، وأبو عبد الله المراد به البخاري نفسه، وقد قال في أول الباب:"فجعل ذلك كله دينًا"، أما جعله دينًا فظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث:"جاء يعلم الناس دينهم"، وأما جعله إيمانًا، فكلمة "من" إمّا تَبْعيضيّة، والمراد بالإيمان هو الإيمان الكامل المعتبر عند الله تعالى، وعند الناس، فلا شك أن الإِسلام والإحسان داخلان فيه، وإما ابتدائية، ولا يخفى أن مبدأ
الإحسان والإِسلام هو الإيمان بالله، إذ لولا الإيمان به لم تتصور له العبادة.
وقوله: "فجعل ذلك كله دينًا" لا يدل على اتحاد الإِيمان والإِسلام، بل يدل على أن الدين اسم لمجموع هذه الثلاثة، وقوله الأخير:"جعل ذلك كله من الإيمان" دال على اتحادهما، وهذه مسألة اختلف العلماء فيها، وقد ذكرت طرفًا من الكلام فيها في أول كتاب الإيمان، وها أنا أذكر هنا حاصل ما ذكره في "الفتح".
فقد نقل أبو عُوانة الإسفراييني في "صحيحه" عن المُزَني صاحب الشافعي الجزم بأنهما عبارة عن معنى واحد، وأنه سمع ذلك منه، وعن الإِمام أحمد الجزم بتغايرهما، ولكل من القولين أدلة متعارضة.
وقال الخطابي: صنف في المسألة إمامان كبيران، وأكثرا من الأدلة للقولين، وتباينا في ذلك، والحق أن بينهما عمومًا وخصوصًا، يعني: مطلقًا، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا.
قال في "الفتح": ومقتضاه أن الإِسلام لا يطلق على الاعتقاد والعمل معًا، بخلاف الإيمان، فإنه يطلق عليهما معًا، ويرد عليه قوله تعالى:{وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} فإن الإِسلام هنا يتناول العمل والاعتقاد معًا، لأن العامل غير المعتقد ليس بذي دين مرضي، وبهذا استدل المزني، وأبو محمد البغوي، فقال في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الإِسلام هنا اسمًا لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسمًا لما بطن من الاعتقاد، وليس ذاك لأن الأعمال ليست من الإيمان، ولا لأن التصديق ليس من الإِسلام، بل ذاك تفصيل لجملة اسمها شيء، وجماعها الدين، ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم:"أتاكُم يعلمكم دينكم" وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} وقال: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} ولا يكون الدين في محل الرضى والقبول إلا بانضمام التصديق.