الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
5956 -
[1] عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَجَعَلَا يُقْرِآنِنَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ جَاءَ عَمَّارٌ وَبِلَالٌ وَسَعْدٌ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي عِشْرِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَمَا رَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فَرِحُوا بِشَيْءٍ فَرْحَهُمْ بِهِ، حَتَّى رَأَيْتُ الْوَلَائِدَ وَالصِّبْيَانَ يَقُولُونَ: . . . . .
ــ
سعيد بن المسيب قال: بقي في البيت موضع قبر يدفن فيه عيسى ابن مريم عليهما السلام، وقبض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ودفن ليلة الأربعاء، وقيل: دفن يوم الثلاثاء حين زاغت الشمس، وقيل: صُلّي عليه يوم الأربعاء ثم دفن، والأول أصح، وقد ندبه ورَثَاه أهل بيته وأصحابه، وقد ذكرنا منه ومن باقي أحوال مرضه وموته ودفنه ونحوها في رسالة لنا مسماة بـ (ما ثبت في السنة) من أحكام السنة وما ذكرنا يكفي ههنا، وباللَّه التوفيق.
الفصل الأول
5956 -
[1](البراء) قوله: (أول من قدم علينا) أي: جاء من مكة إلى المدينة مهاجرًا، وقد كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قدم بعض أصحابه إليها قبل أن يهاجر بنفسه الكريمة إجابة لسؤال بعض الأنصار، ذلك منه ليعلمهم القرآن والأحكام ولمصالح أخرى رآها في ذلك، و (مصعب) بضم الميم وسكون المهملة وفتح العين (ابن عمير) بلفظ التصغير.
وقوله: (يقرآننا) من الإقراء أي: يعلماننا، و (الولائد) جمع وليدة، وهي الجارية الصغيرة، فعيل بمعنى مفعول، وقد يطلق على الأمة وإن كانت كبيرة كالفتاة.
هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَاءَ، فَمَا جَاءَ حَتَّى قرأتُ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] فِي سُوَرٍ مِثْلِهَا مِنَ الْمُفَصَّلِ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 4941].
5957 -
[2] وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يؤّتيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ". . . . .
ــ
وقوله: (حتى قرأت) أي: تعلمت.
وقوله: (في سور مثلها) أي: في جملة سور مثلها في المقدار، هذا وقال الشيخ (1): هذا يدل على أن {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} نزلت بمكة، ويشكل عليه أن قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15] نزلت في زكاة الفطر، ووجوب صلاة العيد في السنة الثانية من الهجرة، وقيل: ويحتمل أن تكون السورة مكية إلا هاتين الآيتين، والأصح أنها كلها مكية، واللَّه أعلم.
وأقول: كون هذه السورة مكية إنما هو على قول الجمهور، وقيل: إنها مدنية، كذا قال الحلبي في (حاشية تفسير القاضي)، وحمل قوله:(تزكى) على أداء الزكاة إنما هو على أحد التفاسير، وقد فسر بالتطهر من الكفر والمعصية، وبالتكثر من التقوى من الزكاء، وبالتطهر للصلاة.
وقال الحلبي: وعلى تقدير كون السورة مكية وكون المراد من قوله: (تزكى) و (صلى): زكاة الفطر وصلاة العيد يمكن أن يقال: لما كان في علم اللَّه تعالى أن ذلك سيكون أثنى على من فعله، وفيه الإخبار على الغيب.
5957 -
[2](أبو سعيد الخدري) قوله: (جلس على المنبر) وكان ذلك في
(1)"فتح الباري"(7/ 262).
فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ قَالَ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا فَعَجِبْنَا لَهُ، فَقَالَ النَّاسُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هوَ الْمُخَيَّرُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أعْلَمَنَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3904، م: 2382].
5958 -
[3] وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِ سنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ، ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: "إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ، وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ،
ــ
مرضه، وقد جاء مصرحًا في رواية، وفي أخرى: كان ذلك قبل أن يتوفى بخمس ليال.
5958 -
[3](عقبة بن عامر) قوله: (صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم) أي: صلاة الجنازة وهو الظاهر، وهذا يؤيد مذهبنا، وقال الشافعي: المراد بالصلاة الدعاء والاستغفار، وليس على الشهيد صلاة الجنازة عنده.
وقوله: (بعد ثمان سنين) أي: من دفنهم.
وقوله: (كالمودّع للأحياء والأموات) توديعه للأحياء ظاهر، وأما توديعه للأموات فلانقطاع دعائه واستغفاره لهم، و (الفرط) بالتحريك: المتقدم إلى الماء، من فرط فروطًا بالضم: سبق وتقدم، كذا في (القاموس)(1)، وفي (الصحاح) (2): هو فعل بمعنى فاعل، مثل تبع بمعنى تابع، يقال: رجل فرط، وقوم فرط، يستوي
(1)"القاموس المحيط"(ص: 627).
(2)
"الصحاح"(3/ 1148).
وَإِنَّ مَوْعِدكُمُ الْحَوْضُ، وَإِنِّي لأَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَنَا فِي مَقَامِي هَذَا، وَإِنِّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ، وَإِنِّي لَسْتُ أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُم الدُّنْيَا أَنْ تُنَافِسُوا فِيهَا". وَزَادَ بَعْضُهُمْ:"فَتَقْتَتِلُوا فَتَهْلِكُوا كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 4042، م: 2296].
5959 -
[4] وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوِفِّيَ فِي بَيْتِي، وَفِي يَوْمِي، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي، وَإِنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ. . . . .
ــ
فيه الواحد والجمع، يريد تقدمه إلى دار الآخرة ليشفع لهم ويهيئ أسباب نجاتهم وشفاعتهم.
وقوله: (وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض) إخبار بتملك أمته الخزائن.
وقوله: (أن تنافسوا فيها) أي: ترغبوا وتميلوا إليها كل الميل، ومنه شيء نفيس ومنفوس يتنافس فيه ويرغب.
5959 -
[4](عائشة) قوله: (توفي في بيتي وفي يومي) قد عرفت في شرح الترجمة أنه صلى الله عليه وسلم استأذن أزواجه في أن يمرض في بيت عائشة، فكان صلى الله عليه وسلم في بيتها إلى يوم وفاته، ولعله صادف يوم نوبتها أيضًا، وفيه تأكيد لبيان فضلها وإلا فالأيام كلها سواء بعد الإذن، فافهم.
و(السحر) بفتح السين ويضم وسكون الحاء المهملة: الرئة، والمراد هنا الصدر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان مستندًا إلى صدرها، والمراد بـ (النحر) موضعه وهو موضع القلادة من أعلى الصدر.
وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ وَأَنَا مُسْنِدَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ، فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ:"لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهِ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَراتٍ". ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ:"فِي الرَّفِيقِ الأَعْلَى". حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ. رَوَاهُ البُخَارِيُّ. [خ: 4449].
ــ
وقوله: (وأنا مسندة) بكسر النون بالإضافة، ويروى منونًا.
وقوله: (فتناولته) أي: أخذت السواك من عبد الرحمن وناولته رسول اللَّه وحذف هذا اختصارا.
وقوله: (فأمره) أي: على أسنانه ولسانه من الإمرار، وفي بعض الروايات:(بأمره) جار ومجرور متعلق بـ (لينته)، و (الركوة) بفتح الراء: إناء من جلد.
وقوله: (في الرفيق الأعلى) أي: اجعلني في الرفيق الأعلى، وأريد الدخول فيهم، أو (في) بمعنى الباء تقديره: أريد اللحوق بالرفيق الأعلى، ويجوز أن يكون زائدة، أي: أريد الرفيق الأعلى، وفي رواية:(اخترت الرفيق الأعلى)، قال في (المشارق) (1): قيل: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى، وخطأ هذا الأزهري، وقال: بل هم جماعة الأنبياء، ويصححه قوله في الحديث الآخر:(مع النبيين والصديقين) إلى قوله: (وحسن أولئك رفيقًا) وهو يقع للواحد والجميع، وقيل: أراد مرتفق الجنة، وقال الداودي: هو اسم لكل سماء، وأراد الأعلى؛ لأن الجنة فوق ذلك، ولم يعرف هذا أهل اللغة ووهم فيه، ولعله تصحف له من الرفيع، وقال الجوهري: والرفيق
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 296).
5960 -
[5] وَعَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ". وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ،
ــ
أعلى الجنة، انتهى. وقيل: اجعلني في مكان الرفيق الأعلى، وأراد الرفيق الأعلى نفسه، وبمكانه: المقام المحمود والمخصوص به، أي: اجعلني ساكنًا فيه، أقول: والذي يتبادر إلى الفهم أن يكون المراد بالرفيق الأعلى هو اللَّه سبحانه، والرفيق من أسماء اللَّه تعالى.
وفي الحديث: (إن اللَّه رفيق يحب الرفق)، قال عياض (1): الرفق في صفات اللَّه تعالى وأسمائه بمعنى اللطيف الذي في القرآن في قوله: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19]، والرفق واللطف: المبالغة في البر على أحسن وجوهه، وكذلك في كل شيء أخذه بأحسن وجوهه وأقربها، وهو ضد العنف، ومنه في الحديث:(اللَّه رفيق يحب الرفق في الأمر كله)(2)، انتهى.
وأقول: ويؤيد إرادته ذكره صلى الله عليه وسلم هذا الكلام بعد قول ملك الموت له: إن اللَّه يشتاق إلى لقائك، نعم ظاهر قوله:(في الرفيق الأعلى) بكلمة (في) أظهر في إرادة النبيين وأرواحهم، ويؤيده قوله:(مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين)، واللَّه أعلم.
5960 -
[5](عائشة) قوله: (ما من نبي يمرض) من باب سمع.
وقوله: (بين الدنيا والآخرة) أي: بين البقاء في الدنيا والذهاب إلى ما عند اللَّه في الآخرة، و (البحة) بضم الموحدة وتشديد الحاء المهملة: غلظة الصوت وخشونته،
(1)"مشارق الأنوار"(1/ 296).
(2)
أخرجه البخاري في "صحيحه"(6927).