الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والخمسون
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ قَالَ سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ، فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ، ثُمَّ قَالَ اسْتَعْفُوا لأَمِيرِكُمْ، فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ الْعَفْوَ. ثُمَّ قَالَ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّى أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قُلْتُ يَا رَسُولَ الله أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلَامِ. فَشَرَطَ عَلَيَّ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا، وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إِنِّى لَنَاصِحٌ لَكُمْ. ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ.
قوله: "سمعت جرير بن عبد الله يقول" أي: سمعت كلامه، فالمسموع هو الصوت والحروف، فلما حذف هذا وقع ما بعده تفسيرًا له، وهو قوله:"يقول".
قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {إنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه، وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع.
وقوله: "يوم مات المُغيرة بن شُعبة" ويوم بالنصب على الظرفية، أضيف إلى قوله مات، وكان المغيرة واليًا على الكوفة في خلافة معاوية، واستناب عند موته ولده عروة، وقيل: استناب جريرًا، ولذا خطب الخطبة المذكورة.
وقوله: "قام فحمد الله" أي: أثنى عليه بالجميل عقب قيامه. لأن الحمد لغة هو الوصف بالجميل على الجميل الاختياري أو القديم، سواء كان من باب الإحسان أو من باب الكمال، والحمد عرفًا هو الثناء باللسان
أو القلب أو غيرهما من الأركان في مقابلة نعمة، وجملة قام لا محمل لها من الإعراب لأنها استئنافية.
وقوله، "وأثنى عليه" أي: ذكره بالخير مطلقًا، أو الأول وصف بالتحلي بالكمال، والثاني وصف بالتخلي عن النقائص، وحينئذ فالأولى إشارة إلى الصفات الوجودية، والثانية إلى الصفات العدمية، أي: التنزيهيات.
وقوله: "عليكم باتقاء الله وحده" أي: الزموه وحده، أي: حال كونه منفردًا بالاتقاء لا شريك له في ذلك، والاتقاء أفتعال من التقوى، والتقوى مشتقة من الوقاية بمعنى الصيانة، لأنها تصون صاحبها من إرتكاب الرذائل في الدنيا، أو من العذاب في الآخرة، وقد سئل علي رضي الله تعالى عنه عن التقوى، فقال: هي العمل بما في التنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل، والخوف من الجليل. وبعض العلماء قسم التقوى إلى ثلاث مراتب:
الأولى: التقوى بالتبرّي عن الشرك الموجب للخلود في النار، وعليه قوله تعالى:{وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} .
والثانية: التجنب عن كل ما فيه إثم من فعل أو ترك، حتى الصغائر عند قوم، وهو المعنى بقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} .
والثالثة: أن يتنزه عن كل ما يشغل سره عن الحق، وهذا هو المطلوب بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} وفسر بعضهم حق التقاة بأن يطاع فلا يُعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، وهذا مقام الأنبياء المرسلين، ويكون لخواص عباد الله الذين على قدم الأنبياء، ولهذا قال بعض العارفين:
ولَو خَطَرَتْ لي في سواكَ إرادةٌ
…
على خاطِرِي يومًا حكمتُ بردَّتي
وليس معنى هذا أنه يصير كافرًا يستحق الخلود في النار، بل هذا لسان محب عاشق، وردته نقصه عن مرتبة حبه إلى مرتبة أدنى منها في الحب، ونظم المختار بن بون هذه المراتب الثلاث في "وسيلته" مقدمًا في النظم
الرتبة الثانية ثم الثالثة ثم الأولى، فقال:
والأتْقِيا مَنْ لا ينونَ لَهُمُ
…
تنزةٌ عَنْ كلِّ ما يُؤثِّمُ
أعلى مراتب الثُّقى التَّنَزُّهُ
…
عن شاغلٍ عن الذي الأمرُ لهُ
وربَّما أُطَلق في التَّبَرّي
…
عن جعلِ للهِ شريكٍ فادْرِي
وفي "تفسير" ابن جُزي درجات التقوى خمس: أن يتقي العبد الكفر وذلك مقام الإِسلام، وأن يتقي المعاصي وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي خطور غير الله تعالى على قلبه وهو مقام المشاهدة.
وفي "ضياء التأويل" عند قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} إن في المواضع الثلاثة إشارة إلى مراتب التقوى، الأولى: اتقاء المحارم تقوى العوام، والثانية: اتقاء الشبهات تقوى الخواص، والثالثة: اتقاء غير الله تعالى، وهو ربط سره على الله، وهو تقوى خواص الخواص، فهذه مراتب المبدأ والوسط والمنتهى.
وقيل: في الآية غير هذا، فقيل: الأول: اتقوا المحرمات خوف الوقوع في الكفر. والثاني: الشبهات خوف الوقوع في المحرمات. والثالث: بعض المباحات خوف الوقوع في الشبهات.
وقيل: الأول تقوى العبد بينه وبين ربه، والثاني: تقوى العبد بينه وبين نفسه، والثالث: تقوى العبد بينه وبين الناس. لأن العبد لا يكمل إلا إذا كان طائعًا فيما بينه وبين ربه، مجاهدًا فيما بينه وبين نفسه، محافظًا على حقوق العباد، وقد أشبعنا الكلام على التقوى في كتابنا على التصوف المسمى بـ"تصوف السعادة والنجاح".
وقوله: "والوَقار والسكينة" بالجر عطف على اتقاء، أي: وعليكم بالوَقار، وهو بفتح الواو الرزانة، والسكينة السكون، والصحيح في تفسيرهما ما نظمه شيخنا عبد القادر بقوله:
وخفْضُ صوتٍ ثمَّ غضُّ البصرِ
…
هُو الوَقارُ عندَهُم في الأشهرِ
أما السكينةُ فبالتَّأني
…
وعدمِ الفعلِ لما لا يَعْني
وإنما أمرهم بما ذكر مقدمًا لتقوى الله تعالى، لأن الغالب أن وفاة الأمراء تؤدي إلى الاضطراب والفتنة، ولاسيما ما كان عليه أهل الكوفة، إذ ذاك من مخالفة ولاة الأمور.
وقوله: "حتى يأتيكم أمير" أي: بدل أميركم المغيرة المتوفى، ومفهوم الغاية هنا من حتى، وهو أن المأمور به وهو الاتقاء ينتهي بمجيء الأمير ليس مرادًا، بل يلزم ذلك بعد مجيء الأمير بطريق الأولى، وشرط اعتبار مفهوم المخالفة أن لا يعارضه مفهوم الموافقة.
قلت: القاعدة النحوية أن حتى وإلى متى دلت قرينته على دخول الغاية في حكم ما قبلهما، أو على عدم دخولها، عُمل بتلك القرينة، وإلا فثالثها تدخل مع حتى دون إلى وهو الأصح، والقرينة هنا دالة على دخول الغاية، لأن الطاعة مطلولة شرعًا طلبًا مطلقًا، وطلبها مع وجود الأمير آكد، فلا يحتاج إلى الجواب السابق مع القاعدة النحوية.
وقوله: "فإنما يأتيكم الآن" الآن منصوب على الظرفية، وهو ظرف للوقت الحاضر جميعه، كوقت فعل الإنسان حال النطق به، أو الحاضر بعضه نحو قوله تعالى:{فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ} ويحتمل أن تكون هنا على حقيقتها، فيكون الأمير جريرًا بنفسه لما رُوي أن المغيرة استخلف جريرًا على الكوفة عند موته، ويحتمل أن يراد بها الزمن القريب من الحاضر، وهو كذلك، لما رُوي أن معاوية لما بلغه موت المغيرة كتب إلى نائبه على البصرة زياد أن يسير إلى الكوفة أميرًا عليها.
وقوله: "ثم قال: استَعْفُوا لأميركم" بالعين المهملة، أي اطلبوا له العفو من الله تعالى، وفي رواية ابن عساكر:"استغفرُوا" بغين معجمة وراء.
وقوله: "فإنه كان يحبُّ العفوّ" يعني عن ذنوب الناس، وفيه إشارة إلى أن الجزاء يقع من جنس العمل.
وقوله: "ثم قال: أما بعد" ببناء بعد على الضم، ظرف زمان حذف منه المضاف إليه، ونُوي معناه، وكلمة أما بمعنى الشرط، أي: مهما يك من شيء فقد كان كذا، وتلزم الفاء في تالي تاليها، والتقدبر: أما بعد كلامي هذا فإني .. إلخ، وقد قيل: إن فصل الخطاب الذي أُعطيه داود عليه السلام هو أما بعد، وقيل: إنه هو أول من تكلم بها، وهو أقرب الأقوال، رواه الطبرانيُّ مرفوعًا عن أبي موسى، وفي إسناده ضعف. وقيل: يعقوب عليه السلام. وقيل: يَعْرُب -كينصر- ابن قحْطان.
وفي "غرائب مالك" للدَّارَقُطني أن يعقوب عليه السلام أول من قالها، فإن ثبت وقلنا: إن قحطان من ذرية إسماعيل. فيعقوب أول من قالها مطلقًا، وإن قلنا: إن قحطان قبل إبراهيم فيعْرُب أول من قالها، وقيل: كعب بن لؤي، أخرجه القاضي أبو أحمد الغَسَّاني بسند ضعيف، وقيل: قس بن ساعدة الإياديّ، وقيل سَحْبان وائل، وقيل: أيوب عليه السلام، ونظم الأقوال السبعة بعضهم فقال:
جَرَى الخُلْفُ أما بعدُ مَنْ كانَ بادئا
…
بها سبعُ أقوالٍ وداودُ أقربُ
لفصلِ خطابٍ ثمَّ يعقوبُ قسُّهُم
…
فسَحْبانُ أيوبٌ فكعبٌ فيَعْرُبُ
وقد روى أربعون صحابيًّا أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول: أما بعد في خطبه ورسائله، وقد تقدمت أما بعد في حديث هرقل، وتكلمت عليها هناك، ولكن الكلام عليها في هذا المحل اوسع.
وقوله: "قلت: يا رسول الله" لم يأت بأداة العطف، لأنه بدل اشتمال من أتيت، أو استئناف. وفي رواية أبي الوقت:"فقلت له".
قوله: "فشرط علي والنصح لكل مسلم" والنصح بالخفض عطفًا على الإِسلام، ويجوز نصبه عطفا على مقدر أي: شرط على الإِسلام والنصح، والتقييد بالمسلم للأغلب، وإلا فالنصح للكافر الذمي معتبر بأن يدعى
إلى الإِسلام، ويشار عليه بالصواب إذا استشار، واختلف العلماء في البيع على بيعه ونحو ذلك، فجزم أحمد أن ذلك يختص بالمسلمين، واحتج بهذا الحديث.
وقوله: "ورب هذا المسجد" أي: مسجد الكوفة، فإن كلامه هذا مشعر بأن خطبته كانت في المسجد، ويجوز أن يكون إشارة إلى جهة المسجد الحرام، ويدل عليه رواية الطبراني بلفظ:"ورب الكعبة" وذكر ذلك للتنبه على شرف المقسم به، ليكون أدعى للقبول.
وقوله: "إني لكُم لناصحٌ" فيه إشارة إلى أنه وفي بما بايع عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأن كلامه عارٍ عن الأغراض الفاسدة، والجملة جواب القسم مؤكد بإن، والسلام والجملة الاسمية.
وقوله: "ثم استغْفر ونزل" مشعر بأنه خطب على المنبر، أو المراد قعد؛ لأنه في مقابلة قوله:"قام فحمد الله تعالى".
وقد ختم كتاب الإيمان بباب النصيحة، مشيرًا إلى أنه عمل بمقتضاه في الإرشاد إلى العمل بالحديث الصحيح دون السقيم، ثم ختمه بخطبة جرير المتضمنة لشرح حاله في تصنيفه، فأومأ بقوله:"فإنما يأتيكم الآن" إلى وجوب التمسك بالشرائع حتى يأتي من يقيمها، إذ لا تزال طائفة منصورة، وهم فقهاء أصحاب الحديث. وبقوله:"استعفُوا لأميركم" إلى طلب الدعاء له لعمله الفاضل، ثم ختم بقوله:"استَغْفَر ونزل" فأشعر بختم الباب، ثم عقبه بكتاب العلم لما دل عليه حديث النصيحة أن معظمها يقع بالتعلم والتعليم، هكذا قال في "الفتح"، وفي كون البخاري قصد هذا كله تكلف لا يخفى.
رجاله أربعة وفيه ذكر المغيرة بن شعبة.
الأول: محمد بن الفضل أبو النعمان السَّدوسيّ البَصْري المعروف بعارِم.
قال الذُّهليّ: حدثنا محمد بن الفضل عارِم وكان بعيدًا من العرامة،
صحيح الكتاب، وكان ثقة. وقال العجلي: بصري ثقة، رجل صالح، ليس يعرف إلا بعارِم. وقال أبو داود: سمعت عارمًا يقول: سماني أبي عارمًا، وسميت نفسي محمدًا. وقال ابن الصلاح في كتابه "معرفة علوم الحديث": كان عارِم عبدًا صالحًا بعيدًا من العَرامة، والعارم: الشرير الأذيّ المفسِد. وقال ابن دارة: حدثنا عارم بن الفضل الصدوق المأمون. وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: إذا حدثك عارم فاختم عليه، عارم لا يتأخر عن عفّان. وكان سليمان بن حرب يقدم عارمًا على نفسه إذا خالفه عارم رجع إليه وهو أثبت أصحاب حماد بن زيد بعد ابن مَهدي، قال: وسئل أبي عن عارم وأبي سلمة، قال: عارم أحب إلى. قال: وسئل أبي عنه، فقال: ثقة. وقال سليمان بن حرب: إذا ذكرت أبا النعمان فاذكر ابن عَوْن وأيّوب. وقال أيضًا: إذا وافقني أبو النعمان، فلا أبالي من خالفني. وقال العُقيلي: قال لنا جدي: ما رأيت بالبصرة أحسن صلاة منه، وكان أخشع من رأيت.
وقال النّسائي: كان أحد الثقات قبل أن يختلط. وقال أبو حاتم: اختلط عارم في آخر عمره، وزال عقله، فمن سمع من قبل الاختلاط فسماعه صحيح، وكتبت عنه قبل الاختلاط سنة أربع عشرة، ولم يسمع منه بعد ما اختلط، فمن سمع منه سنة عشرين فسماعه جيد، وأبو زرعة لقيه سنة اثنتين وعشرين. وقال البخاري: تغير في آخر عمره. وقال أبو داود: كنت عند عارِم، فحدث عن حماد عن هشام عن أبيه أن ماعزًا الأسلمي سأل عن الصوم في السفر، فقلت له: حمزة الأسلمي، يعني أن عارمًا قال هذا وقد زال عقله. وقال أيضًا: بلغنا أنه أنكر سنة ثلاث عشرة، ثم راجعه عقله، ثم استحكم به الاختلاط سنة ست عشرة. وقال ابن حِبّان اختُلط في آخر عمره، وتغير حتى كان لا يدري ما يحدث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإن لم يُعلم هذا من هذا تُرك الكل، ولا يحتج بشيء منها. وقال الدّارقطني: تغير بآخره، وما ظهر له بعد اختلاطه حديث منكر، وهو
ثقة. وقال الذّهيي: لم يقدر ابن حِبّان أن يسوق له حديثًا منكرًا، والقول فيه ما قال الدّارقطني. وقال ابن حجر: انما سمع منه البخاري سنة ثلاث عشرة قبل اختلاطه بمدة، وقد اعتمده في عدة أحاديث، وفي "الزهرة" روى عنه البخاري أكثر من مئة حديث.
روى عن: جرير بن حازم، ومهدي بن مَيْمون، ووُهيب بن خالد، والحمادين، ومعتمر بن سليمان، وأبي عَوانة، وعبد بن زياد، وغيرهم.
وروى عنه: البخاري، وروى هو والباقون بواسطة عبد الله بن محمد المُسْنِديّ، وروى عنه محمد بن يحيى الذُّهلي، وهارون الحمال، وعبد ابن حميد، والحسن بن علي الخَلاّل، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم، وأبو زُرعة، وغيرهم.
مات بالبصرة سنة أربع وعشرين ومئتين.
وفي الستة محمد بن الفضل سواه واحد، وهو ابن الفضل بن عَطِيّة العبسيّ مولاهم.
والسَّدوسيّ في نسبه مر الكلام عليه في السادس من كتاب الإيمان.
الثاني: أبو عَوانة وقد مر في الخامس من بدء الوحي.
الثالث: زياد بن عِلاقة -بكسر العين- ابن مالك أبو مالك الثعلبي الكوفي ابن أخي قُطبة.
قال ابن مَعين والنسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق الحديث. وذكره ابن حِبّان في "الثقات". وقال العِجْلي: كان ثقة، وكان في عداد الشيوخ. وقال يعقوب بن سفيان: كوفي ثقة. وقال ليث بن أبي سُليم: حدثنا زياد رجل قد أدرك ابن مسعود. قال ابن حجر: لا يلتئم أن يكون هو مع جزمه بأن روايته عن سعد مرسلة، لأنه أي: سعدًا عاش بعد ابن مسعود طويلًا، بل عاش بعد المغيرة مدة. وقال الأزديّ: سيىء المذهب، كان منحرفًا عن أهل البيت. وقال هشام بن الكلبيّ: إن زياد بن علاقة أدرك الجاهلية. وقال ابن حجر: وهذا غلط.
روى عن: عمه، وأسامة بن شَريك، وجرير بن عبد الله، والمغيرة ابن شُعبة، وجابر بن سَمُرة، وعمرو بن ميمون، وأرسل عن سعد بن أبي وقاص.
وروى عنه: السفيانان، والأعمش، وسِماك بن حرب، وشعبة ومسعر، وزُهير بن مُعاوية، وأبو عوانة، وشيبان، وأبو الأحوص وجماعة.
مات سنة خمس وثلاثين ومئة وقد قارب المئة. وليس في الستة زياد ابن عِلاقة سواه، وأما زياد فعدد.
والثَّعْلَبيّ في نسبه نسبة إلى ثعلبة بن سعد بن ذُبيان بن بغيض بن ريث بن غَطَفان، وثعلبة في قبائل في أسد بن خزيمة ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، وفي تميم، وفي ربيعة، وفي قيس، والثعلبان قبيلتان من طيّء، وهما: ثعلبة بن جذماء بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة ابن سعد بن قطرة بن طيّء والثانية: ثعلبة بن رومان بن جُندب المذكور، وأم جندب جَديلة بنت سبيع بن عمرو بن حِمْيَر، وإليها ينسبون.
وقال أبو عبيد: الثعالب في طيء يقال لهم، مصابيح الظلام، كالربائع في تميم، قال الشاعر:
يا أوْسُ لو نالتكَ أرماحُنا
…
كنتَ كمَنْ، تهوي بهِ الهاوِيَة
يأتي لها الثُّعلبانُ الذي
…
قال خباجُ الأمةِ الراعية
وفي القبائل بغير هاء ثعلب بن عمرو من بني شَيْبان حليف في بني عبد قيس شاعر، والنحوي صاحب الفصيح هو أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وثعلبة اثنان وعشرون صحابيًا، أو ينيفون على أربعين.
الرابع: جرير بن عبد الله، وقد مر في الحديث الذي قبل هذا.
الخامس: المغيرة بن شُعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس، وهو ثقيف الثَّقَفي أبو محمد أو أبو عيسى أو أبو عبد الله، قيل: إن الذي كناه بهذا عمر بن الخطاب.
روى البغوي عن زيد بن أسلم أن المغيرة استأذن على عمر، فقال: أبو عيسى. فقال عمر: من أبو عيسى. قال: المغيرة بن شعبة. قال: فهل لعيسى من أب، فشهد له بعض الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكنيه بهذا، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غُفِر له، وأنا لا أدري ما يُفعل بي، وكناه أبا عبد الله.
أسلم عام الخندق، وقدم مهاجرًا، وقيل: إن أول مشاهده الحديبية، وأمه امرأة من بني نصر بن معاوية، كان رجلًا طُوالا مصاب العين، أصيبت عينه يوم اليرموك، ضخم القامة، عَبْل الذراعين، بعيد ما بين المنكِبَيْن، أصهب الشعر جَعْده، وكان لا يفرقه، كان يقال له: مغيرة الرأي. شهد اليمامة، وفتوح الشام والعراق، وكان من دهاة العرب. قال قَبيصة بن جابر: صحبت المغيرة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بالمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها.
وقال الطبري: كان لا يقعُ في أمر إلَاّ وجد له مخرجًا، ولا يلتبس عليه أمران إلا ظهر له الرأي في أحدهما، ومن أحسن دهائه أنه لما وُضِع النبي صلى الله عليه وسلم في قبره طرح خاتمه فيه، وقال: خاتمي وقع مني، فدخل فأخذه، ليكون آخر الناس عهدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن دهائه ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه أنه استعمله عمر على البحرين، فكرهوه وشكوا منه، فعزله، وخافوا أن يعيده عليهم، فجمعوا مئة ألف، وأحضرها الدِّهْقان إلى عمر، وقال له: إن المغيرة اختان هذه وأودعها عندي، فدعاه، فسأله فقال: كذب إنما كانت مئتي ألف، فقال له عمر: وما حملك على ذلك؟ قال: كثرة العيال. فسُقِطَ في يد الدِّهْقان، فحلف وأكد الأيمان أنه لم يودع عنده قليلًا ولا كثيرًا. فقال عمر للمُغيرة: ما حملك على هذا؟ قال: إنه افترى عليَّ، فأردت أن أخزيه.
وروي عنه أنه قال: أنا أول من رشا في الإِسلام، كنت جئت إلى
يرفأ حاجب عمر بن الخطاب، وكنت أجالسه، فقلت له يومًا: خذ هذه العمامة فالبسها، فإن عندي أختها، فكان يأنس بي، ويأذن لي أن أجلس من داخل الباب، فكنت آتي فأجلس في القائلة، فيمر المار فيقول: إن للمغيرة عند عمر منزلة، إنه ليدخل عليه في وقت لا يدخل عليه فيه أحد.
وقد قال الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سُفبان، وعمرو ابن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد. فاما معاوية فللأناة والحلم، واما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير. قال ابن عبد البر: ويقولون: إن قيس بن سعد بن عُبادة لم يكن في الدهاء بدون هؤلاء مع كرم كان فيه وفضل.
ولما قتل عثمان وبايع الناس عليًّا دخل عليه، وقال له: يا أمير المؤمنين، إن لك عندي نصيحة، قال: وما هي؟ قال: إن أردت أن يستقيم لك الأمر فاستعمل طلحة بن عُبيد الله على الكوفة، والزُّبير بن العوام على البصرة، وابعث معاوية على الشام حتى تلزمه طاعتك، فإذا استقرت لك الخلافة فأدركها كيف شئت برأيك. فقال له علي: أما طلحة والزبير فسأرى رأبي فيهما وأما معاوية فلا والله لا يراني الله مستعملًا له ولا مستعينًا به ما دام على حاله، ولكني أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون، فإن أبى حاكمته إلى الله تعالى، فانصرف عنه المغيرة مُغْضَبًا لما لم يقبل منه نصيحته، فلما كان الغد أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين: نظرت فيما قلت بالأمس وما جاوبتني فيه، فرأيت أنك وُفِّقت للخير، ثم خرج عنه، فلقيه الحسن وهو خارج، فقال لأبيه: ما قال لك الأعور؟ فقال: أتاني بالأمس، وقال لي كذا، وأتاني اليوم بكذا، فقال له: نصحك والله أمس، وخدعك الوم. فقال له علي: إن أقررت معاوية على ما بيده كنت متخذًا المُضِلّين عضدًا. وقال المغيرة في ذلك:
نصحتُ عليًّا في ابنِ هندٍ نصيحةً
…
فردَّ فلَمْ أنصَحْ لهُ الدهرَ ثانيَهْ
فقلتُ لهُ أرسلْ إليهِ بعهدهِ
…
على الشامِ حتّى يستقرَّ معاويَهْ
ويعلمَ أهلُ الشام أنْ قد ملكتَهُ
…
فأمُّ ابن هندٍ بعدَ ذلك هاوِيَهْ
فلَمْ يقبلِ النُّصْحَ الذي جئتهُ بهِ
…
وكانَتْ لهُ تلكَ النصيحةُ كافيَهْ
ويقال: إن المغيرة أحصن ألف امرأة في الإِسلام، وقيل ثلاث مئة، ووقف على قبره مِصْقَلة بن هُبيرة الشيباني وقال:
إنَّ تحتَ الأحجار حَزْمًا وجَودًا
…
وخصيمًا ألدَّ ذا مغلاقِ
حية في الوجارَ أربدُ لا ينـ
…
ـفعُ السليمَ منه نفْثُ راقِ
ثم قال: أما والله لقد كنت شديد العداوة لمن عاديت، شديد الأخوة لمن آخيت، كان رضي الله تعالى عنه أول من وضع ديوان البصرة، وهو أول من سلم عليه بالإمرة، وولاه عمر البصرة، ففتح مَيْسان وهَمْدان وعدة بلاد إلى أن عزله لما شهد عليه أبو بَكْرة ومن معه، ثم ولاه الكوفة، وأمّره عثمان ثم عزله، فلما قتل عثمان اعتزل القتال إلى أن حضر مع الحكمين، ثم بايع معاوية بعد أن اجتمع الناس عليه، ثم ولاه بعد ذلك الكوفة، فاستمر على إمرتها إلى أن مات، واستخلف عليها عند موته ابنه عروة، وقيل: استخلف جريرًا، فولى معاوية حينئذ الكوفة زيادًا مع البصرة، وجمع له العراقين.
روي له مئة وستة وثلاثون حديثًا، اتفقا على تسعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم باثنين.
روى عنه أولاده عروة وعقار وحمزة، ومولاه ورّاد، وابن عم أبيه جُبيرة ابن حية، والمِسْور بن مَخْرمة من الصحابة، وقيس بن أبي حازم، وقَبيصة ابن ذُؤيب، ونافع بن جُبير، وبكر بن عبد الله المُزَني، والأسْود بن هلال، وزياد بن عِلاقة، وآخرون.
مات بالكوفة سنة خمسين عند الأكثر، وقيل: قبلها بسنة، وقيل: بعدها بسنة.