الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن والعشرون
35 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .
قوله: يقم ليلة القدر، اختُلف في المراد بالقَدر الذي أُضيفت إليه الليلة. فقيل: المراد به التعظيم. كقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] والمعنى أنها ذات قَدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر. وقيل: القدر هنا التّضْييق، كقوله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7] ومعنى التضييق فيها إخفاؤها عن العِلم بتعيينها، أو لأن الأرض تضيق فيها عن الملائكة، وقيل: القدر هنا بمعنى القَدَر بفتح الدال، الذي هو مؤاخي القضاء. والمعنى أنه يُقدّر فيها أحكام تلك السنة، لقوله تعالى:{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] وبه صَدَّر النوويُّ كلامه. ورواه عبد الرزاق وغيره من المفسرين بأسانيد صحيحة، عن مُجاهد وعِكرمَة وقَتادة وغيرهم. وقال التّوْربُشْتيّ: إنما جاء القدْر بسكون الدال. وإن كان الشائع في القدَر الذي هو مؤاخي القضاء فتح الدال، ليُعلم أنه لم يرد به ذلك، وإنما أُريد به تفصيل ما جرى به القضاء وإظهاره وتحديده في تلك السنة، لتحصيل ما يُلقى إليهم فيها مُقدّرًا بمقدار.
وقوله: "إيمانا" أي: تصديقًا بأنه حق وطاعة، وقوله:"احتسابا" أي لوجهه تعالى. طلبا لثوابه لا للرياء ونحوه.
وقال الخطّابي: احتسابا: أي عزيمة، وهو أن يفعله على معنى الرغبة في ثوابه، طيبة نفسُه بذلك، غير مستثقل له. ونُصبا على المفعول له. وجَوّز أن يكونا على الحال مصدرًا بمعنى الوصف، أي مؤمنًا محتسِبًا، وقوله:"غُفر له" ما تقدم من ذنبه يعني غير الحقوق الآدمية، لأن الإجماع قائم على أنها لا تسقط إلا برضاهم.
ولفظة من إما متعلقة بغفر أي غفر من ذنبه ما تقدم، فهو منصوب المحل، أو هي مبينة لما تقدم، وهو مفعول لما لم يُسَمّ فاعله فيكون مرفوع المَحلّ، ولفظة ذنبه اسم جنس مضاف، فيتناول جميع الذنوب الصغائر والكبائر وبه جزم ابن المُنذر.
وقال النّوويّ: المعروف أنه يختص بالصغائر، وبه جَزم إمام الحرمين، وعزاه عِياض لأهل السُّنة. قال بعضهم: ويجوز أن يخفف من الكبائر إذا لم يصادف صغيرة. ومن ليس له صغائر ولا كبائر يُزاد في حَسناته بنظير ذلك.
وهذا الحديث نَظيره ما في البُخاريّ عن عثمان بن عفان في صفة الوُضوء إلى أن قال: من توضأ نَحْو وُضوئي هذا، ثم صلّى ركعتين لا يُحدّث فيهما نفسه، غُفر له ما تقدم من ذنبه، ونظيره أيضًا ما في البخاريّ في مواقيت الصلاة عن أبي هريرة، ففيه "فذلك مِثْل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا" فحمل العلماء في المشهور عنهم هذه الأحاديث على الصغائر دون الكبائر لوجود التَّقييد بالصّغائر فيما أخرجه مسلم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هُريرة مرفوعًا:"الصلوات الخمس كفّارةٌ لما بينها ما اجْتُنِبت الكبائر". فحملوا على هذا المُقيّد ما أُطلق في غيره.
وقد قال ابن بُزَيْزَة: يتوجه على حديث العلاء إشكال يصعب التخلص منه، وذلك أن الصغائر مكفَّرَةٌ باجتناب الكبائر بنص القرآن الكريم، فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ وأجاب البَلقَيْنيّ بأنَّ السؤال غير وارد، لأن مراد الآية إن تجتنبوا في جميع العمر، ومعناه المُوافاة على هذه الحالة
من وقت الإِيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث أن الصلوات الخمس تكفر ما بينها، أي في يومها إذا اجْتُنبت الكبائر في ذلك اليوم، فلا تَعارُض بين الآية والحديث. قلت: في هذا الجواب نظر. لأنه إن أراد أن الآية لا تصدُق إلا على من اجتنب في جميع عمره، ومن عداه لا ينتفع بذلك الاجتناب سواء الآتي بالخمس وغيره، فهذا تضْييق بعيد يحتاج إلى نصّ، والحديث الصحيح يكذبه. وإن كان مراده أنها متناولة لجميع العمر، فاليوم داخل فيه تكفر فيه الصغائر باجتناب الكبائر.
ثم قال: وعلى تقدير ورود السؤال، فالتخلص منه بأنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس، فمن لم يفعلها لم يعد مُجتنبًا للكبائر، لأن تركها من الكبائر، فوقف التكفير على فعلها. وقد فصل البَلْقَينيّ أحوال الإِنسان -يعني المؤدي للخمس- بالنسبة إلى ما يصدر منه من صغيرة وكبيرة، فقال: تنحصر في خمسة:
أحدها أن لا يصدر منه شيء البتة، فهذا يُعاوض برفع الدرجات.
ثانيها: يأتي بصغائر بلا إصرار، فهذا تكفر عنه جَزْما.
ثالثها: مثله لكن مع الإِصرار فلا تُكفّر إذا قلنا إن الإِصرار على الصغائر كبيرة.
رابعها: أن يأتي بكبيرة واحدة وصغائر.
خامسها: أن يأتي بكبائر وصغائر وهذا فيه نظر يحتمل إذا لم يَجْتنب الكبائر أن لا تكفّر الكبائر بل تُكفّر الصغائر ويحتمل أن لا تكفر شيئًا أصلًا.
والثاني أرجح، لأن مفهوم المخالفة إذا لم تتعين جهته لا يُعمل به، فهنا لا تكفِّر شيئًا إما لاختلاط الكبائر والصغائر، أو لِتمحُّض الكبائر، أو تكفر الصغائر فلم تتعين جهة مفهوم المخالفة لدورانه بين الفصلين، فلا يُعمل به، ويؤيّده أن مقتضى ما اجْتُنبت الكبائر أنْ لا كبائر فيُصانُ الحديث عنه.
وفي حديث الباب زيادة وما تأخّر بعد قوله: "ما تقدم من ذنبه"
أخرج تلك الزيادة أحمد والنّسائي وأبو بكر بن المُقرىء في فوائده، وأبو عبد الله الجُرْجانيّ في أماليه عن ابن وهب عن مالك، فما رُوي عن ابن عبد البرّ من استنكارها غير مُعوّل عليه. وقد استشْكلت هذه الزيادة من حيث أن المغفرة تستدعي سَبْق شيء يغفر، والمتأخر من الذنوب لم يأت، فكيف يغفر؟ والجواب أنه قيل: إنه كناية عن حفظهم من الكبائر، فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك، وقيل: إن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة، وبهذا أجاب جماعةٌ منهم الماوَرْديّ في الكلام على حديث صيام عَرَفة، وأنه يُكفّر سنتين سنةً ماضية وسنة آتية. وقد أخرج البخاري هذا الحديث عن أبي هريرة وحَديثَيْ قيام رمضان وصيامه من الإِيمان الآتيين قريبًا.
وعبر في حديث ليلة القدر بالمضارع في الشرط وبالماضي في جوابه بخلاف الآخرين فبالماضي فيهما قال الكَرَمانيّ: النكتة في ذلك هي أن قيام رمضان محقق الوقوع، وكذا صيامه، بخلاف قيام ليلة القدر، فإنه غير مُتيَقَّن، فلهذا ذكره بلفظ المستقبل. وقال غيره: استعمل لفظ الماضي في الجزاء إشارة إلى تحقق وقوعه، فهو نظير قوله {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1].
وفي استعمال الشرط مضارعًا والجزاء ماضيًا نزاعٌ بين النحاة، فمنعه الأكثر، وأجازه آخرون بقلّة، واستَدَلّوا بقوله تعالى:{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ} [الشعراء: 4] لأن قوله فظلت بلفظ الماضي، وهو تابع للجواب وتابع الجواب جواب، واستدلوا أيضًا بهذا الحديث، وفي الاستدلال به نظرٌ كما قال في الفَتح، لأن الظن عنده أنه من تصرُّف الرواة، لأن الروايات فيه مشهورة عن أبي هريرة بلفظ المضارع في الشرط والجزاء. ورواه النَّسائي عن أبي اليَمان شيخ البُخاريّ فيه، فلم يُغاير بينهما فيه، بل قال:"من يقم ليلة القدر يغفر له". ورواه أبو نعيم في المُسْتخرج عن أبي اليمان، ولفظه زائد على الروايتين، فقال:"لا يقوم أحدكم ليلة القدر فيوافقها إيمانًا واحتسابًا إلا غُفر له ما تقدم من ذنبه".