الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رجاله أربعة:
الأول: عُمر بن خالد بن فرُّوخ بفتح الفاء وتشديد الراء المضمومة، ابن سعيد بن عبد الرحمن بن واقد بن ليث بن واقِد بن عبد الله أبو الحسن الحَنْظليّ، ويقال الخُزاعيّ الجَزَرِيّ الحَرّانيّ، سكن مصر.
قال أبو حاتم: صدوق. وقال العجليّ: مِصريّ ثبت ثِقة. وقال الدَّارقُطنيّ: ثقة حُجّة. وذكره ابن حِبّان في الثِّقات، وفي الزّهرة: روى عنه البُخاريّ ثلاثة وعشرين حديثًا، روى عن زُهير بن مُعاوية واللّيث وابن لَهيعة وحمّاد بن سَلَمة وضمام بن إسماعيل، وموسى بن أعْيَن، ويَعْقوب ابن عبد الرحمن وغيرهم.
وروى عنه البخاريّ وروى ابن ماجه عن رجل عنه، وابناه أبو عُلَاثة محمد، وأبو خَيْثمة عليّ ويونس بن عبد الأعلى وأبو حاتم وأبو زرعة، وأبو الأحوص محمد بن الهَيْثم، وأحمد بن إبراهيم بن مِلحان وغيرهم.
مات بمِصر سنة تسع وعشرين ومئتين. وفي الستة عمرو بن خالد سواه واحد. وهو عَمرو بن خالد أبو خالد القُرشيّ مولى بني هاشم، أصله من الكوفة، ثم انتقل إلى واسط. وفي الرّواة عمرو بن خالد أبو حفص الأعْشى الكوفي. والحَنْظليّ في نسبه مرّ الكلام عليه في السادس من بدء الوحي. ومر الكلام أيضًا على الجَزْري في الأثر الأول من كتاب الإِيمان.
الثاني: زُهير بن مُعاوية بن حُدَيْج، بالحاء المهملة والتصغير، ابن الرُّحَيْل بن زهير بن خَيْثمة، أبو خَيْثمة .. الكوفيّ، سكن الجزيرة. قال معاذ بن معاذ: والله ما كان سُفيان بأثبت من زهير، فإذا سمعتُ الحديث من زُهير فلا أبالي أن لا أسمعه من سُفيان. وقال ابن حِبان في الثقات: كان حافظًا مُتقنًا، وكان أهل العراق يقولون في أيام الثَّوريّ: إذا مات الثوري ففي زهير خَلَفٌ. وكانوا يُقدِّمونه في الإِتقان على غيره، وعاب
عليه بعضهم أنه كان ممن يَحْرس خَشَبة زيد بن علي لما صُلِب. وقال ابن سعد: كان ثِقة، ثبتًا، مأمونًا، كثير الحديث. وقال شُعيْب بن حَرْب: كان زهير أحفظ من عشرين مثل شُعبة.
وقال بِشْر بن عُمر الزَّهرانيّ عن ابن عُيَيْنة: عليك بزهير بن معاوية، فما بالكوفة مثلُه. وقال أحمد: كان من معادِن الصِّدق. وقال أيضًا: زهير فيما روى عن المشائخ ثبتٌ بَخٍ بَخٍ، وفي حديثه عن أبي إسحاق لِينٌ.
سمع منه بآخره. وقال ابن مَعين، وقال أبو زرعة: ثقةٌ إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط وقال أبو حاتم: زهير أحبّ إلينا من إسرائيل في كل شيء إلا في حديث أبي إسحاق. فقيل له: فزائِدةُ وزُهير؟ قال: زهير أتقن من زائدة، وهو أحفظ من أبي عُوانة، وما أشبه حديثه بحديث زيد بن أبي أُنَيْسة، وزُهير ثقةٌ مُتْقن صاحبُ سنّة. وهو أحبّ إليّ من جَرير وخالد الواسطيّ. وقال العجليّ: ثقة مأمون. وقال النّسائي: ثقة ثَبْتٌ. وقال ابن مَنْجَوَيْه: كان حافظًا متقنًا، وكان أهل العراق يقدِّمونه في الإِتقان على أقرانه.
حدَّث عنه ابن جُرَيْج وعبد السلام بن عبد الحميد الحَرّانيّ، وبين وفاتيْهما بضعٌ وتسعون سنة. روى عن أبي إسحاق السّبيعيّ، وسُليمان التَّيْميّ، وعاصم الأحْول، والأعمش، وسِماك بن حَرْب، وزَبيد الياميّ وموسى بن عُقْبة، وهشام بن عُروة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وخلق كثير.
وروى عنه ابن مَهْديّ والقطّان وأبو داود الطّيالسِيّ وأبو النصر هاشم ابن القاسم، ويحيى بن آدم، وعليّ بن الجَعْد، وعبد السلام بن عبد الحميد الحرّانيّ، وهو آخر من حدّث عنه، وجماعة. مات سنة ثلاث أو أربع وسبعين ومئة، في رجب، وولد سنة مئة. وليس في الستة زهير ابن معاوية سواه. وأما زهير فثلاثة عشر والجُعفيّ في نسبه مر الكلام عليه في الثاني من كتاب الإِيمان، ومر الكلام على الكوفيّ في الثالث منه أيضًا.
الثالث: عَمرو بن عبد الله بن عُبيد، ويقال عليّ، ويقال ابن أبي شَعِيرةٍ، أبو إسحاق السّبيعيّ الكوفيّ. وُلد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان.
قال أبو داود الطّيالِسِيّ: قال رجل لِشُعبة: سمع أبو إسحاق من مُجاهِد؟ قال: ما كان يصنع بمجاهد؟ هو والله أحسن حديثًا من مجاهد، ومن الحسن وابن سيرين. وقال أبو حاتم: ثقة، وهو أحفظ من أبي إسحاق الشَّيْبانيّ، وشِبْه الزُّهريّ في كثرة الرّواية واتساعه في الرجال، وقال العجْليّ: كوفيٌ تابعيٌ ثقة، والشَّعبيّ أكبر منه بسنتين، ولم يسمع أبو إسحاق من عَلْقَمة. ولم يسمع من حارثٍ الأعْور إلا أربعة أحاديث، والباقي كتاب.
وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: أيّما أحب إليك أبو إسحاق أو السدّيّ؟ فقال: أبو إسحاق ثقة، ولكن هؤلاء الذين حَمَلوا عنه بأخْرَة.
وقال ابن مَعين والنّسائي: ثقة. وقال ابن المَدينيّ: أحصينا مَشْيَختَه نحوًا من ثلاث مئة شيخ، وقال مرة أربع مئة. وقد روى عن سبعين أو ثمانين لم يرو عنهم غيره. وعن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله إذا رأوا أبا إسحاق قالوا: هذا عَمرو القارىء. وقال عَوْن بن عبد الله: ما بقي منك؟ قال: أُصَلّي البقرة في ركعة. قال: ذهب شرُّك وبقي خيرُك. وعن أبي بكر ابن أبي عيّاش قال: قال أبو إسحاق: ذهبت الصلاة منّي وضَعُفْت، فما أقدر أن أصلّي إلا بالبقرة وآل عمران.
وقال العَلاء بن سالم: كان الأعمش يتعجب من حِفظ أبي إسحاق لرجاله الذين يروي عنهم. وقال الأعمش: كنت إذا خَلَوْت بأبي إسحاق، جئنا بحديث عبد الله غَضّا. وقال ابن حبان في الثقات: كان من المُدلِّسين. وقال شُعبة: كان أبو إسحاق إذا أخبرني عن رجل قلت له: هذا أكبر منك، فإن قال: نعم، علمتُ أنه لقي، وإن قال: أنا أكبر منه، تركته. وقال أبو إسحاق الجَوْزجَانيّ: كان قومٌ من أهل الكوفة لا تُحْمد مذاهبهم، يعني التشيع، هم رؤوس مُحدِّثي الكوفة، مثل أبي إسحاق والأعمش ومنصور بن زَبيد وغيرهم من أقرانهم. احتملهم الناس
على صدق ألسنتهم في الحديث، ووقفوا عندما أرسلوا لما خافوا أن لا يكون مخارِجُها صحيحة.
فأما أبو إسحاق فروى عن قوم لا يعرفون ولم ينتشر عنهم عند أهل العلم إلا ما حكى أبو إسحاق عنهم، فإذا روى تلك الأشياء عنهم، كان التوقيف في ذلك عند الصواب. وقال معن: أفسد حديثَ أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق؛ يعني للتدليس. قال ابن مَعين: سمع منه ابن عُيينة بعدما تغير. وفي تاريخ المُظفَّريّ، أن يوسف لما ولي الكوفة أخرج بنو أبي إسحاق أبا إسحاق على بِرْذَوْن ليأخذ صِلة يوسف، فأُخِذت وهو راكب، فرجعوا به.
قال ابن حَجَر: لم أر في البخاريّ من الرواية عنه إلا عن القدماء من أصحابه، كالثَّوريّ وشُعبة، لا عن المتأخرين كابن عُيَينة وغيره.
قلت: كيف يصح هذا مع أنّ الراوي عنه لهذا الحديث زهير بن معاوية، الذي قيل إنه لم يسمع منه، إلا بعد الاختلاط؟ فالكمال لله. روى عن علي بن أبي طالب والمُغيرة بن شُعبة. وقيل: لم يَسْمع منهما، وقد رآهما. وعن سليمان بن صُرَدٍ، وزيد بن أرْقم، والبَراء بن عازِب، وجابر ابن سَمُرَة، وذي الجَوْشَن وعَدِيّ بن حاتم، وصِلة بن زُفَر، ومَسْروق بن الأجْدَع، وعَلْقمة وخلق كثير.
وعنه ابنه يونُس وابن ابنه إسرائيل بن يونس، وابن ابنه الآخر يوسف ابن إسحاق، وقَتادة والأعْمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وشُعبة ومِسْعر والثَّوريّ، وهو أثبت الناس فيه، وزهير بن معاوية، ومالك بن مغول، وسفيان بن عُيَيْنة، ومِطْرَف بن طريف وآخرون.
مات يوم دخول الضّحّاك الخارجيّ الكوفة، سنة ست وعشرين ومئة، وقيل: سنة ثمان، وقيل: تسع. وعمرو بن عبد الله في الستة سواه تسعة.
والسّبيعيّ في نسبه نسبة إلى سَبيع، كأمير، أبي بطن من هَمْدان، وهو سَبيع بن سَبُع بن صَعْب بن مُعاوية بن كُرْز بن مالك بن جُشَم بن حاشِد
ابن جُشَم بن خَيْران بن نَوْف بن همدان. منهم أبو إسحاق هذا، ومنهم أبو محمد الحسن بن أحمد السَّبيعيّ الحافظ، كان في حدود السبعين وثلاث مئة بحلب، وإليهم تُنْسب مَحَلَّةٌ بالكوفة. ومرّ الكلام على المختلطين في التاسع من كتاب الإِيمان.
الرابع: البَرَاء، بالمد والتخفيف، وقيل بالقَصْر، ابن عازب بن الحارث بن عَدِيّ بن جُشَم بن مَجْدَعة بن حارِثة بن الخَزْرج بن عَمرو ابن مالك بن أوْس الأنصاريّ الأوسيّ أبو عُمارة، وقيل: أبو عَمرو، وقيل: أبو الطُّفيل. له ولأبيه صحبةٌ. روى أحمد بسنده عنه "استصغرني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، أنا وابن عمر، فردَّنا، فلم نَشْهَدها"، وزاد عبد الرحمن ابن عَوْسَجة:"وشَهدْتُ أحدًا" وذكر الواقديّ أن أول غزوة شهدها ابن عمر والبراء بن عازب وأبو سعيد وزيد بن أرقم -الخَندقُ. وذكر أنه صلى الله عليه وسلم، استصغر معه يوم بدر ابن عمر ورافع بن خَدِيج وأُسيد بن ظَهير وزيدَ بن ثابت وعُمَير بن أبي وقّاص، ثم أجاز عُميرًا فقط يومئذٍ. وقال أبو عمرو الشيبانيّ: افتتح البراء بن عازب الرّيّ سنة أربع وعشرين صُلحا، وقيل: عُنْوة. وقال أبو عُبيدة: افتتحها حُذَيْفة سنة اثنتين وعشرين. وقال حاتم ابن مُسْلم: افتتحها قَرَظَة بن كَعب الأنصاريّ. وقال المدائنيّ: افتتح بعضها أبو موسى، وبعضها قَرَظة، وشهد مع علي رضي الله عنه مشاهدَه كلَّها.
وروي عنه أنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة غزوة، وفي رواية خمس عشرة. رُوي عنه أنه قال: ما كلُّ ما حَدَّثْنا كُموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه، حدَّثَنَاهُ أصحابه، وكان يَشْغلُنا رَعْيُ الإِبل. وقيل: هو الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بالسَّهم إلى قَليب الحُديْبيّة، فجاش بالرِّيّ، والمشهور أنّ ذلك ناجِيَةُ. وكان يلقب ذا الغُرّة، كذا قيل. وقيل: إن ذا الغُرة آخر.
روي له ثلاث مئة حديث وخمسة أحاديث، اتفقا على اثنين وعشرين
منها، وانفرد البخاريّ بخمسة عشر ومسلم بستة.
روى عن أبي بكر وعمر وعليّ وأبي أيّوب وبِلال وغيرهم. وروى عنه عبد الله بن زيد الخَطَفي وأبو جُحَيْفة، ولهما صُحْبة، وعُبيد والرّبيع ويزيد ولُوط أولاد البَراء، وابن أبي ليلى، وأبو بكر وأبو بُرْدة ابنا أبي موسى، وخلق.
مات بالكوفة أيام مُصْعب بن الزبير سنة اثنتين وسبعين، روى له الجماعة، وليس في الصحابة البراء بن عازب سواه، وفيهم البراء ستة. وفي الستة البراء سواه أربعة.
لطائف إسناده: منها أن فيه التحديث والعنعنة، وهو من رباعيات البخاريّ. ورُواته كلُهم أئمة أجلّاء. فإن قيل إنه معلول بعلتين: إحداهما أن زهيرًا لم يسمع من أبي إسحاق إلا بعد الاختلاط. والثانية أن أبا إسحاق مُدَلس، ولم يصرِّح بالسماع! فالجواب عن الأولى هو أنه لو لم يثبت عند البخاري سماع زهير بن حَرْب منه قبل الاختلاط ما أودعه في صحيحه، مع أنه تابعه عليه عند البخاريّ إسرائيل بن يونس حفيده، وغيره. وعن الثانية: أن البخاري في التفسير روى من طريق الثّوريّ عن أبي إسحاق "سمعتُ البَراء" فحصل الأمْن من ذلك.
وهذا الحديث أخرجه البخاريُّ في التفسير أيضًا عن أبي نَعيم، وفي الصلاة عن عبد الله بن رَجاء، وفي خَبر الواحد عن يحيى ومُسلم في الصلاة عن محمد بن المُثنّى وغيره، والنّسائي في الصلاة، والتفسير، عن محمد بن بشّار ومحمد بن حاتم والتَرمذي فيهما أيضًا، عن هَناد. وقال: حسن صحيح. قلتُ: مرّ قريبًا أن الحديث معلولٌ بعلتين، فلا بد إذن من معرفة المعلول، وهو عند أهل الحديث يقال له معلول وبه عبّر ابن حَجَر وقال: إنه الأولى، لأنه وقع في عبارات أهل الفن مع ثبوته في اللغة. وقال النّوويّ: إنه لَحَن. ويقال له مُعَلَّل، واختاره العراقي في منظومته، ويقال مُعَلّ، من أعَلّه، يقال: لا أعَلَّك الله، أي: لا أصابك
بعلّة. وقال العراقيّ أيضًا: إنه الأجود.
وقال ابن الصّلاح: معرفة عِلَل الحديث من أجل علومه وأدقها وأشرفها، وإنما يقطع بذلك أهل الحفظ والخِبْرة والفَهْم الثاقب. والمُعلَّلُ في الاصطلاح هو حديثٌ ظاهره السّلامة، اطُّلع فيه بعد التفتيش على قادحٍ، والقادح هو العِلة، والعِلة عبارة عن أسباب ظهرت للناقد، وتلك الأسباب فيها غموضٌ وخَفَاء. مثاله حديث ابن جُرَيْج؛ في التّرْمذيّ وغيره، عن موسى بن عُقبة عن سُهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا "مَن جَلس مَجْلِسًا فكَثُر فيه لَغَطُه، فقال قبل أن يقوم: سبحانك الَّلهُمَّ وبحمدك .. " الحديث. فإن موسى بن إسماعيل المَنْقريّ رواه عن وُهَيْب بن خالد الباهِليّ عن سُهيل المذكور، عن عَون بن عبد الله، وبهذا عَلَّهُ البخاريّ، فقال: هو مرويٌّ عن موسى بن إسماعيل، وأما موسى ابن عُقبة فلا نعرف له سماعا من سهيل.
وتعرف تلك العلة بمخالفة راوي الحديث لغيره ممن هو أحفظ منه أو أضبط أو أكثر عددًا وبِتفَرُّدِه به، بأن لم يتابَع عليه مع قرائِن تُضَمّ لذلك، يهتدي بمجموع ذلك الحاذق في الفن إلى تصويب الإِرسال لما قد وُصِل، أو وَقْف ما قد رُفع أو تصويب فَصْل متنٍ من غيره مُدْرجًا فيه، أوغير ذلك، فيُمضي ما ظنّه من عدم قبول ذلك الحديث، أو يتوقَّفُ فيه.
وتجيء العلةُ القادحة في السَّند كثيرًا وفي المتن قليلًا، وإذا وقعت في السند كانت قادحة في المتن، وذلك كقطع مُسْندٍ مُتَّصل، أو وَقْف مَرْفوع، أو غير ذلك من موانع القبول، وإنما يقع القدح في المتن بعلة السند حيث لم يتعدد السند أو لم يَقْوَ الاتصال أو الرفع مثلا، على القطع أو الوقف، أو يقع الاختلاف في تعيين واحد من ثقتين، وإلا فلا قدح.
وذلك كحديث البَيِّعان بالخيار، فقد رواه يعلي بن عُبيد الطَّنافِسِيّ عن سُفيان الثَّوريّ عن عمرو بن دينار، وشذّ بذلك عن سائر أصحاب الثَّوريّ، فكلُّهم قالوا عبد الله بن دينار. وتوبع الثوريّ عليه، فرواه كثيرون عن
عبد الله. قال ابن الصَّلاح: وكلاهما أي: عمرو وعبد الله ثقة فلم يَقْدح الخلاف فيهما في المتن.
وأما علة المتن القادحة فيه، فهي كحديث أنس المروي عنه في نفي البسملة، إذ ظنَّ راوٍ من رُواته حين سمع قول أنس، رضي الله عنه: صلّيت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، نفي البَسْملة، فروى الحديث مُصرِّحًا بما ظنّه، فقال عقب ذلك: فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم. وفي رواية: لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة، ولا في آخرها، فصار بذلك حديثًا مرفوعًا، والراوي له مخْطيء في ظنه، ومن ثَمّ قال الشافعيُّ وأصحابه: المعنى أنهم يبدأون بقراءة أُم القرآن قبل ما يقرأونه بعدها، أنهم يتركون البسملة. وقد روى الحديث عن أنس جماعة منهم حُميد وقَتادة. والمُعلِّل رواية حُميد ورفعها، وهم من الوليد ابن مسلم عن مالك عنه، فإن سائر الرواة عن مالك لم يذكروا فيها "خلف النبي صلى الله عليه وسلم" فليس عندهم إلا الوقف. وأما رواية قتادة، فلم يتفق أصحابه عنه على ذكر النفي المذكور، بل أكثرهم لم يذكروه. وجماعة منهم ذكروه بلفظ، فلم يكونوا يَجْهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وجماعة منهم بلفظ، فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم وجماعة بلفظ، فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
قال ابن حَجر: والجمع بين هذه الروايات ممكن بحمل نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع على الجهر. ويدل على معلولية الحديث بخطأ النافي ما صرّح به الدّارقطني وغيره، من أن أنسًا، رضي الله عنه، لما سأله أبو مَسْلمة سعيد بن يزيد: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يستفتح بالحمد لله، أو ببسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لا أحفظ شيئًا فيه.
وقد مرّ أن العلة القادحة تكون خفيّة، وقد تكون أيضًا ظاهرة،
كالتعليل بالإِرسال الظاهر للموصول، والوَقْف الظاهر أيضًا للمرفوع، إذا قَوِي الإِرسال أو الوقف بسبب كَوْن راويه أضْبط، وأكثر عددا. وقد يطلِقون التعليل أيضًا على كل قادح من فِسْق وغَفْلة ونوع جَرْح. وقد يطلقون اسم العلة أيضًا على غير قادح، كوصل ضابط ثقةٍ لما أرْسل، كحديث مالك في الموطأ أنه قال: بَلَغَنا أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للمملوك طعامه وكسْوَته، فقد وصله مالك في غير الموطأ بمحمد بن عَجْلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد صار الحديث بتبين الإِسناد صحيحًا يعتمد عليه.
وهذا الإِطلاق لأبي يعلى الخليليّ، فإنه قال في إرشاده: الحديث أقسام: معلول صحيح، وصحيح متفق عليه، وصحيح مُختلفٌ فيه.
ومثَّل للصحيح المعلول بحديث الموطأ هذا. وعند الخليليّ ومن وافقه كالحاكم كما يُطلق المعلول على الصحيح، يطلق عليه الشذوذ أيضًا.
فيُقال فيه: صحيح شاذٌّ. فالشذوذ عندهما قادح في الاحتجاج لا في التسمية. وسمّى التِّرمذيّ النَّسْخ علة، فإن أراد أنه علة في العمل بالمنسوخ، فذلك صحيح. وإن أراد أنه علة في صحته أو صحة نقله، فلا، لأن في كتب الصحيح أحاديث كثيرة صحيحة ومنسوخة، وقد صحح التِّرمذيّ نفسه منه جملة، فمراده الأول.
وقد أشار العراقيّ إلى المُعلّل بقوله:
وسَمِّ ما بعلّة مشمولُ
…
مُعَلَّلًا ولا تقُل معلُولُ
وهي عبارةٌ عن أسباب طَرَتْ
…
فيها غُموضٌ وخَفاء أُثِرتْ
تُدْرك بالخِلافُ والتفَرُّدِ
…
مَعْ قرائنَ تُضمُّ يَهْتدي
جَهْبذُها إلى اطِّلاعه على
…
تَصْويب إرسال لما قد وَصَلا
أوْ وَقْف ما يُرفع أو مَتْنٍ دخلْ
…
في غيره أو وهْمِ واهمٍ حَصَل
ظنّ فأهْدى أو وَقَف فأحْجَما
…
مع كونه ظاهِرُه أن سَلِما
وهي تجيءُ غالبًا في السِّندِ
…
تَقْدحَ في المَتْن بقطعِ مُسْندِ
أو وَقْف مرفوع، وقد لا تَقْدحُ
…
كالبَيِّعان بالخِيار صَرَّحوا
بوَهم يعلى بن عُبيد أبْدَلا
…
عَمْرًا بعبد الله حين نَقَلا
وعلةُ المَتْنِ كنَفْي البَسْملهْ
…
إذْ ظنَّ راوٍ نفْيَها فَنَقَلهْ
وصَحَّ إنَ أنْسًا يقول: لا
…
أحفظ شيئًا فيه حين سُئِلَا
وكَثُر التعليل بالإِرسال
…
للوَصْل إنْ يَقْوَ على اتِّصال
وقد يَعلوه بكُلِّ قَدْحِ
…
فِسْقٌ وغَفْلةٌ ونوعُ جَرْحِ
ومنهُمُ من يُطلِق اسْم العِلِّةِ
…
لغَير قادحِ كوَصْل ثِقةِ
يقولُ: معلولٌ صحيحٌ كالذي
…
يقولُ: صَحَّ مَعْ شذُوِذٍ احتذِي
والنسخُ سَمّى التِّرمذيّ عِلّهْ
…
فإنْ يردْ في عَملٍ فاجنحْ لهْ
ثم قال المصنف: قال زهير: حدثنا أبو إسحاق عن البَراء في حديثه هذا أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا فلم ندرِ ما نقول فيهم فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143].
وقوله: أنه مات على القبلة، أي قبلة بيتِ المقدس قبل التحويل إلى الكعبة. قوله: وقُتِلوا، هو بضمّ أوّله وكسر ثانيه، وفائدةُ ذكر القتل بيانُ كيفيته، إشعارًا بشَرفِهِم، واستبعادا لضياع طاعتهم. أو أن الواو بمعنى أو فيكون شكا. لكن قال في الفتح: ذكْرُ القتل لم أره إلا في رواية زُهير، وباقي الروايات إنما فيها ذكرُ الموت فقط. وكذلك روى أبو داود والتِّرمذيّ وابن حِبّان والحاكم، صحيحا، عن ابن عباس. ثم قال: لكن لا يَلْزم من عدم الذِّكر عدم الوقوع، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فتُحمل على أن بعض المسلمين، ممن لم يشتهر، قُتِل في تلك المدة في غير الجهاد، ولم يُضْبط اسمه لعدم الاعتناء بالتاريخ إذ ذاك. ثم وجدت في المغازي ذكر رجل اختلف في إسلامه وهو سُوَيْد بن الصّامت، فقد ذكر ابن إسحاق أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم، قبل أن تلقاه الأنصار في العقبة، فعرض عليه الإِسلام فقال: إن هذا القول حَسَنٌ، وانصرف إلى المدينة وقُتِل بها في وقعة بُعَاث بين الأنصار. وكانت قبل الهجرة، فكان قومه
يقولون لقد قُتِل وهو مسلم، فيحتمل أن يكون هو المراد، قال: وذكر لي بعض الفضلاء أنه يجوز أن يراد من قتل بمكة من المستضعفين، كأبوي عمّار، ولكن هذا يحتاج إلى ثبوت أن قتلهما كان بعد الإِسراء، يعني ليكونا قُتِلا بعد فرض الصلاة.
وقوله: فأنزل الله تعالى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي: بالقِبلة المنسوخة، أو صَلاِتكم إليها. ووقع لهم نظير هذه المسألة لما نزل تحريم الخمر، كما صح من حديث البراء أيضًا، فنزل:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، إلى قوله:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:134]. وقوله تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
والذين ماتوا قبل تحويل القبلة من المسلمين عشرة أنفس، فبمكة من قريش: عبد الله بن شِهاب، والمُطَّلب بن أزهر الزُّهْريّان، والسَّكْران ابن عَمرو العامِريّ. وبأرض الحبشة منهم: حَظَّان، بمُهملة، ابن الحارث الجُمَحيّ، وعمرو بن أُميّة الأسَدِيّ، وعبد الله بن الحارث السّهمْيّ، وعُرْوة بن عبد العُزّى، وعَديّ بن نَضْلة العَدَويّان. ومن الأنصار بالمدينة: البَراء بن مَعْرُور، بمهملات، وأسعد بن زُرارة. فهؤلاء العشرة متفق عليهم.
ومات في المدة أيضًا: إياس بن معاذ الأشْهليّ، لكنه مُختلفٌ في إسلامه. والمقتولون ثلاثة: أحدهم لم يثبت إسلامه: أبوا عمّار، وهما ياسر وسمية الصحابيان إجماعا، والثالث سُوَيد بن الصّامت. فالجميع أربعة عشر. وهذه الأربعة عشر عُرفت منها سُميّة والدة عمّار بن ياسر في الثالث عشر من "فضائل الصحابة" وعرف البراء بن معرور في تعليق بعد الحادي والأربعين من المَبْعث النبويّ، وأسعد بن زُرارة في السادس والخمسين منه، وها أنا أذكر تعريف الباقين على هذا الترتيب المذكور فوق.
الأول: عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن زُهرة بن كِلاب الزُّهريّ، وهو جدُّ الزُّهريّ من قبل أُمّه، وكان من السابقين. ذكره الزُّهريّ والزُّبير وغيرهما فيمن هاجر إلى الحبشة. ومات بمكة قبل هجرة المدينة. وكذا قال الطَّبريّ. وقال ابن سَعد والزُّبير: كان اسمه عبد الجانّ، فسماه النبيّ صلى الله عليه وسلم، عبد الله. زاد ابن سعد: وليس له حديث. وزَعَم السهَيْليّ أنه مات بمكة بعد الفتح. ولعل مستَنَدَه ما ذكره الوَقّاصيّ من أن عبد الله بن شِهاب قدم مع جعفر في السفينة، لكن الوقّاصيّ ضعيف. وذكر البخاريّ في تاريخه الأوسط أن أبا بكر بن عبد الرحمن، وسعيد بن المُسيّب وعُروة قالوا: وممّن أقام بالحبشة عبد الله بن شهاب.
الثاني: المُطَّلب بن أزْهر بن عَبدِ عَوْف الزُّهريّ، ابن عم عبد الرحمن ابن عوف بن عبد عوف. ذكره ابن إسحاق فيمن هاجَر إلى الحبشة، ومات بها، وورثه ابنه عبد الله. ويقال: إنه أول من وُرِث في الإِسلام.
وقال الواقِديّ: هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، فوُلد له بها عبد الله.
وقال ابن الكلبيّ: هاجر مع ولده عبد الله فماتا جميعًا بأرض الحبشة، وكانت مع المُطَّلب امرأته رَمْلةُ بنت أبي عَوْف بن صُبَيْرة بن سَعيد بن سَعد السّهميّ.
الثالث: السّكران بن عَمرو بن عَبدِ شَمْس بن عَبْد وُدٍّ بن مالك بن نَصْر بن حِسْل بن عامر بن لُؤَيْ القُرشيّ العامِرِيّ، أخو سُهيل بن عمرو.
ذكره موسى بن عُقبة في مُهاجرة الحبشة، وكذا قال ابن إسحاق، وزاد: أنه رجع إلى مكة، فمات بها، وتزوج النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعده زوجته سَوْدة بنت زَمْعة، زَوَّجَه إياها أخوها حاطب. وزعم أبو عُبَيْدة أنه رجع إلى الحبشة فتَنصّر بها ومات. وقال البَلاذَرِيّ: الأول أصح، ويقال: إنه مات بالحبشة.
الرابع: حطّان، بمهملة، ابن الحارث بن يَعْمُر بن حَبيب بن وَهْب
ابن حذافَة بن جُمَحٍ القَرشِيّ الجُمَحيّ، ذكره موسى بن عُقبة في مُهاجرَة الحَبَشة. وابن إسحاق والطَّبريّ في الذيل.
الخامس: عمرو بن أُميّة بن الحارث بن أسَد بن عبد العُزّى بن قُصَيّ الأسَديّ. قال الطبريُّ في الذَّيل: كان قديمَ الإِسلام. وذكره الواقديّ والطبريّ فيمن هاجر إلى أرض الحبشة ومات بها.
السادس: عبد الله بن الحارث بن قَيْس بن عَديّ بن سَعِيد بن سَعْد ابن سَهْم القُرشيّ السّهمْيّ: ذكره ابن إسحاق وغيره فيمن هاجر إلى الحبشة. وذكر ابن الكَلْبيّ له شعرًا يُحرّض المسلمين على الهجرة إلى الحبشة، ويذكر ما لقوا فيها من الأمن فمنه:
يا راكبًا بلِّغَن عني مُغلْغَلةً
…
مَن كان يرجو لقاءَ الله والدِّينِ
أنّا وجَدْنا بلاد الله واسعةً
…
تُنْجي من الذُّلِّ والمَخْزاة والهُونِ
فلا تُقيموا على ذُلِّ الحياة ولا
…
خِزْي المَمات، وعيبٍ غير مأمونِ
إنا تَبِعنا رسول الله واطَّرحُوا
…
قولَ النبي وعالُوا في الموازينِ
وفي كتاب البلاذَرِيّ وذيل الطَّبريّ: أنه مات بالحبشة. وذكر ابن إسحاق والزُّبير بن بَكّار أنه مات بالطّائف. وذكر ابن سَعْد والمَرْزُبانيّ أنّه قُتل باليمامة. وقال المَرْزُبانيّ: كان يُلَقب المُبْرق لقوله:
إذا أنا لم أُبْرق فلا يَسَعَنَّنِي
…
من الأرض برٌّ ذو فضاء ولا بَحْرُ
السابع: عُرْوة بن عبد العُزّى بن حُرْمان بن عَوْف بن عَبيد بن عُويج ابن عدِيّ بن كعْب القُرشيّ العَدويّ: ذُكر فيمن هاجر إلى الحبشة ومات بها.
الثامن: عديّ بن نَضْلة أو نُضَيْلة، بالتصغير، ابن عبد العُزّى بن حَرثان بن عوف بن عَبِيد بن عُويْج بن عَدِيّ بن كَعْب القُرشيّ العَدويّ.
ويقال: عديّ بن أسَدَ. ذكره ابن إسحاق في مُهاجرة الحبشة. وقال موسى ابن عُقبة: عديّ بن أسد العدويّ، مات بالحبشة، وهو أول موروث وُرِث في الإِسلام، ورثه ابنه النُّعمان، فخالف ابن إسحاق في نَسبه، وفي أوَّليته. فإن ابن إسحاق قال: إن أول موروث في الإِسلام المُطَّلب ابن أزْهر كما مر. ووافق موسى الزُّبير بن بكّار. قال في الإِصابة: ويمكن الجمع بأن تكون أولية المطلب بالحجاز وأولية عدي بالحبشة.
قلت: قد مر بك أن المُطّلب ورث بالحبشة أيضًا، لا بالحجاز، فلا يمكن الجمع المذكور.
التاسع: إياس بن مُعاذ الأنصاريّ الأشهليّ. قال ابن السَّكْن وابن حِبّان: له صُحْبة. وذكره البُخاريّ في الأوسط فيمن مات على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -، من المهاجرين الأولين والأنصار. وقال مُصْعَب الزُّبيْريّ: قدِم إياس مكةَ وهو غلام قبل الهجرة، فرجع ومات قبل هجرة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -. وذكر قومه أنه مات مسلمًا.
وروى ابن إسحاق في المغازي عن محمود بن لَبِيد قال: لما قَدِم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فِتْيةٌ من بني عبد الأشهل، فيهم إياس ابن مُعاذ، يلتمسون الحِلْف من قريش على قومهم من الخَزْرج، سمع بهم النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فأتاهم، فجلس إليهم، فقال لهم: هلْ لكم إلى خيرٍ ممّا جئتُم له؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله بعَثَني إلى العباد أدعوهم إلى أن يَعْبُدوه، ولا يُشركوا به شيئا، ثم ذكر لهم الإِسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن مُعاذ: يا قوم، هذا، والله، خيرٌ مما جئْتُم له. فأخذ أبو الحيسر حَفْنَة من البطْحاء، فضرب وجهه بها، وقال: دَعْنا منك، فَلَعمْري لقد جئنا لغير هذا، فسكت وقام وانصرفوا، فكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخَزْرج، ثم لم يَلْبثْ إياس ابن مُعاذ أن مات. قال محمود ابن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يُهَلِّل الله ويُكبّره ويُحَمِّده ويُسبِّحه، فكانوا لا يشكون أنه مات مسلمًا. وهذا من صحيح حديث ابن إسحاق.
العاشر: سُوَيد بن الصَّامِت بن حارِثَةَ بن عَديّ بن قَيسِ بن زَيْد بن مالك بن ثَعْلبةَ بن كعْب بن الخَزْرَج الأنصاريّ. قال ابن سَعْد والطَّبريّ: شَهد أُحدًا وأنشد له دِعْبل بن عليّ في طبقات الشعراء، وكان قد أدان دَيْنا وطولب، فاستغاث بقومه فَقَصَّروا عنه، فقال:
وأصْبحتُ قد أنْكَرتُ قومي كأنّني
…
جَنيْتُ لهم بالدَّين أخزى الفضائحِ
أدين وما دَيْني عليهم بِمَغْرمٍ
…
ولكنْ على الحزر الجِلادِ القرادحِ
أدين على أثمارها وأصولها
…
لمولى قريبٍ أو لآخَرَ نازحِ
هذا ما قال في الإِصابة من أنه شهد أُحدًا. وهو مخالف لما مر عنه في الفتح، من أنه مات في بُعاث، فلعله التَبَس عليه هو وإياس بن مُعاذ، لأنه هو الذي مات بُبعاث كما مر.
الحادي عشر: ياسر العَنْسِي بالنون، حَليف آل مَخْزوم، قَدِم من اليمن فحالَف أبا حُذيْفَة بن المُغيرة، فزوَّجه أمَةً له يقال لها سُمَية، فولدت له عمارًا فأعتقه أبو حُذيفة. ثم كان عمّار وأبوه ممن سَبق إلى الإِسلام فقد أخرج أبو أحمد الحاكم عن عبد الله بن جَعْفر قال: مر رسول الله، صلى الله تعالى عليه وسلم، بياسر وعمّار وأمِّ عمار سُميَّةَ، وهم يُؤذَوْن في الله، فقال لهم: صَبْرًا يا آل ياسر، صبرًا يا آل ياسر، فإن موعدَكم الجنة. ورواه ابن الكَلْبيّ في التفسير عن ابن عبّاس نحوه، وزاد وعبد الله ابن ياسر، وزاد فطعن أبو جَهل سُمَيّة في قُبُلها فماتت، ومات ياسر في العذاب، ورُميَ عبد الله فسقط. قلت: وإذا كانت رواية ابن الكلبيّ هذه صحيحة يكون عبد الله بن ياسر معدودًا في المقتولين.
ورجاله الثلاثة مرّوا في أول الرواية لهذا الحديث. وَوَهِم من قال إنه مُعَلَّق، وقد ساقه المُصَنف في التفسير مع جملة الحديث عن أبي نُعيم عن زُهير سِياقًا واحدًا، وأخرجه أبو داود والتِّرمِذيّ من حديث ابن عباس.
ثم قال المصنف: