الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
5698 -
[1] عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ قومٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: "اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ! ". . . . .
ــ
العرش والكرسي والسموات والأرضين والملائكة والجن والإنس، كما نطقت به الأحاديث.
واتفقوا على أن الأجسام محدثة ذواتها وصفاتها، فقال بعضهم: أول ما خلق من الأجسام الماء؛ لأنه قابل لكل الصور، فإن الماء إذا لطف صار هواء، وتكونت النار من صفوة الماء، والسماء تكونت من دخان النار، وينسب هذا القول إلى بعض الحكماء، يقال له: تالس الملطي (1)، لكنهم قالوا: إنه أخذه من مشكاة النبوة، إذ جاء في السفر الأول من (التوراة): إن اللَّه خلق جوهرًا فنظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه، فصارت ماء، ثم ارتفع منه بخار كدخان، فخلق منه السموات، فظهر على وجه الماء زبد فخلق منه الأرض، ثم أرساها الجبال، وقد اختلفت في ذلك أقوال عن الناس، وهذه الأمور مما لا يدرى بالعقل والقياس إلا بالوحي السماوي والاستنباط مما ورد به الوحي، واللَّه أعلم بحقائق الأمور.
الفصل الأول
5698 -
[1](عمران بن حصين) قوله: (قوم من بني تميم) وفي رواية: (نفر)، وفي أخرى:(ناس من بني تميم).
وقوله: (اقبلوا البشرى) أي: ما يوجب بشارتكم بالجنة، والفوز بسعادة الدين
(1) من حكماء اليونان المشهورين. وفي "المنجد": طاليس (ت نحو 548 ق. م) فيلسوف رياضي، ولد في ميليتس من عائلة فينيقية.
قَالُوا: بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، فَدَخَلَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ:"اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ! إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمِ". قَالُوا: قَبِلْنَا، جِئْنَاكَ لِنَتَفَقَّهَ فِي الدِّينِ، وَلِنَسْأَلَكَ عَنْ أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ مَا كَانَ؛ قَالَ: "كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ،
ــ
من تعلم الشرائع وعقائد الدين، ولما كان أكبر همهم الدنيا لم يهتموا بالسؤال والاستكشاف عن ذلك واستعجلوا الاعطاء من عرض الدنيا، فكأنهم لم يقبلوا البشرى.
وقوله: (فجاء ناس من اليمن) وهم الأشعريون، أبو موسى الأشعري وقومه، فإنه رضي الله عنه هاجر من اليمن مع أخويه في بضع وخمسين من قومه، وإليه ينتهي نسب أبي الحسن الأشعري رئيس أهل السنة والجماعة، قال البيهقي في رسالة عملها في مناقبه: إن الكلام في أصول الدين وحدوث العالم ميراث لأبي الحسن الأشعري عن أجداده الذين قدموا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والمراد بهذا (الأمر) الخلق، و (ما) في (ما كان) استفهامية.
وقوله: (ولم يكن شيء قبله) يعني بل بعده.
وقوله: (وكان عرشه على الماء) جملة مستقلة معطوفة على الأولى، لا حالية، حتى يتوهم المعية في الكونين، والمقصود حصول الجملتين في الوجود، أو الواو بمعنى (ثم)، ف (كان) لما مضى من الزمان سواء كان أزليًا أو غيره في الأزل، أو فيما لا يزال، ودل الحديث على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض، قالوا: وذلك بمعنى أنه لم يكن حائل بينهما لا أنه كان موضوعًا على متن الماء، وقال
ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ"، ثُمَّ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا عِمْرَانُ! أَدْرِكْ ناقَتَكَ فَقَدْ ذَهَبَتْ، فَانْطَلَقْتُ أَطْلُبُهَا، وَأَيْمُ اللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّهَا قَدْ ذَهَبَتْ وَلَمْ أَقُمْ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 3190].
5699 -
[2] وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَامًا، فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 3192].
ــ
الشيخ ابن حجر (1): ليس المراد بالماء ماء البحر، بل هو ماء تحت العرش كما شاء اللَّه تعالى، هذا وقد سبق ذكره في أول الكتاب في (باب الإيمان بالقدر).
وقوله: (وكتب في الذكر) أي: في اللوح المحفوظ، والظاهر أن هذا قبل خلق العرش وما ذكر، فهذا أيضًا جملة مستقلة من غير رعاية الترتيب مع أن المذكور فيها الواو ولا ترتيب فيها، ووقع في بعض روايات البخاري هذه الجملة بين قوله:(كان عرشه على الماء).
وقوله: (وخلق السماوات والأرض)، وبناؤه على عدم الترتيب.
وقوله: (ثم أتاني رجل فقال: يا عمران! أدرك ناقتك) فإنه رضي الله عنه كان عقل ناقته بالباب، ثم دخل عليه صلى الله عليه وسلم ففلتت ناقته، فجاء رجل يخبره به فخرج بطلبها، فكان رضي الله عنه يندم على خروجه من مجلسه الشريف على فوات سماعه كلام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أهل اليمن.
5699 -
[2](عمر) قوله: (حتى دخل) أي: أخبرنا في مجلس واحد بجميع أحوال المخلوقات من المبدأ إلى المعاد.
(1) انظر: "فتح الباري"(13/ 410).
5700 -
[3] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3194، م: 2751].
5701 -
[4] وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2996].
ــ
5700 -
[3](أبو هريرة) قوله: (إن اللَّه تعالى كتب كتابًا) قال التُّورِبِشْتِي (1): يحتمل أن يكون المراد به اللوح المحفوظ أو القضاء، ومعنى سبق الرحمة كثرة ظهور آثارها، وشيوعها وشمولها المخلوقات كلها بالنسبة إلى الغضب كما يرى، كما قال سبحانه:{عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].
5701 -
[4](عائشة) قوله: (خلقت الملائكة من نور) في (القاموس)(2): النور: الضوء أو شعاعه، أو المراد في الحديث جوهر مضيء، وتحقيق معنى النور يطلب مما ذكروا في تفسير قوله تعالى:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، وذكره الغزالي، ونحن ترجمنا كلامه في تفسيرها.
وقوله: (وخلق الجان من مارج من النار) الجان: الجن، وقيل: أبو الجن، كآدم للبشر، والمارج: الصاف من الدخان، و (من نار) بيان لـ (مارج)؛ فإنه في الأصل للمضطرب، من مرج: إذا اضطرب، كذا قال البيضاوي (3)، ويوافقه ما قال في
(1)"كتاب الميسر"(4/ 1231).
(2)
"القاموس"(ص: 454).
(3)
"تفسير البيضاوي"(5/ 171).
5702 -
[5] وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمَّا صَوَّرَ اللَّهُ آدَمَ فِي الْجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُ،
ــ
(القاموس)(1): مارج من نار؛ أي: نار بلا دخان، وقال في (النهاية) (2): مارج النار: لهبها المختلط بسوادها، وهذا أيضًا يناسب ما في معنى المرج من الاختلاط، وقال البيضاوي (3): المراد بالنور الجوهر المضيء والنار كذلك، غير أن ضوءها مكدر مغمور بالدخان محذور عنه بسبب ما يصحبه من فرط الحرارة والإحراق، فإذا صارت مهذبة مصفاة كانت محض نور، ومتى نكصت عادت الحالة الأولى جذعة ولا تتزال تتزايد حتى ينطفئ نورها، ويبقى الدخان الصرف.
5702 -
[5](أنس) قوله: (لما صور اللَّه آدم في الجنة) استشكل هذا الحديث، فإن الأخبار متظاهرة في أن آدم خلق في الأرض، وكان ملقى بين مكة والطائف، ثم أدخل الجنة وأمر بالسكون فيها؛ وأجيب بأنه يمكن أنه خمّر تراب من وجه الأرض حتى صار طينًا، ثم ترك حتى صار صلصالًا، وكان ملقى بين مكة والطائف حتى مضت أطوارها، واستعدت لقبول الصورة الإنسانية فحملت إلى الجنة فصورت، ونفخ فيها الروح، ولا يحسم هذا مادة الإشكال، فإن ظاهر الأخبار تدل صريحًا على أنه أدخل الجنة، وهو بشر حي كما يدل عليه قوله:{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]، ويقال: المراد بـ (اسكن): استقر على السكون بقرينة (وزوجك)، فإنها خلقت في الجنة، فالمراد بأمرها بالسكون: أمرها بالاستقرار عليه قطعًا، وقال
(1)"القاموس"(ص: 255).
(2)
"النهاية"(4/ 315).
(3)
"تفسير البيضاوي"(1/ 71).
فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ يَنْظُرُ مَا هُوَ، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لَا يَتَمَالَكُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2611].
5703 -
[6] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً بِالْقَدُومِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3356، م: 2370].
ــ
التُّورِبِشْتِي (1): لا أرى الوجه في هذا الحديث إِلَّا احتمال أن تكون هذه الكلمة أعني: (في الجنة) سهوًا من بعض الرواة أخطأ سمعه، واللَّه أعلم.
وقوله: (يطيف به) بضم الياء: طاف بالشيء يطوف، وأطاف به يطيف بمعنى استدار حوله، وفي (القاموس) (2): أطاف به: ألمّ به وقاربه، وفي (الصراح) (3): أطافه: فرود آمدن بجيزي، ونزديك شدن.
وقوله: (لا يتمالك) أي: لا يملك نفسه عن الشهوات.
5703 -
[6](أبو هريرة) قوله: (ابن ثمانين) وفي (شرح الأكمل) عن (الموطأ): ابن مئة وعشرين، قيل: والأول هو الصحيح.
وقوله: (بالقدوم) في (القاموس)(4): القدوم: آلة للنجر مؤنثة، وموضع اختتن به إبراهيم عليه السلام، وقد يشدد، وفي (مختصر النهاية) (5): مشدد ومخفف، اسم موضع،
(1)"كتاب الميسر"(4/ 1232).
(2)
"القاموس"(ص: 799).
(3)
"الصراح"(ص: 356).
(4)
"القاموس"(ص: 1058).
(5)
"الدر النثير"(2/ 826).
5704 -
[7] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ قَوْلُهُ: . . . . . .
ــ
ومنه: (اختتن إبراهيم بالقدوم): قرية بالشام، وقيل: القدوم بالتشديد والتخفيف: قدوم النجار، انتهى. وقيل: هو في آلة النجار بالتخفيف، وفي اسم الموضع بهما، فبالتخفيف يحتملهما، وبالتشديد يتعين المكان، والأكثرون على التخفيف، وقال التُّورِبِشْتِي (1): القدوم بتخفيف الدال: موضع بالشام، ومن المحدثين من يشدّد وهو خطأ، ومن الناس من يظنّ أنه اختتن بالقدوم الذي ينحت به، وهو غلط، وبالمدينة جبل يقال له: القدوم، وأكثر ظني أن هذا بالتشديد.
5704 -
[7](وعنه) قوله: (إلا ثلاث كذبات) في (المشارق)(2): هي بفتح الكاف والذال جمع كذبة بفتح الكاف، الواحد الكذب، وفي (مجمع البحار) (3):(كذبات) بفتح ذال جمع كذبة بسكونها، وفي بعض الحواشي: قال أبو البقاء: الجيد أن يقال: بفتح الذال في الجمع لأنه جمع كذبة، وهو اسم لا صفة، لأنك تقول: كذب كذبة، كما يقول: ركع ركعة، وإن كان صفة يسكن في الجمع، وتسميتها كذبات باعتبار الظاهر، وإنها لصدق باعتبار ما هو المقصود منها.
وقوله: (ثنتين منهن في ذات اللَّه) قيل: أي لأجل اللَّه وأمره وطلب رضاه، ويتوجه عليه أن الثالثة أيضًا كذلك لما فيها أمن، دفع كافر ظالم عن التعرض بما لا يرضى اللَّه تعالى، وقد جاء في رواية:(كلهن في اللَّه)، وأجيب نعم، لكن كان فيها جر نفع
(1)"الميسر"(4/ 1232).
(2)
"مشارق الأنوار"(1/ 338).
(3)
"مجمع بحار الأنوار"(4/ 392).
{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقولُهُ:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وَقَالَ: "بَيْنَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ وَسَارَةُ، إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الْجَبَابِرَةِ،
ــ
إلى نفسه. وقيل: المراد بكونهما في ذات اللَّه، أي: فيما يتعلق بتنزيه ذاته عن الشرك، ودفع الشريك فلا يشمل الثالثة، وقد يقال: المراد بكونهما في ذات اللَّه ذكرهما في القرآن، عبر به عنه لما لا ينفك الكلام عن المتكلم كما هو رأي الأشعري، ولا يخفى ما فيه من البعد والتكلف.
وتأويل قوله: (إني سقيم) إني متصف بالسقم، في الجملة في زمان من الأزمنة، فأوهم بلفظ ظاهر في ثبوته في الحال، وقيل: أوهمهم بأنه استدل بأمارة علم النجوم على أنه سيسقم ليتركوه كما يدل عليه قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88، 89]، قيل: أراد إني سقيم القلب بكفركم، وأقول: قد فسر الصحة بسلامة جميع القوى، وصدور أفعالها سليمة، والسقم بعدمها بمعنى رفع الإيجاب الكلي، فلا يخلو أحد عن سقم إلا من اعتدل مزاجه من كل الوجوه، وهو نادر الوجود، نعم لو فسر بالسلب الكلي يثبت الواسطة، فافهم. وكان غرضه عليه الصلاة والسلام أن يتركوه فيكسر أصنامهم ويفعل ما أراد.
وقوله: (بل فعله كبيرهم) باعتبار السببية، والمقصود التعريض بأن من لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه كيف يليق بأن يعبد، كما أشار إليه بقوله:{قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95]، وقد يوقف على قوله:{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ} ، والضمير لأحد ممن يصلح أن يكون فاعلًا، وإن كان لإبراهيم، فليس فيه تصريح مثل ما في: بل فعلته، فافهم.
وقوله: (وقال) أي: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: (بينا هو) أي: إبراهيم، بيان للثالثة من الكذبات، و (سارة) زوجة إبراهيم بنت عمه عليه السلام، لما أهلك اللَّه تعالى عدوه نمرود،
فَقِيلَ لَهُ: إِن هَاهُنَا رَجُلًا مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ إِلَيهِ، فَسَأَلَهُ عَنْهَا: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ: أُخْتِي، فَأَتَى سَارَةَ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبُنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيْهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الإِسْلَامِ، لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَأُتِيَ بِهَا،
ــ
عزم على الخروج منها، وهاجر إلى الشام، وكونها بنت عمه أيضًا توجيه لكون قوله هذا:(أختي) صدقًا، ولكن الحديث نص على أن الإخبار به باعتبار أخوة الإسلام، ولعله اقتصر عليها لشرفها وأصالتها.
وقوله: (قال: أختي) إنما عدل عن: هي زوجتي مع أن الظاهر أن ذات الزوج لا يتعرض [لها]، وأيضًا الظالم لا يبالي أختًا أو زوجة؛ لأنه كان من عادة ذلك الجبار أن لا يتعرض إلا لذات الزوج، وقيل: لأن ذلك الجبار كان مجوسيًا، وعندهم أن الأخت إذا كانت زوجة كان أخوها أحق بها من غيره، فأراد إبراهيم أن يعتصم بدين ذلك الجبار، فإذا هو لا يراعي دينه، واعترض على هذا القول بأن دين مجوس جاء بـ: زرادشت، وهو متأخر عن إبراهيم، وأجيب بأنه كان قديمًا، إنما زاد عليه زرادشت خرافات أخر، ومعنى (يغلبني عليك) يأخذك مني، وقيل: معناه يكرهني على الطلاق.
وقوله: (ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك) تأكيد وتقرير وبيان للواقع.
وقوله: (فأرسل) أي: ذلك الجبار (إليها) أي: إلى سارة يطلبها، وليس هذا تكرار؛ لأن الإرسال في الأول كان إلى إبراهيم للسؤال عنه من هذه، والثاني إلى سارة لطلبها.
قَامَ إِبْرَاهِيمُ يُصَلِّي، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ. فَأُخِذَ -وَيُرْوَى فَغُطَّ- حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ، فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلَا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ اللَّهَ فَأُطْلِقَ، فَدَعَا بَعْضَ حَجَبَتِهِ فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ،
ــ
وقوله: (قام إبراهيم) استئناف.
وقوله: (ذهب) أي: أراد، وجاء وذهب يجيئان بمعنى الأفعال الناقصة.
وقوله: (فأخذ) بلفظ المجهول، أي: حبس عن إمساكها أو عوقب بذنبه أو أغمي عليه، وروي ببناء المجهول من التأخيذ، وهو استجلاب قلب شخص برقية أو سحر، بحيث يحصل له هيمان وجنون، ويجيء بمعنى أخذ السواحر أزواجهن عن غيرهن من النساء، والأخذة بالضم: رقية الساحر، والمراد هنا ما حصل له من الضغطة والخنق.
وقوله: (فغطّ) أيضًا بلفظ المجهول، أي: اختنق وأخذ بمجاري نفسه حتى سمع له غطيط، وهو صوت يخرج مع نفس النائم، (حتى ركض برجله) أي: ضرب، والركض تحريك الرجل، ومنه:{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42].
وقوله: (مثلها) أي: مثل الأخذة الأولى.
وقوله: (ادعي اللَّه لي) زاد هنا (لي) زيادة في التأكيد على ما في أكثر النسخ.
وقوله: (إنما أتيتني بشيطان) في (القاموس)(1): الشيطان: كل عاتٍ متمرد من
(1)"القاموس"(ص: 1115).
فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ فَأَتَتْهُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّيْ، فَأَوْمأَ بِيَدِهِ؛ مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: رَدَّ اللَّهُ كيْدَ الْكَافِرِ فِي نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ! . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3358، م: 2371].
ــ
إنس وجن، وقال الطيبي (1): أراد به المتمرد من الجن، وكانوا يهابون الجن ويعظمون أمرهم.
وقوله: (فأخدمها هاجر) أي: جعل ذلك الجبار هاجر خادمة لسارة، وهاجر بفتح الجيم: اسم أم إسماعيل عليه السلام، ويقال لها: آجَرُ، كذا في (القاموس)(2).
و(مهيم؟ ) بفتح الميم وسكون الهاء وفتح التحتانية كلمة استفهام، أي: ما حالك، وما شأنك، أو ما وراءك، أو أَحَدَثَ لك شيء، كذا في (القاموس)(3)، والمناسب هنا المعنى الأول.
وقوله: (رد اللَّه تعالى كيد الكافر في نحره) كناية عن نزول مكره على نفسه، وإصابة جزائه إياه، و (النحر): أعلى الصدر أو موضع القلادة.
وقوله: (تلك) أي: هاجر (أمكم يا بني ماء السماء! ) أراد بني إسماعيل لطهارة نسبهم، وقيل: أشار به إلى إنباع اللَّه تعالى لإسماعيل زمزم، وهي ماء السماء، وقيل: أراد بهم الأنصار؛ لأنهم أولاد عامر بن حارثة الأزدي، كان ملقبًا بماء السماء؛ لأنه كان يستمطر به، وفيه أن الأنصار ليسوا من أولاد هاجر، فكيف يصح قوله:(تلك أمكم)؟ والجواب أنها أمهم بسبب أنها أم النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت أم الأمة كلهم كما يسمى
(1)"شرح الطيبي"(10/ 303).
(2)
"القاموس"(ص: 461).
(3)
"القاموس"(ص 1070).
5705 -
[8] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]. . . . .
ــ
إبراهيم [أبا] الأنبياء، وقيل: أراد العرب كلهم سموا بذلك؛ لأنهم يبتغون المطر، ويعيشون به، وتعقب بأن العرب ليسوا بأجمعهم من بطن هاجر؛ وأجيب بأنه غلب أولاد إسماعيل على غيرهم لشرفهم، ويمكن أن يقال: بأن هذا مبني على ما اشتهر من أن العرب من ولد إسماعيل، فتدبر.
5705 -
[8](وعنه) قوله: (نحن أحق بالشك من إبراهيم) قيل: لما نزل قوله تعالى: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} الآية [البقرة: 260]، قالت طائفة من الأصحاب: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال صلى الله عليه وسلم:(نحن أحق بالشك من إبراهيم)، وظاهره إثبات الشك لإبراهيم ولنفسه الشريفة، وكلا الأمرين محال، لكن المقصود نفي الشك عن نفسه وعن إبراهيم، فمعناه لو كان الشك متطرقًا إلى إبراهيم لكنت أحق به، وقد علمتم أني لا أشك فاعلموا أنه كذلك.
وفيه ترجيح إبراهيم على نفسه، وجوابه أنه قال ذلك تواضعًا، أو قبل أن يوحى إليه أنه سيد ولد آدم، وهذا هو الجواب في كل ما ورد من الأحاديث مما يوهم عدم تفضيله صلى الله عليه وسلم على بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فسؤال إبراهيم عليه السلام كان لطلب الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين، أو لأنه لما احتج على المشركين بأن ربه عز وجل يحيى ويميت، طلب ذلك، ليظهر دليله عيانًا، والأول أظهر وأنسب بمساق الآية، وقيل: أراد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن ما صدر من إبراهيم عليه السلام لم يكن شكًّا بل طلب لمزيد العلم، وأنا أحق به؛ لأني مأمور بذلك، كما قال اللَّه تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، فافهم.
وَيَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3372، م: 151].
ــ
وقوله: (ويرحم اللَّه لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد) بيانه أن قوم لوط لما قصدوا أضيافه قال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} ، أي: لو قويت بنفسي على دفعكم {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أي: التجئ إلى قوي أتمنع به عنكم، فيحميني منكم، شبه بركن الجبل ونحوه في الشدة، والجزاء محذوف، أي: لمنعتكم عن أضيافي، فاستغرب صلى الله عليه وسلم هذا القول من لوط عليه السلام واستعظمه، وأشار إلى تقصيره فيه، فإن التمسك بعصمة اللَّه وحفظه هو الركن الشديد، وأشد الأركان كلها.
وقوله: (ويرحم اللَّه) كلمة تذكر في مقام إثبات التقصير، وما لا ينبغي أن يفعل، وقدم على وتيرة قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، فإن قلت: لما كان هذا من باب التقصير فلم قرن بقول إبراهيم، ولا تقصير فيه؛ قلنا: لأن قول إبراهيم وقع في صورة التقصير وغفلة عن قدرة اللَّه تعالى، واللَّه أعلم.
وقوله: (ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي) أي: داعي الملك الذي أتى إليه ليخرجه عن السجن، وهذا القول من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في يوسف قد يحمل على ثنائه عليه بالصبر وترك الاستعجال بالخروج عن السجن مع امتداد مدة الحبس، ليزول عن قلب الملك ما كان متهمًا من الفاحشة، وهذا الوجه أنسب بما يتبادر من قوله:(ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف)، وقيل: بل هو إشارة إلى تقصير يوسف في عدم الاستعجال؛ لأنه كان سببًا في هدايتهم بل قيل: إنه كان رسولًا إليهم، ولذا دعا أهل السجن بقوله:{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} الآيات [يوسف: 39]، ولم يكن له طريق إلى دعوة عزيز مصر، فلما وجد إليه سبيلًا قدم براءة نفسه مما نسب إليه
5706 -
[9] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لَا يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا تَسَتَّرَ هَذَا التَّسَتُّرَ إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بجِلْدِهِ؛ إِمَّا بَرَصٌ أَوْ أُدْرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ،
ــ
على حق اللَّه تعالى، وهو دعوة الملك، كذا قالوا، وفيه نظر لأن تقديم براءة نفسه أدخل في أمر الدعوة والإبلاغ كما لا يخفى، فما هو إلا اللَّه.
وذكر الشيخ التُّورِبِشْتِي (1) فيه وجهًا آخر: حاصله أن يوسف عليه السلام ترك الاسترسال مع فعل اللَّه تعالى، ودبر في نفسه لدفع التهمة عنها، وكان لبثه في السجن بضع سنين أيضًا لابتغاء الفرج عما هو فيه بالتدبير، وكان الأولى بحاله أن لا يشكو ضُرّه إلا إلى مولاه، ولا يتلقى الفرج قبل مجيئه بل ينظره بالصبر، ولا تعارض ما ظهر منه عند اللَّه تعالى بأمر من عنده وتدبير من نفسه، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه لو كان هو مكانه لتلقى الدعوة بالإجابة، وقال: هذا تأويل سلكت فيه مسلك علمائنا من الصوفية قدس اللَّه تعالى أرواحهم.
5706 -
[9](وعنه) قوله: (حييًّا) بفتح الحاء وكسر الياء الأولى مخففة، وتشديد الثانية، فعيل من الحياء، و (ستيرًا)، بفتح السين وكسر التاء مخففة، وقد يروى بكسر السين وتشديد التاء كسكيت من الستر، في (الصحاح) (2): رَجُلٌ سَتيرٌ، أي: عَفيف، والجارية سَتيرَةٌ: عفيفة، و (الأدرة) بضم الهمزة وسكون الدال ويحرك، والآدر والمأدور: من يصيبه فتق في إحدي خصييه، أَدِرَ كفرح، والاسم: الأدرة، وخصية أَدْرَاءُ: عظيمة
(1)"كتاب الميسر"(1/ 1235).
(2)
"الصحاح"(2/ 677).
فَخَلَا يَوْمًا وَحْدَهُ لِيَغْتَسِلَ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَجَمَحَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي يَا حَجَرُ! ثَوْبِي يَا حَجَرُ! حَتَّى انْتُهَى إِلَى مَلأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ وَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالْحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبعًا أَوْ خَمْسًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3404، م: 339].
ــ
بلا فتق، وفي (النهاية) (1): الأدرة بالضم: نفخة في الخصية.
وقوله: (فوضع ثوبه على حجر) فيه جواز الغسل عريانًا في الخلوة، وكان في غسل موسى عليه السلام عريانًا حكمة كان عاقبتها تبرئة ساحته عن الاتهام من النقص.
وقوله: (فجمح) أي: أسرع إسراعًا لا يرده شيء، وفي (القاموس) (2): جمح الرجل: يركب هواه فلا يمكن رده، و (إثره) بكسر الهمزة وسكون المثلثة وبفتحهما، (والندب) بفتحتين جمع الندبة، وكذا أنداب وندوب، هو أثر الجرح الباقي على الجلد، ندب الجرح كفرح: صلبت ندبته، كأندب، كذا في (القاموس)(3)، وذلك معجزة لموسى عليه السلام.
وقوله: (ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا) شك من الراوي متعلق بالضرب أو الندب، كذا في (الحواشي)، ويحتمل أن يكون ترديدًا منه صلى الله عليه وسلم من جهة أنه لم يوح إليه متعينًا.
(1)"النهاية"(1/ 31).
(2)
"القاموس"(ص: 210).
(3)
"القاموس"(ص: 321، 139).
5707 -
[10] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يا أَيُّوبُ! أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُك عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِن لَا غِنَى بِي عَنْ بَرْكَتِكَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 279].
5708 -
[11] وَعَنْهُ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ. فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا عَلَى الْعَالَمِينَ. فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ. فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَصْعَقُ مَعَهُمْ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فَلَا أَدْرِي كَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي،
ــ
5707 -
[10](وعنه) قوله: (لا غنى بي عن بركتك) وفي رواية: من رحمتك، أو من فضلك، يعني أن ذلك ليس من حرصي على المال والدنيا بل من فرحي بفضلك ورحمتك، وقالوا: فيه جواز الحرص على الاستكثار من الحلال في حق من وثق من نفسه بالشكر وأدائه في الحق، ومن هذه الجهة سمي المال بركة.
5708 -
[11](وعنه) قوله: (لا تخيروني على موسى) أي: لا تفضلوني عليه، وهذا تواضع منه صلى الله عليه وسلم، أو قال ذلك قبل أن يوحى إليه أفضليته، ثم عمم الحكم في آخر الحديث، وقال:(لا تفضلوا بين الأنبياء)، والمراد: لا تفضلوا بأهوائكم وآرائكم على وجه يؤدي إلى الازدراء والنقيصة ببعض، أو يفضي إلى خصومة وعصبية، أو
أَوْ كَانَ فِيمَنِ اسْثَثْنَى اللَّهُ". وَفِي رِوَايَةٍ: "فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَةِ يَوْمِ الطُّورِ أَوْ بُعِثَ قَبْلِي؟ وَلَا أَقُولُ: إنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بنِ مَتَّى".
ــ
التفضل من جميع الوجوه، أو في أصل النبوة والرسالة، ثم ذكر لموسى فضلًا جزئيًا يوجب فضله وامتيازه من هذه الجهة، بقوله:(فإن الناس يصعقون. . . إلخ)، وأصل الصعق: أن يغشى على الرجل من صوت شديد يسمعه، وربما يموت منه، يقال: صعق الرجل: إذا أصابه فزع فأغمي عليه، ثم استعمل في الموت كثيرًا، والصعقة: المرة منه، ومنه قوله تعالى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 68].
والمراد بالصعقة في هذا الحديث: صعقة فزع يكون بعد البعث يصعق به الناس، ويسقط الكل، ولا يسقط موسى اكتفاء بصعقته في الطور لذكر الإفاقة بعده؛ لأن الإفاقة إنما تستعمل في الغشي والبعث في الموت، وليس للصعقة التي يكون بعده البعث إفاقة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يبعث قبل الكل بلا خلاف في ذلك فكيف يقول: لا أدري؟ وقيل: يحتمل أنه قال قبل أن يعلم أنه أول من ينشق، أو أراد أنه من زمرة هم أوّلهم، وهم زمرة الأنبياء، فيكون المراد بالبعث في رواية:(أو بعث قبلي): الإفاقة؛ جمعًا بين الروايتين.
وقوله: (أو كان فيما استثنى اللَّه) بقوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، الظاهر من كلام المفسرين أن الاستثناء في الصعقة التي تكون قبل البعث، ويفهم من هذا الحديث أنه يكون في هذه الصعقة أيضًا، واللَّه أعلم. و (صعقة يوم الطور) هو المشار إليه بقوله تعالى:{وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف: 143].
وقوله: (ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يونس بن متى) متى هي اسم أم يونس،
5709 -
[12] وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَة: "لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ". [خ: 2411، 2412].
5710 -
[13] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3416، م: 2376].
وَفِي رِوَايَةِ البُخَارِيِّ قَالَ: "من قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ". [خ: 4654].
ــ
كذا في (شرح ابن الملك)(1) نقلًا عن (جامع الأصول)، وقال في (القاموس) (2): متى كحتى: أبو يونس النبي عليه السلام.
5709 -
[12](أبو سعيد) قوله: (لا تفضلوا) يروى: بصاد مهملة، أي: لا تفرقوا، كما قال:{لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]، وبمعجمة.
5710 -
[13](أبو هريرة) قوله: (إني خير) و (أنا خير) ضمير المتكلم عبارة عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو الموافق لباقي الأحاديث، وقيل: عبارة عن كل قائل يقول ذلك، أي: لا يفضل أحد نفسه على يونس من جهة أنه لم يصبر على أذى الأمة، فإن الولي لا يبلغ درجة النبي، وإن لم يكن من أولي العزم.
وقوله: (فقد كذب) قيل: المراد كفر، فإنهم اتفقوا على كفر من يفضل نفسه
(1)"شرح مصابيح السنة"(6/ 161).
(2)
"القاموس"(ص: 160).
5711 -
[14] وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قتلَهُ الْخَضِرُ طُبعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3401، م: 2661].
ــ
على الأنبياء.
5711 -
[14](أبي بن كعب) قوله: (طبع كافرًا) أي: خلق على الكفر، وكان في التقدير الإلهي أن يكون خاتمته على الكفر، وهذا لا ينافي حديث:(كل مولود يولد على الفطرة)، إذ المراد بالفطرة كونه قابلًا ومستعدًا لقبول الإسلام، وهو لا ينافي كونه شقيًّا في جبلته، وبالجملة الفطرة غير السابقة، وقد سبق تحقيقه في أول الكتاب في (باب الإيمان بالقدر).
وقوله: (ولو عاش لأرهق أبويه) أي: أغشاهما وأعجلهما، رهقه بالكسر: غشيه، وأرهقه: أغشاه، وأرهقني إثمًا حتى رهقته: حملني إثمًا حتى حملته، في (القاموس) (1): رهقه كفرح: غشيه ولحقه، والرَّهَقُ محركة: السَّفَهُ، والنَّوكُ، وركوب الشر والظلم، واسم من الإرهاق، وهو أن تَحْمِل الإنسان على ما لا يطيقه، والكذب، والعجلة.
وقوله: (طغيانًا) عليهما، (وكفرًا) لنعمتهما بعقوقه فيلحقهما شرًّا، أو المعنى حملهما أن يتبعاه في الطغيان، وكان الخضر مأمورًا بالعمل بالحقيقة كلًّا أو بعضًا، وهذا من جملة أوحى اللَّه إليه، أو الهمه بأن الغلام كافر في المآل فاقتله، بخلاف موسى عليه السلام فإنه كان مأمورًا بالعمل بالظاهر، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم مأمورًا بالعمل بالحقيقة في بعض المواضع كما أمر بقتل بعض من كان مسلمًا في الظاهر، وعلم منه أنه يموت
(1)"القاموس"(ص: 819).
5712 -
[15] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّمَا سُمِّيَ الْخَضِرُ لأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ. . . . .
ــ
على الكفر، كما ذكر في خصائصه صلى الله عليه وسلم.
5712 -
[15](أبو هريرة) قوله: (إنما سمي الخضر) الخضر بفتح الخاء وكسرها وسكون الضاد وكسرها، كذا قال الكرماني (1)، وقال القسطلاني (2): الخضر بفتح الخاء وكسر الضاد، وقد تسكن الضاد مع كسر الخاء وفتحها، اسمه بَلِيَّا بن ملكان، وقيل: إنه ابن فرعون صاحب موسى عليه السلام، وهو غريب جدًا، وقيل: ابن مالك، وهو أخو إلياس، وقيل: ابن آدم لصلبه، والصحيح أنه نبي معمر محجوب عن الأبصار، وأنه باق إلى يوم القيامة لشربه من ماء الحياة، وعليه الجماهير واتفاق الصوفية، وكثير من الصالحين، وأنكر جماعة حياته منهم البخاري وابن المبارك والخرقي وابن الجوزي، كذا نقل في (شرح القصيدة الأمالية) تمسكًا بإخباره بقوله صلى الله عليه وسلم:(أنه لا يعيش أحد على وجه الأرض بعد مئة سنة)، والحق خلاف ما قال المنكرون، والحديث مؤول وكذا حديث:(لو كان الخضر حيًّا لزارني)(3)، كما بين في موضعه، وكنيته أبو العباس، قيل: كان في زمان إبراهيم الخليل، وقيل: هو من ولد نوح بسبع وسائط، وكان أبوه من الملوك، كذا في (مجمع البحار)(4)، واللَّه أعلم.
وقوله: (على فروة بيضاء) الفروة بفتح الفاء: الأرض اليابسة ليس بها نبات،
(1)"شرح الكرماني"(14/ 54).
(2)
"شرح البخاري" للقسطلاني (1/ 173).
(3)
انظر: "كشف الخفاء"(1/ 488، رقم: 1370).
(4)
"مجمع بحار الأنوار"(2/ 58).
فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِه خَضْرَاءَ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 3402].
5713 -
[16] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ". قَالَ: "فَلَطَمَ مُوسَى عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا" قَالَ: "فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللَّهِ فَقَالَ: إِنَّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَكَ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي". قَالَ: "فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى عَبْدِي فَقُلْ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ . . . . .
ــ
وقيل: الحشيش اليابس.
وقوله: (خضراء) على وزن فعلاء، أي: أرضا خضراء، وعند أكثر الرواة:(خضرًا) أي: نباتًا أخضر غضًا، قال عياض (1): كلاهما صحيح، وأقول: الأول أنسب بتفسير (الفروة) بالأرض، والثاني بتفسيره بالحشيش.
5713 -
[16](أبو هريرة) قوله: (فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها) أي: كسرها وقلعها، يقال: فقأ العين والبثرة: كسرها أو قلعها، قد يستبعد هذا بأنه كيف كان فقأ عين الملك؟ فيقال: إنه متشابه فيفوض علمه إلى اللَّه، وأن موسى لم يعرف أنه ملك الموت، وظن أنه رجل قصد نفسه، وكأن الملك تمثَّل بصورة البشر فدفعه عنها، فأدت مدافعته إلى فقأ عينه، واستبعد هذا الجواب بأن الرجل الداخل لم يقصد المحاربة حتى يدفعه، بل دعاه للموت، ولمجرد هذا القول لا يصدر عن مؤمن صالح مثل هذا الفعل فما ظنك بموسى عليه السلام، وقيل: إن موسى عليه السلام كان في طبعه حدة، حتى روي: أنه عليه السلام إذا غضب اشتعلت قلنسوته، فإذا هجم عليه رجل فدعاه إلى الهلاك عرف أنه لا يكون إلا بالحرب فدفعه.
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 244).
فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ فَإِنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ. قَالَ: فَالآنَ مِنْ قَرِيبٍ،
ــ
ويحتمل أن يكون ذلك جائزًا في شرعه، أو لأن موسى عليه السلام زعم أنه كاذب حين ادعى قبض روحه لزعمه أن بشرًا لا يقبض الروح فغضب عليه فلطمه، وكان هذا الغضب للَّه في اللَّه، فلم يكن مذمومًا، ولهذا لم يعاتبه اللَّه على ذلك، وبالجملة إذا صح الحديث وجب الإيمان به، فما أدرك من محامله يحمل عليه، وما لا يدرك وجب التفويض، واللَّه أعلم (1).
وقوله: (على متن ثور) أي: ظهره، والمتن في الأصل: الأرض الصلبة من المتانة بمعنى القوة والصلابة، وسمي الظهر متنًا لاكتنافه وصلابته بالصلب.
وقوله: (فما توارت) هكذا في (صحيح مسلم)، وقال التُّورِبِشْتِي (2): الصواب: (ما وارت)، و (توارت) غلط وقع عن بعض الرواة في (كتاب مسلم)، ويؤيده ما في (كتاب البخاري):(فله بما غطت يده بكل شعرة سنة)(3)، وقيل: يحتمل أن يكون (يدك) منصوبًا بنزع الخافض، أي: بيدك، وفي (توارت) ضمير راجع إلى (ما)، وإنما أنثه لكون (ما) عبارة عن الشعرة، وهذا تكلف لا يخفى إن صحت الرواية بالنصب، والمشهور الرفع.
وقوله: (مه) الهاء للسكت، و (ما) للاستفهام.
وقوله: (فالآن من قريب) أي: أختار الموت الآن، أو مُر الملك أن يقبض روحي
(1) انظر: "الكنز المتواري"(7/ 239).
(2)
"الميسر"(4/ 1237).
(3)
أخرجه البخاري في "صحيحه"(3407).
رَبِّ أَدْنِنِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ". قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ لَوْ أَنِّي عِنْدَهُ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَنْبِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 1339، م: 2372].
5714 -
[17] وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُرِضَ عَلَيَّ الأَنْبِيَاءُ فَإِذَا مُوسَى ضَرْبٌ مِنَ الرِّجَالِ،
ــ
الآن، وإنما سأل الأدناء من الأرض المقدسة لشرفها وفضلها على سائر البقاع في ذلك الزمان، وبفضل من فيها من المدفونين من الأنبياء والمرسلين، وفي هذا استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والقرب من مدافن الصالحين.
وقوله: (رمية بحجر) أي: مقدار ذلك، قيل: إنما لم يسأل نفس بيت المقدس، لأنه خاف أن يكون قبره مشهورًا فيفتتن به الكفار، ويجوز أن يكون معناه: ولو كان مقدار رمية بحجر ولم يكن في نفسه، فتدبر، واللَّه أعلم.
وقوله: (عنده) أي: عند بيت المقدس، و (الكثيب) التل من الرمل.
5714 -
[17](جابر) قوله: (عرض علي الأنبياء) قيل: مثلت أرواحهم متشكلة بما كانوا عليه في الدنيا من الأشكال، وقيل: كوشفت له صور أبدانهم في نوم أو يقظة، واللَّه أعلم.
وقوله: (ضرب من الرجال) الضرب: المصنف من الشيء، والخفيف اللحم، كذا في (القاموس)(1)، وقال في (المشارق) (2): في موسى ضرب من الرجال بسكون الراء، وهو ذو الجسم بين الجسمين لا بالناحل ولا بالمطهم، وقال الخليل: الضرب القليل
(1)"القاموس"(ص 113).
(2)
"مشارق الأنوار"(2/ 98).
كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، ورأيتُ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَن رأيتُ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ -يَعْنِي نَفْسَهُ-، وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 167].
5715 -
[18] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي مُوسَى رَجُلًا آدَمَ طُوَالًا جَعْدًا كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلًا مَرْبُوعَ الْخَلْقِ. . . . .
ــ
اللحم، ووقع عند الأصيلي بكسر الراء وسكونها معًا، ولا وجه للكسر، انتهى.
وقوله: (شنوءة) بفتح شين معجمة ثم نون ثم واو ثم همزة: قبيلة معروفة، ومنه أزد شنوءة، وهم حي من اليمن.
5715 -
[18](ابن عباس) قوله: (ليلة أسري بي) بفتح (ليلة) مبنيًا مضافة إلى الجملة، وهو جائز البناء، وهنا توافق حركة بنائه وإعرابه، وأما تنوينه بالوصف وحذف الرابطة فمما يرى جوازه في طبائع الإعجام، وليس بكلام عربي، كذا في (شرح الشيخ) في موضع آخر.
و(الآدم) الشديد السمرة. و (طوال) بضم الطاء وفتح الواو بمعنى طويل، وهي طوالة وجمعه طوال وطيال بكسرهما، وبتشديد الواو: المفرط الطول. وأما (الجعودة) فالأكثر أنه يكون صفة للشعر، وقيل: أراد هنا جعودة الجسم، وهي اجتماعه واكتنازه، لا ضد سبوط الشعر؛ لأنه روي أنه رجل الشعر، وكذا المراد فيما وقع من الحديث في وصف عيسى، ويحتمل جعودة الشعر بين القطط والسبط، وفي وصف الدجال بمعنى القصير المتردد الخلق، وبمعنى البخيل. و (مربوع الخلق) بمعنى معتدل القامة.
إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، سَبْطَ الرَّأْسِ، وَرَأَيْتُ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ، وَالدَّجَّالَ فِي آيَاتٍ أَرَاهُنَّ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَلَا تَكُنْ فِي مِزيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3239، م: 165].
5716 -
[19] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى -فَنَعَتَهُ-: فَإِذَا رَجُلٌ مُضْطَرِبٌ. . . . .
ــ
وقوله: (إلى الحمرة) أي: مائلًا إلى الحمرة والبياض. و (السبط) المنبسط المترسل، وفي وصفه صلى الله عليه وسلم:(ليس بالسبط ولا بالجعد القطط)، فالقطط: الشديد الجعودة، وقال النووي (1):(السبط) بكسر السين وفتحها مع سكون باء وكسرها وفتحها، ويجيء إن شاء اللَّه تعالى هذه الألفاظ بالتفصيل في شمائله صلى الله عليه وسلم، وهو موضعه.
وقوله: (في آيات أراهن اللَّه إياه) قيل: هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، أي: رأيت المذكور في جملة آيات أراهن اللَّه إياه، وفي (إياه) التفات بوضعه موضع (إياي).
وقوله: (فلا تكن في مرية من لقائه) متعلق بقصة موسى ورؤيته، وذكر عيسى وما يتبعه من الآيات استطراد إشارة إلى قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} [السجدة: 23]، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلف، وإن كان ذهب إليه جمهور العلماء الذين تكلموا في هذا الحديث، وقال بعض الشارحين: إن قوله: (في آيات. . . إلخ)، من كلام الراوي الحقه بالحديث، والخطاب عام، أي: لا تكن أيها المخاطب في مرية من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء والخازن والدجال، وهذا أظهر في العبارة، واللَّه أعلم.
5716 -
[19](أبو هريرة) قوله: (فإذا رجل مضطرب) قد جاء في وصفه عليه السلام:
(1)"شرح النووي على صحيح مسلم"(2/ 227).
رَجِلُ الشَّعْرِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَلَقِيتُ عِيسَى رَبْعَةً أَحْمَرَ. . . . .
ــ
(ضرب من الرجال) بمعنى ضعيف اللحم، فحمل بعضهم المضطرب على أنه افتعال من الضرب بالمعنى المذكور، لكن التُّورِبِشْتِي (1) قال: إن المضطرب بمعنى الضرب مما لم نجده ولم نعلم له مساغًا في السنة من القياس؛ لأن الأصل في اضطرب افتعل أبدلت التاء طاء، ولم يذكر من الضرب الذي هو خفة اللحم، فالوجه أن يكون عبارة عن الحدة التي كان قد جُبِل عليها، فإن من شأن الحاد أن يكون متحركًا قلقًا، انتهى.
ونقل الطيبي (2): أن المراد أنه كان مستقيم القد حادًا، وقال عياض (3): المضطرب هو الطويل غير الشديد، وقيل: معناه أنه كان مضطربًا من خشية اللَّه تعالى، وقد جاء أن موسى عليه السلام كان يصلي مضطربًا متحركًا.
قال في (العوارف): ما حاصله أن كان من تموج بحار الأنس، والحضور في باطنه، أو كما قاله. و (رجل الشعر) بفتح الراء وكسر الجيم، أي: بين الجعودة والسبوطة، والمراد شديدهما، و (الربع) بفتح الراء وسكون الباء هو المربوع بمعنى معتدل القامة، ويقال: للمرأة: ربعة، والتأنيث بتأويل النفس، كذا قال الشارحون.
ويفهم من (القاموس)(4) أن الربع والربعة كليهما يطلقان على الرجل حيث قال: الربع: الرجل بين الطول والقصر، كالمربوع والربعة، ويحرك، وقال: وهي ربعة،
(1)"كتاب الميسر"(4/ 1238).
(2)
"شرح الطيبي"(10/ 317).
(3)
"مشارق الأنوار"(2/ 56).
(4)
"القاموس المحيط"(ص: 662).
كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ -يَعْنِي الْحَمَّامَ-، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ" قَالَ:"فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ" أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ. فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ لِي: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3394، م: 168].
ــ
انتهى. فالربعة يطلق على الرجل والمرأة. وقال في (المشارق)(1): بسكون الباء وفتحها، وفتح الراء، وهو الرجل بين الرجلين في قده وقامته، والمؤنث والمذكر والواحد والجمع فيه سواء.
و(الديماس) بكسر الدال وسكون التحتانية، فسره في الحديث بالحمام، وفي (القاموس) (2): الديماس ويكسر: الكِنُّ والسرب، والحَمَّام، وقال الشيخ (3): هذا تفسير عبد الرزاق، والمراد وصفه بصفاء اللون ونضارة الجسم وكثرة ماء الوجه.
وقوله: (أحدهما لبن والآخر فيه خمر) بحذف (فيه) في الأول، وذكره في الثاني تفننًا، وقيل: إرادة لتكثير اللبن وتقليل الخمر.
وقوله: (هديت) بلفظ المجهول من الهداية، والمراد بالفطرة وهو الدين والإسلام، وهي التي فطر الناس عليها، فإن اللبن لما كان ذا خلوص وبياض، وأول ما يحصل به تربية المولود صيغ منه في العالم القدسي مثال الهداية والفطرة التي بها تتم القوة الروحانية، والعالم القدسي يصاغ فيه الصور من العالم الحسي، وهو عالم
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 279).
(2)
"القاموس"(ص: 506).
(3)
"فتح الباري"(6/ 484).
5717 -
[20] وَعَنِ ابْنِ عبَّاسٍ قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَمَرَرْنَا بِوَادٍ، فَقَالَ:"أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ ". فَقَالُوا: وَادِي الأَزْرَقِ، قَالَ:"كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى"، فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعْرِهِ شَيْئًا:"وَاضِعًا أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي". قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيَّةٍ. فَقَالَ: "أَيُّ ثَنِيَّةٍ هَذِهِ؟ " قَالُوا: هَرْشَى. . . . .
ــ
الناموس (1) لتدرك بها المعاني، وقد ورد أن من رأى اللبن في المنام يشربه يكون تعبيره الدين والعلم والهداية بخلاف الخمر، فإنها لكونها ذات مفسدة وشر ومضرة في الدنيا والدين صيغ منها الغواية وما يُفسد القوةَ الروحانيةَ.
5717 -
[20](ابن عباس) قوله: (وادي الأزرق) هو موضع بين الحرمين سمي به لزرقته، وقيل: منسوب إلى رجل بعينه زرقة.
وقوله: (فذكر من لونه وشعره شيئًا) كما ذكر في الحديث: (آدم رجل الشعر).
وقوله: (واضعًا) حال من (موسى)، ولعل ذلك لقصد رفع الصوت -كما في الأذان- في التلبية، وكان في شرعه، وأما أنه هل يجوز لنا ذلك؟ فصحيح على من يقول بشرع من قبلنا ما لم ينسخ.
و(الجؤار) بضم الجيم وبالهمزة، أي: صوت وتضرع، يقال: جأر كمنع جأرًا وجؤارًا: رفع صوته بالدعاء وتضرع واستغاث، والبقرة والثور: صاحا، و (مارًّا) حال ثانية من (موسى) متداخلة أو مترادفة، والثاني أظهر. و (الثنية) الطريق في الجبل. و (هرشى) بفتح هاء فراء ساكنة وشين معجمة مقصورًا كسكرى: جبل في طريق المدينة
(1)"وهو عالم الناموس" سقط في (ك)، و (ع)، و (ر).
-أَوْ لِفْتٌ-. فَقَالَ: "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ، عَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ، خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ، مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبِّيًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 166].
5718 -
[21] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ الْقُرْآنُ،
ــ
قريب الجحفة بضم الجيم وسكون الحاء المهملة. و (اللفت) بالكسر: ثنية جبل قديد بين الحرمين، ويفتح، كذا في (القاموس)(1)، وقيل: يجوز على تقدير الفتح كسر الفاء وفتحها أيضًا.
وقوله: (خطام نافته) الخطم من الدابة: مقدم أنفها وفمها، المخطم كمجلس ومنبر، والخطام بالكسر: حبل يجعل على مخطم البعير ليقتاد به. و (الخلب) بخاء المعجمة بضم أو بضمتين: الليف والحبل منه.
ثم اعلم أن رؤيته صلى الله عليه وسلم قيل: كناية عن اليقين، يعني: أن لي علمًا بأحوالهم وأفعالهم التي كانت لهم [في] حياتهم يقينًا كأني أرى ذلك، وقيل: رؤية منام، وقيل: تمثل وكوشف له وأدخل في حسه المشترك، وأعلى من ذلك أنه رأى ذلك في الوقت الذي كانوا عليها في حياتهم، وذلك في عالم ليس فيه ماض ومستقبل، وتحقيق هذا المعنى يطلب من كلام بعض الصوفية حيثما تكلموا في حقيقة الزمان والمكان، وعلى التقادير كلها ليس هذا عملًا في الدار الآخرة التي هي دار الجزاء دون العمل، أما على الوجوه الثلاثة الأول فظاهر، وأما على الرابع فهو عين العمل الذين كانوا يعملونه في الدنيا في حياتهم، فافهم.
5718 -
[21](أبو هريرة) قوله: (خفف على داود القرآن) أي: قراءة القرآن،
(1)"القاموس"(ص: 564، 160).
فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ، فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ، وَلَا يَأْكُلُ إِلَّا مِنْ عَمَلِ يَدَيهِ". رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 3417].
5719 -
[22] وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3427، م: 1720].
ــ
وقيل: هو بمعنى المصدر كالغفران بمعنى القراءة، كما في قوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، أي: قراءته.
وقوله: (فكان يأمر بدوابه فتسرج) لا يعرف كم كانت دوابه، وكم يمضي فيه من الزمان، وعلى كل تقدير لم يكن ما يعتاد من الزمان في إتمام قراءة الزبور خصوصًا التوراة مع كثرته وطوله حتى كان حفظه معجزة للأنبياء، وهذا من قبيل طي الزمان وهو أمر مقرر عند العارفين.
5719 -
[22](وعنه) قوله: (فقضى به للكبرى) لعله بشبه رآه فيها، أو لكونه في يدها، أو بدليل آخر سنح له في ذلك باجتهاده، ولم يكن هذا الحكم من داود عليه السلام بالوحي وإلا لم يخالفه سليمان، ثم قيل: إن إرادة سليمان شقه بينهما كان لاختبار شفقتهما ليتميز الأم (1)، وهذه حيلة لطيفة إلى معرفة باطن القضية، وأما حكمه للصغرى
(1) كذا في الأصل، والظاهر "ليتميز له الأمر". كما في "المرقاة"(9/ 3655) نقلًا عن النووي.
5720 -
[23] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ سُلَيْمَانُ: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً -وَفِي رِوَايَةٍ: بِمِئَةِ امْرَأَةٍ- كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ، فَطَافَ عَلَيْهِنَّ، فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ. . . . .
ــ
فكان بإقرار الكبرى بعد ذلك، وقد نقل مثل ذلك عن سيدنا علي رضي الله عنه.
وأما نقض سليمان حكم داود، وحكم النبي لا يرد ولا ينقض وإن كان باجتهاد؟ فقيل: إنه لم يكن حكمًا من داود ولم يجزم به، وهذا ينافي ظاهر لفظ الحديث، والإقرار بعد الحكم جائز كما اعترف المحكوم له بعد الحكم أن الحق لخصمه، فقضى به للكبرى إلا أن يراد هَمَّ بأن يحكم وأراده، قيل: لعل نسخ الحكم المجتهد فيه كان جائزًا في شرعهم، واللَّه أعلم.
5720 -
[23](وعثه) قوله: (على تسعين امرأة) وفي رواية: (بمئة امرأة)، كأن هاتين الروايتين أصح الروايات وأقواها، وقد جاءت فيه روايات:(ستون)، و (سبعون)، و (تسعون)، و (تسع وتسعون)، و (مئة)، والجمع أن الستين كن حرائر، وما زاد كنّ سراري، أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون والمئة وفوق التسعين، فمن قال: تسعين الغى الكسر، ومن قال: مئة جَبَره، كذا قال الشيخ (1)، واللَّه أعلم.
وقوله: (كلهن) أي: كل واحدة منهن، ويعلم من هذا أن (كلًّا) مضافًا إلى المعرفة أيضًا قد يكون إفراديًا.
وقوله: (فلم يقل ونسي) أي: لم يقل حين قال له الملك ولا بعده للنسيان، والاستثناء على المختار إنّما أن يصح ويعمل متصل، وعلى تقدير صحة المنفصل نسي،
(1)"فتح الباري"(6/ 460).
جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَأَيْمُ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3424، م: 1654].
5721 -
[24] وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ زَكَرِيَّاءُ نَجَّارًا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2379].
5722 -
[25] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ، الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلَّاتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِيٌّ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3442، م: 2365].
ــ
ولم يتيسر له القول، فافهم.
وقوله: (بشق رجل) أي: جسده من غير رأس، والشق: قطعة من الشيء.
5721 -
[24](أبو هريرة) قوله: (كان زكرياء) ممدود ومقصور.
5722 -
[25](أبو هريرة) قوله: (أنا أولى الناس بعيسى) أي: أقربهم إليه، لأنه ليس بينهما نبي، ولأن عيسى كان مبشرًا لقدومه وممهدًا لقواعد دينه، وسيكون في آخر الزمان نائبه وخليفته.
وقوله: (إخوة من علات) شبه ما هو المقصود من بعثة جملة الأنبياء، وهو إرشاد الخلق بالأب، وشبه شرائعهم المتفاوتة في الصور المتقاربة في العرض بالأمهات، كذا قالوا.
وقوله: (ودينهم واحد) يعني: أن الشراح وإن كانت متعددة مختلفة لكن أصل دينهم وهو التوحيد والطاعة واحد، فكلهم أقارب لي، ولكن عيسى أقرب، ولا ينافي
5723 -
[26] وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعَنُ الشَّيْطَانُ فِي جَنْبَيْهِ بِإِصْبُعَيْهِ حِينَ يُوَلَدُ، غَيْرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعَنُ فَطَعَنَ فِي الْحِجَابِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 2386، م: 2366].
5724 -
[27] وَعَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ،
ــ
هذا قوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ} [آل عمران: 68]، لأنه أولى الناس بإبراهيم من جهة الاقتداء، وأولاهم بعيسى من جهة قرب العهد.
5723 -
[26](وعنه) قوله: (يطعن الشيطان في جنبيه) الظاهر أنه هو المراد من المس في حديث: (ما من مولود إلا يمسه الشيطان) على ما مر في (باب الوسوسة)، وأرادوا (بإصبعيه) السبابة والوسطى، والمراد (بالحجاب) المشيمة، يعني: لم يصل طعنه إلى جسده.
5724 -
[27](أبو موسى) قوله: (إلا مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون) استدل بهذا الحصر على أنهما نبيتان؛ لأن أكمل الإنسان الأنبياء، ثم الصديقون والشهداء والصالحون، فلو كانتا غير نبيتين للزم أن لا يكون في النساء ولية ولا صديقة ولا شهيدة ولا صالحة غيرهما، قال الكرماني (1): لا يلزم من لفظ الكمال ثبوت نبوتهما؛ لأنه يطلق لتمام الشيء وتناهيه في بابه، والمراد بلوغهما إلى النهاية في جميع الفضائل التي للنساء، انتهى.
(1)"شرح الكرماني"(14/ 60).
وَفَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3411، م: 2431].
وَذُكِرَ حَدِيثُ أَنَسٍ: "يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ". . . . .
ــ
ولا يخفى عليك بأن بلوغ مريم وآسية نهاية الكمال المستلزم لأفضليتهما من فاطمة وخديجة وعائشة محل نظر، ذكر السيوطي (1): أن أفضل النساء مريم وفاطمة، وقال: وفي حديث: (فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)، دلالة على تفضيلها على مريم، وهما متساويتان ليست بواحدة منهما أفضل من الأخرى.
وفي (التيسير) للنسفي: إن خديجة وعائشة وفاطمة أفضل من مريم، ثم الأصح أن مريم ليست نبية، وادعى بعضهم الإجماع على عدم نبوة النساء، وتعقب بأن دعوى الإجماع غير مسلم، فإن الخلاف في نبوة نسوة موجود خصوصًا مريم، فإن القول بنبوتها شهير، بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في (الجليات) إلى ترجيحه، وقال: إن ذكرها مع الأنبياء قرينة قوية لذلك، قيل: العجب من هذا الشيخ أنه استشعر بهذه القرينة، ولم ينظر إلى نص قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا} [يوسف: 109]، فإنه نص في نفي النبوة عن النساء، ونقل عن الأشعري نبوة حواء، وسارة، وأم موسى، وهاجر، وآسية، ومريم، والآية المذكورة ترده، اللهم إلا أن يقال: المنفي في الآية الرسالة لا النبوة، وهي أعم من الرسالة، وهذا محمل لطيف لقول هؤلاء الأكابر، واللَّه أعلم.
وقوله: (وفضل عائشة على النساء. . . إلخ)، المقصود عطف الصديقة على
(1)"الخصائص الكبرى" للسيوطي (2/ 348).
وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَيُّ النَّاسِ أَكَرَمُ"، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ:"الْكَرِيْمُ بْنُ الْكَرِيمِ" فِي (بَابِ الْمُفَاخَرَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ).
ــ
مريم وآسية، لكن أبرز الكلام في صورة جملة مستقلة دلالة على ثبوت فضل خاص وامتياز مخصوص لها من بينها، ثم ظاهر الحديث المذكور يفيد فضلهما يعني مريم وأَسية على سائر النساء حتى فاطمة وخديجة وعائشة وسائر أزواجه وبناته صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان هذا الإخبار قبل أن يوحى إليه بفضل هذه المطهرات، أو استثنى من العموم بقرينة الأحاديث الأخر.
وبالجملة وقعت أخبار متعددة مختلفة في فضائل النساء، فماما أن يفيد بجهات مخصوصة أو تخصيص العمومات، وفي (الخصائص) للخيضري (1): سكت الأصحاب عن ذكر زينب بنت جحش، وينبغي إلحاقها بخديجة وعائشة لتولي اللَّه تعالى بتزويجها، وفي (الخصائص) (2) للسيوطي: زوجاته وبناته صلى الله عليه وسلم أفضل نساء العالمين، وأصحابه أفضل العالمين إلا النبيين، وقد نقلنا في (شرح العقائد)(3) الفارسية لنا الأقوال فيهما، فتدبر.
(1) هو قطب الدين محمد بن محمد بن عبد اللَّه بن خيضر الخيضري الشافعي المتوفى سنة أربع وتسعين وثمان مئة، وسمى كتابه "اللفظ المكرم بخصائص النبي المحترم" وهو مطبوع. انظر:"كشف الظنون"(2/ 1559)، و"الرسالة المستطرفة" (ص: 125).
(2)
"الخصائص الكبرى" للسيوطي (2/ 348 - 350).
(3)
اسمه "تكميل الإيمان وتقوية الإيقان" شرح فيه الشيخ عفائد الإسلام، يحتوي الكتاب على ثمانين صفحة، طبع عدة مرات، توجد نسخه الخطية في حيدرآباد ومكتب الهند، والجمعية الآسيوية.