المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفصل الأول: - لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح - جـ ٩

[عبد الحق الدهلوي]

فهرس الكتاب

- ‌(28) كتاب أحوال القيامة وبدء الخلق

- ‌1 - باب النفخ في الصور

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌2 - باب الحشر

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌3 - باب الحساب والقصاص والميزان

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌4 - باب الحوض والشفاعة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌5 - باب صفة الجنة وأهلها

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌6 - باب رؤية اللَّه تعالى

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌7 - باب صفة النار وأهلها

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌8 - باب خلق الجنة والنار

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌9 - باب بدء الخلق وذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌(29) كتاب الفضائل والشمائل

- ‌1 - باب فضائل سيد المرسلين صلوات اللَّه وسلامه عليه

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌2 - باب أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌3 - باب في أخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌4 - باب المبعث وبدء الوحي

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌5 - باب علامات النبوة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌6 - باب في المعراج

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌7 - باب في المعجزات

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌8 - باب الكرامات

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌9 - باب

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌10 - باب

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌(30) [كتاب المناقب]

- ‌1 - باب مناقب قريش وذكر القبائل

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌2 - باب مناقب الصحابة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌3 - باب مناقب أبي بكر

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌4 - باب مناقب عمر

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌5 - باب مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌6 - باب مناقب عثمان رضي الله عنه

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌7 - باب مناقب هؤلاء الثلاثة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌8 - باب مناقب علي بن أبي طالب

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌9 - باب مناقب العشرة رضي الله عنهم

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌10 - باب مناقب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي اللَّه عنهم

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌11 - باب مناقب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌12 - باب جامع المناقب

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌ تَسْمِيَةُ مَنْ سُمِّيَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فِي "الْجَامِعِ" لِلْبُخَارِيِّ:

- ‌13 - باب ذكر اليمن والشام وذكر أويس القرني

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

- ‌14 - باب ثواب هذه الأمة

- ‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّانِي:

- ‌ الْفَصْلُ الثَّالِثُ:

الفصل: ‌ الفصل الأول:

*‌

‌ الْفَصْلُ الأَوَّلُ:

5837 -

[1] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3903، م: 2351].

ــ

الفصل الأول

5837 -

[1](ابن عباس) قوله: (لأربعين سنة) اللام بمعنى الوقت، أي: بعد تمامه، و (مكث) بضم الكاف وفتحها من باب كرم ونصر.

وقوله: (فهاجر) أي: أقام في دار الهجرة.

وقوله: (ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة). اعلم أنه قد جاء في سنه صلى الله عليه وسلم ثلاث روايات: إحداها: أنه ثلاث وستون سنة، وهي أصحها وأشهرها. ثانيها: خمس وستون سنة. وثالثها: ستون سنة، وهذا الاختلاف فرع الاختلاف في أن إقامته بمكة قبل الهجرة ثلاث عشرة، أو خمس عشرة، أو عشرة، وأما الإقامة بالمدينة فعشر بلا خلاف، وقد يتأول بأن رواية ستين اقتصر فيها على العقود وترك الكسر، ورواية ثلاث وستين لم يعد فيها سنتا المولد والوفاة، ويختلج فيه أن هذا التأويل يقتضي أن يكون الصحيح في عمره صلى الله عليه وسلم خمسًا وستين؛ لأن سنة المولد والوفاة داخلة في العمر بلا شبهة، ويكون التأويل في رواية ثلاث وستين كترك الكسر في رواية ستين، مع أنهم اتفقوا على أن الأصح رواية ثلاث وستين.

وأما ابتناء الخلاف على الاختلاف في مدة الإقامة بمكة فلا ينافي أصحية رواية ثلاث وستين في عمره لأصحية رواية الإقامة ثلاث عشرة سنة، فافهم،

ص: 322

5838 -

[2] وَعَنْهُ قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، يَسْمَعُ الصَّوْتَ وَيَرَى الضَّوْءَ سَبْعَ سِنِينَ، وَلَا يَرَى شَيْئًا، وَثَمَانِ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتِّينَ سَنَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3902، م: 2353].

ــ

فالصواب (1) أن تؤول رواية خمس وستين بأن يقال: إنه أخذ سنتي الوفاة تامتين (2) وجعل بعض أشهر المولد سنة تامة، فافهم.

5838 -

[2](وعنه) قوله: (يسمع الصوت) كان يسمعه من يمينه وشماله ومن فوقه فيقول: يا محمد! ولا يرى أحدًا، (ويرى الضوء) أي: المحسوس، وقيل: المراد به وجود الانشراح والانكشاف، والظاهر هو الأول حتى زِيد في بعض الروايات: في الليالي المظلمة.

وقوله: (ولا يرى شيئًا) الظاهر أنه يتعلق بسماع الصوت ورؤية الضوء معًا، أي: لا يرى شيئًا يصوت ويضيء.

وقوله: (وثمان سنين يوحى إليه) هذا الحديث يدل على أن سماع الصوت ورؤية الضوء كان بعد النبوة في مدة إقامته بمكة، والذي ذكر في كتب السير، ويظهر من الأحاديث أنه كان قبل النبوة، حتى قالوا: إن الحكم في ذلك أن يحصل الاستئناس والائتلاف بعالم الملكوت وأنواره، ولا يكون ظهوره بغتةً سببًا لهدم بناء البشرية واضمحلال رسوم الإنسانية، ومع ذلك كان يجد من الثقل والتعب في وقت الوحي

(1) قوله: "فالصواب أن يأول -إلى- سنة تامة، فافهم" كذا في (ب)، وسقط في (ك)، و (ع)، و (ر).

(2)

كذا في الأصل، والظاهر:"سنة الوفاة تامة".

ص: 323

5839 -

[3] وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 5900، م: 2347].

5840 -

[4] وَعَنْهُ قَالَ: قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ، وَعُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2348].

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيُّ: ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ أَكْثَرُ.

5841 -

[5] وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: . . . . .

ــ

ما يجد، واللَّه أعلم.

5839 -

[3](أنس) قوله: (توفاه اللَّه على رأس ستين سنة) وهذا يستلزم أن يكون الإقامة بمكة عشر سنين، لأن البعث بعد الأربعين والإقامة بالمدينة عشرًا مما لا خلاف فيه، وقد جاء في حديث الترمذي عن أنس صريحًا: بعثه اللَّه على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، والمدينة عشر سنين (1).

5840 -

[4](وعنه) قوله: (وهو ابن ثلاث وستين) هذا الحديث من أنس دليل على أنه المراد في الحديث السابق عنه: توفاه اللَّه على رأس ستين سنة، بترك الكسر.

وقوله: (ثلاث وستين أكثر) أي: أكثر وأشهر في الرواية.

5841 -

[5](عائشة رضي الله عنها) قوله: (قالت) أي: سماعًا من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض الصحابة؛ لأنها رضي الله عنها لم تدرك هذه القضية.

(1) أخرجه الترمذي في "سننه"(3623).

ص: 324

أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إليهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلُو بِغَارِ حِراءٍ، فَيَتَحنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ. . . . .

ــ

وقوله: (الرؤيا الصادقة) وكانت مدة هذه الرؤيا ستة أشهر، وقد مضى الكلام فيها في (كتاب الرؤيا).

وقوله: (في النوم) صفة مؤكدة، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لاحتمال أنه يطلق عليه مجازًا، كذا قيل.

وقوله: (إلا جاءت) أي: الرؤيا، أي: تعبيره وتأويله (مثل فلق الصبح) أي: ضوئه، أي: يظهر تعبيره وتأويله ظاهرًا بينًا بلا شوب اشتباه، وفيه رمز إلى وقوعه صريحًا كالصبح بعد الليل، و (الفلق) محركة: الصبح، وما انفلق من عموده، والقمر.

وقوله: (ثم حبب) بلفظ المجهول، و (الخلاء) بالمد بمعنى الخلوة، ثم لا يخفى أن هذا قبل ابتداء الوحي ونزول الملك، فـ (ثم) هنا لتراخي البيان لذكر القصة من أولها، فافهم، و (حراء) بالمد وكسر الأول وهو الرواية المشهورة، وفي رواية الإسماعيلي بالفتح والقصر، وقد يؤنث ويمنع من الصرف: جبل معروف بمكة، ويسميه الناس بجبل النور. و (الغار) نقب في الجبل قريب من معنى الكهف، ولكن الكهف كالبيت المنقور في الجبل، أو هو كالغار إلا أنه واسع فإذا صغر فغار.

وقوله: (فيتحنث فيه وهو) أي: التحنث بالمثلثة (التعبد) تفسير من بعض الرواة، وأصل التحنث: الاجتناب عن الحنث، أي: الإثم، كالتأثم والتحرج، وقيل: يتحنث بمعنى يتحنف، أي: يتبع الملة الحنيفية، وهو دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاءً في كلامهم

ص: 325

اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ- قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ،

ــ

كثيرًا، كذا في (فتح الباري)(1)، وقال: وقد وقع في رواية ابن هشام في (السير)(2): يتحنف بالفاء.

وقوله: (الليالي) بالنصب ظرف لـ (يتحنث) لا بـ (التعبد)، وهو ظاهر، والمراد الليالي مع الأيام، وخصت الليالي بالذكر؛ لأنها أنسب بالخلوة.

وقوله: (ذوات العدد) صفة الليالي، واختلف في تعبده بماذا كان؟ قيل: بالفكر، وقيل: بالذكر، وهو المختار، وبهذا المعنى بيان عجيب في كتاب (سفر السعادة) وشرحه، وإبهام العدد قيل: لاختلاف فيها، قال الشيخ: لعله بالنسبة إلى المدة التي يتخللها مجيئه إلى أهله، وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر، وذلك الشهر كان رمضان، رواه ابن إسحاق (3).

و(ينزع) بكسر الزاي بمعنى يرجع، من نزع إلى أهله نزاعة ونزاعًا بالكسر ونزوعًا: اشتاق، وروى البخاري في (كتاب التفسير): يرجع.

وقوله: (ويتزود) عطف على (يتحنث).

وقوله: (لمثلها) الضمير للَّيالي.

وقوله: (حتى جاءه الحق) أي: الوحي أو رسول الحق، وفي التفسير: حتى فَجِئَه الحق بكسر الجيم أي: جاءه بغتة.

(1)"فتح الباري"(1/ 23).

(2)

"السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 235).

(3)

"سيرة ابن إسحاق"(ص: 221).

ص: 326

فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ". قَالَ: "فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي. . . . .

ــ

وقوله: (فجاءه الملك) الفاء تفسيرية لا تعقيبية.

وقوله: (ما أنا بقارئ) أي: لا أستطيع القراءة ولا أحسنها، ولعل كان لدهشة وروع دخل في قلبه من رؤية الملك، وهيبة ذلك المقام، لا لما يتبادر إلى الأذهان أنه صلى الله عليه وسلم كان أميًّا؛ لأن الأمية لا تنافي القراءة بتعليم الغير وتلقينه خصوصًا من الفصيح في غاية الفصاحة، وإنما ينافي الكتابة والقراءة من الكتاب، قال في (القاموس) (1): الأمي: من لا يكتب ولم يتعلم الكتاب، وجاء في بعض الروايات: فأعطى جبرئيل بيده صحيفة من حرير مرصعًا بالجواهر، وقال: اقرأ فقال: (واللَّه ما أنا بقارئ، ولا أرى في هذه الصحيفة شيئًا)، وهذا أنسب وأظهر، واللَّه أعلم.

وقوله: (فغطني) بالغين المعجمة وتشديد الطاء المهملة، أي: ضغطني وضمني وعصرني، وفي رواية الطبري (2):(فغتّني) بالتاء المثناة وهما بمعنى، ومنه غطه في الماء بالطاء والتاء، أي: غوصه فيه.

وقوله: (حتى بلغ مني الجهد) روي بالنصب، أي: بلغ الغط أو جبرئيل مني غاية وُسعي، وبالرفع، أي: بلغ الجهد مني مبلغه. وقد يستبعد الوجه الأول بأن البنية البشرية لا يحتمل استيفاء القوة الملكية لا سيما في بدء الأمر، والجواب أن هذا مبالغة في الغط والضغط لا حقيقة، وأن جبرئيل لم يكن على صورته الحقيقية وقوته

(1)"القاموس المحيط"(ص: 994).

(2)

"تاريخ الطبري"(2/ 298).

ص: 327

الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجُهْدُ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5]". فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، فَقَالَ: "زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي" فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي"

ــ

الملكية، والجهد بالفتح والضم: الطاقة والمشقة والغاية، لغتان، وقد يفرق.

وقوله: (الثانية) بالنصب، أي: في المرة الثانية.

وقوله: (فقال: اقرأ باسم ربك) أي: لا تقرأ بحولك وقوتك لكن بإعانة ربك وتوفيقه.

وقوله: (فرجع بها) أي: بهذه الكلمات أو بالقصة. و (يرجف) أي: يتحرك ويضطرب، لازم ومتعد، من باب نصر. و (الفؤاد) بضم الفاء والهمزة: القلب، قال في (القاموس) (1): التفؤد: التحرق، والتوقد، ومنه: الفؤاد: للقلب.

وقوله: (زملوني زملوني) مكررًا، في (القاموس) (2): التزميل: الإخفاء، واللفّ في الثوب، وتزمل: تلفف، وذلك لشدة ما لحقه من الهول، وجرت العادة بسكون الرعدة بالتلفف والتدفؤ.

وقوله: (لقد خشيت على نفسي) مقول (قال)، واختلف العلماء في المراد من الخشية على أقوال؛ قيل: خشي الجنون، وأن يكون ما رآه من الكهانة، وجاء مصرحًا

(1)"القاموس المحيط"(ص: 290).

(2)

"القاموس المحيط"(ص: 929).

ص: 328

فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا، وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ،

ــ

في طرق متعددة، وأبطله القاضي أبو بكر بن العربي، وحق له أن يبطل، وحمله الإسماعيلي على أن ذلك قبل حصول العلم الضروري له صلى الله عليه وسلم في أوائل التباشير في النوم واليقظة وسماع الصوت قبل لقاء الملك.

ولا يخفى أن ظاهر الحديث يدل على أنه بعد مجيء الملك وإتيانه بـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وبعد حصول ذلك العلم في الحالة المذكورة، وأنى يتصور عدم حصوله بعد مثل هذه الخلوة والتحنث، وظهور الأنوار، ونزول الملك بالقران على الطريقة المذكورة، فتبطل هذه الخشية قطعًا، واللَّه أعلم. وقيل: خشي الموت من شدة الرعب، وقيل: المرض، وقيل: العجز عن حمل أعباء النبوة، وقيل: عدم الصبر على أذى قومه، وقيل: أن يقتلوه، وقيل: مفارقة الوطن كما يظهر من قوله لورقة: (أو مخرجي هم؟ )، واللَّه أعلم.

وقوله: (لا يخزيك اللَّه) بضم الياء وسكون الخاء المعجمة وبالزاي من الخزي في أكثر الروايات، وبالحاء المهملة والنون، فإما بفتح الياء وضم الزاي من حزنه، وإما بضم الياء وكسر الزاي من أحزن، يقال: حزنه الأمر حزنًا بالضم وأحزنه: جعله حزينًا، وحزن كفرح جاء لازمًا فهو من نصر متعد، ومن فرح لازم، استدلت رضي الله عنها على ما أقسمت عليه من نفي الخزي عنه صلى الله عليه وسلم بما يلوح من جزالة رأيها وأنوار معرفتها وفراستها، وكيف لا وهي أول من آمن بالحقيقة لم يشاركها فيه أحد، ووصفته بأصول مكارم الأخلاق، وهو يدل على أن من كان هذه صفاته لا يخزيه اللَّه، ولا يسلك به إلا إلى صراط مستقيم، ولا يحزنه بإصابة المكروهات في الدنيا والدين.

وقوله: (وتصدق) وفي رواية: (وتؤدي الأمانة).

ص: 329

وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ،

ــ

وقوله: (وتحمل الكل) بفتح الكاف وتشديد اللام: الثقل من كل ما يتكلف، والعيال، كذا في (النهاية)(1)، ونقل الطيبي (2): ويدخل في حمل الكَلّ: الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك، وهو من الكلال بمعنى الإعياء، وقال في (فتح الباري) (3): هو من لا يستقل بأمره، وقيل في تفسير قوله تعالى:{وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} [النحل: 76]: أي: عيال وثقل على من يلي أمره، وقال في (القاموس) (4): الكل: اليتيم، والثقيل لا خير فيه، والعيال، والثقل.

وقوله: (وتكسب المعدوم) قال النووي (5): هو بالفتح هو الصحيح، وروي ضمها، كسبته مالًا وأكسبته مالًا بمعنى تُكْسِب غيرك المال المعدوم، أي: تعطيه [إياه] تبرعًا، وقيل: معنى الفتح (6): تحصيل المال بكونك محظوظًا في التجارة، وكان هذا مدحًا عندهم مع كونه صارفًا في وجوه البر، وقال القاضي عياض (7):(تكسب المعدوم) أكثر الرواية فيه وأشهرها وأصحها فتح التاء، ومعناه: تكسبه لنفسك، وقيل: تكسبه غيرك ويؤتيه إياه، يقال: كسبت مالًا وكسبت غيري مالًا، لازم ومتعد، وأنكر ابن القزاز وغيره (أكسبت) في التعدي، وصوبه ابن الأعرابي وأنشد: فأكسبني مالًا

(1)"النهاية"(4/ 198).

(2)

"شرح الطيبي"(11/ 50).

(3)

"فتح الباري"(1/ 24).

(4)

"القاموس المحيط"(ص: 972).

(5)

"شرح صحيح مسلم" للنووي (2/ 201).

(6)

أي بفتح التاء في "تكسب".

(7)

"مشارق الأنوار"(1/ 347).

ص: 330

وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ إِلَى وَرَقَةَ ابْنِ نوفَلٍ ابْنِ عَمِّ خَدِيجَةَ فَقَالَتْ لَهُ: يَا ابْنَ عَمِّ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي! مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ وَرَقَةُ: . . . . .

ــ

وأكسبته حمدًا، انتهى.

ونقل عن الخطابي الصواب على الضم (المعدم) بلا واو، أي: الفقير؛ لأن المعدوم لا يكسب، ووُجِّه بأن الفقير كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، فتدبر. والكسب: هو الطلب، والسعي في طلب الرزق والمعيشة.

وقوله: (وتقري الضيف) بفتح التاء وسكون القاف من القرى بالكسر والقصر بمعنى الضيافة. و (تعين على نوائب الحق) جمع نائبة بمعنى الحادثة، من النوب بمعنى نزول الأمر.

و(ورقة) بفتح الواو والراء (ابن نوفل) بن أسد بن عبد العزى، كذا في (صحيح البخاري)(1)، وزاد بعد قوله:(ابن عم خديجة) وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني -وفي رواية: العربي- فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، انتهى.

وخديجة هي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، فقولها:(يا ابن عم) على الحقيقة لا على عادة العرب في النداء بـ: يا ابن عم أو ابن أخي، كما في قولها:(اسمع من ابن أخيك).

(1)"صحيح البخاري"(3).

ص: 331

هَذَا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا،

ــ

وقوله: (هذا هو الناموس الذي أنزل اللَّه) من الإنزال، وفي رواية:(نزل) من التنزيل، وفي أخرى:(نزل) بلفظ المجهول، و (الناموس): صاحب السر المطلع على باطن أمرك، أو صاحب سر الخير، كذا في (القاموس)(1)، وفي (فتح الباري) (2): الناموس: صاحب السر كما جزم به البخاري في أحاديث الأنبياء، وزعم ابن ظفر أن الناموس: صاحب سر الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر، والأول هو الصحيح الذي عليه الجمهور، وقد سوى بينهما رؤية بن العجَّاج أحد فصحاء العرب، انتهى.

وقوله: (على موسى) قال الشيخ (3): إنما قال: على موسى، ولم يقل: على عيسى مع كونه نصرانيًّا؛ لأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام بخلاف عيسى، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وقعت النقمة على يده لفرعون هذه الأمة وهو أبو جهل ومن معه [ببدر]، أو لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتابين، بخلاف عيسى فإن كثيرًا من اليهود ينكرون نبوته.

وقوله: (يا ليتني) قيل: هو بحذف المنادى، أي: يا محمد. وقيل: إن (يا) ههنا لمجرد التنبيه كما في يا حبذا، كذا نقله الطيبي (4).

وقوله: (فيها) أي: في أيام نبوتك ودعوتك أو في مدتها. و (جذعًا) منصوب

(1)"القاموس المحيط"(ص: 535).

(2)

"فتح الباري"(1/ 26).

(3)

"فتح الباري"(1/ 26).

(4)

"شرح الطيبي"(11/ 52).

ص: 332

يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ " قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ. . . . .

ــ

في أكثر الروايات، وعند الأصيلي: جذع بالرفع، فالنصب على أنه خبر (كان) المقدرة، قاله الخطابي، وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى:{انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} [النساء: 171]، وقال بعضهم: يا ليتني جعلت فيها جذعًا، كذا قال الشيخ (1)، وقيل: منصوب على الحالية، و (فيها) خبر ليت، والعامل معنى التمني أو معنى الاستقرار، و (الجذع) بفتحتين والذال المعجمة: الشاب الحديث، وأصله في البهائم، فيقال: لولد الشاة في السنة الثانية، وللبقر، وذوات الحافر في الثالثة، وللإبل في الخامسة.

وقوله: (إذ يخرجك قومك) قيل: (إذ) هنا للاستقبال كـ (إذا)، وقيل: هي للماضي استعملت هنا لتحقق وقوعه.

وقوله: (أو مخرجي) بتشديد الياء كمسلمي، وإدخال حرف الاستفهام على حروف العطف كثير في القرآن وغيره، ويقدرون في مثله معطوفًا عليه، أي: أفاعلون ذلك ومخرجي هم؟ والهمزة للإنكار؛ لأن الصفات التي ذكرتها خديجة تنافي الإخراج.

وقوله: (هم) مبتدأ تقدم خبره.

وقوله: (إلا عودي) وفي رواية: (إلا أوذي).

وقوله: (وإن يدركني)(إن) شرطية و (يدركني) مجزوم، و (يومك) فاعله، وزاد في رواية:(حيًّا)، ولابن إسحاق: إن أدركت ذلك اليوم، والمراد يوم الدعوة، أو يوم الإخراج والمعاداة، والأول أظهر.

(1)"فتح الباري"(1/ 26).

ص: 333

أَنْصُرُكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوَفِّيَ وَفَتَرَ الوحيُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 6982، م: 160].

ــ

وقوله: (مؤزرًا) بالهمزة، أي قويًا من الأزر، وهو القوة، في (القاموس) (1): الأزر: القوة، وفي (صحيح البخاري) (2) عن مجاهد:{اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 31]: ظهري، وقال بعضهم: أصله موزرًا من وازرت، ويقال فيه أيضًا: آزرت، أي: عاونت، انتهى. وفي (النهاية) (3): الأزْر: القوّة والشّدّة، أزَّرَه وآزَره: إذا أعانه، ونصرًا مؤزرًا: بالغًا شديدًا، هذا فنقل الشيخ (4) إنكار بعضهم كون المؤزر في اللغة من الأزر لا يخلو عن غرابة، فنقل عن بعضهم احتمال كونه من الإزار إشارة إلى تشميره في نصرته، واللَّه أعلم.

وقوله: (لم ينشب) بفتح الشين المعجمة بلفظ المعلوم، أي: لم يلبث، وأصل النشوب: التعلق بشيء من الأمور، وفي (القاموس) (5): تناشبوا: تضاموا، وتعلق بعضهم ببعض، ونشبه الأمر: كلزمه زنةً ومعنى.

وقوله: (أن توفي) وقال الطيبي (6): هو بدل اشتمال من (ورقة)، أي: لم تلبث وفاته، ويجوز أن يكون بتقدير حرف الجر، أي: لم يلبث ورقة؛ لأنه توفي.

وقوله: (وفتر الوحي) أي: عدم تتابعه، وتأخر مدة من الزمن، ويطلق الفترة

(1)"القاموس المحيط"(ص: 322).

(2)

"صحيح البخاري"(ك: 60، ب: 22).

(3)

"النهاية"(1/ 44).

(4)

"فتح الباري"(1/ 27).

(5)

"القاموس المحيط"(ص: 127).

(6)

"شرح الطيبي"(11/ 54).

ص: 334

5842 -

[6] وَزَادَ الْبُخَارِيُّ: حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنَا- حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَي يَتَرَدَّى مِنْ رُؤُوْسِ شَوَاهِقِ الْجَبَلِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ، تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! . . . . .

ــ

على ما بين الرسولين من رسل اللَّه من زمان انقطعت فيه الرسالة، كما بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، والفترة والفتور في الأصل: ينبئ عن معنى الضعف بعد القوة، والسكون بعد الحدة، في (القاموس) (1): فتر يفتُرُ ويفتِر فتورًا وفُتارًا: سكن بعد حدة، ولانَ بعد شدة، وفتر الماء: سكن حره، فهو فاتر وفاتور. وكان مدة فترة الوحي ثلاث سنين وجزم به ابن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وجاء في بعض الروايات: أنها كانت سنتين ونصف، قال الشيخ (2): وليس المراد بفترة الوحي ما بين نزول (اقرأ)، و (يا أيها المدثر) عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط.

5842 -

[6](عائشة) قوله: (حتى حزن النبي) بكسر الزاي، وقالوا: الحكمة في فتور الوحي أن يذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوق إلى العود، واللَّه أعلم.

وقوله: (غدا منه) أي: ذهب بسبب فتور الوحي (يتردى) أي: يسقط (شواهق) جمع شاهق، وهو المرتفع من الجبال والأبنية وغيرها.

وقوله: (أوفى) أي: أشرف واطلع، و (ذروة) الشيء بالضم والكسر: أعلاه.

(1)"القاموس المحيط"(ص: 409).

(2)

"فتح الباري"(1/ 27).

ص: 335

إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأشُه وَتَقِرُّ نَفْسُهُ.

5843 -

[7] وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْي، قَالَ: "فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ،

ــ

وقوله: (إنك رسول اللَّه حقًّا) ربما ينظر ظاهره إلى أن وجه الخشية هو خوف الكهانة ونحوه، ويمكن أن يقال: إنه إذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم[سليمًا] من الآفات كلها، وكان عاقبة أمره خيرًا من جميع الوجوه، فترتفع الخشية من جميع الوجوه. و (الجأش): روع القلب إذا اضطرب نفس الإنسان، يهمز ولا يهمز.

5843 -

[7](جابر) قوله: (الملك الذي جاء بحراء) يدل على تأخر نزول سورة (المدثر) عن (اقرأ)، وهو الصحيح، ويأتي الكلام فيه في الفصل الثالث.

وقوله: (على كرسي) بالضم والكسر: السرير.

وقوله: (فجئثت منه) بجيم مضمومة فهمزة مكسورة فمثلثة ساكنة على لفظ المجهول للمتكلم، أي: ذعرت وخفت، في (القاموس) (1): جئث كزُهِيَ جؤوثًا: فَزِعَ، والرعب: الفزع.

وقوله: (رعبًا) إما مفعول مطلق من غير لفظ الفعل، أو تمييز بأن تعتبر المغايرة بين المفهومين، وفي رواية:(فرعبت منه رعبًا)(2)، فافهم. و (هويت) بفتح الواو من ضرب يضرب بمعنى سقطت.

(1)"القاموس المحيط"(ص: 153).

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(4).

ص: 336

فَجِئْتُ أَهلِي (1) فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1 - 5] ثُمَّ حَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 4926، م: 161].

5844 -

[8] وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ،

ــ

وقوله: (زملوني زملوني) في رواية الأصيلي وكريمة: (زملوني) مرة واحدة، وفي رواية يونس في التفسير:(دثروني).

وقوله: (وثيابك فطهر) أي: النجاسة، وقيل: الثياب: النفس، وتطهيرها: اجتناب الرذائل. (والرجز) بالضم والكسر: القذر، وعبادة الأوثان، والعذاب، والشرك، ووقع تفسيره بالأوثان من تفسير الراوي عند البخاري (2)، وقال الشيخ (3): الرجز في اللغة: العذاب، وسمي الأوثان رجزًا؛ لأنها سببه.

وقوله: (ثم حمي الوحي) على وزن سمع، أي: اشتد حره، كناية عن كثرته وتتابعه.

5844 -

[8](عائشة) قوله: (مثل صلصلة الجرس) الصلصلة في الأصل: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض إذا حرك مرة بعد أخرى، وتداخل صوته، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت متدارك، لا يدرك أول وهلة، كذا في

(1) في نسخة: "إلى أهلى".

(2)

"صحيح البخاري"(4925).

(3)

"فتح الباري"(1/ 28).

ص: 337

وَهوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ،

ــ

(فتح الباري)(1)، وقال في (النهاية) (2): صوت الحديد إذا حُرّك، وهي أشد من الصليل، والجرس: الجلجل الذي تعلق في رؤوس الدوابّ، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحس، كذا في (فتح الباري)(3).

وقال الكرماني (4): الجرس: ناقوس صغير، أو سَطْل في داخله قطعة نحاس يعلق منكوسًا على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة، فأصابت السطل، فحصلت الصلصلة، وقال الشيخ (5): وهو تطويل للتعريف بما لا طائل تحته، وتشبيه الوحي بها لتقريبه بأفهام العامة.

وقال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أولَ ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وهذا كما جاء في حديث أبي هريرة:(إذا قضى اللَّه في السماء أمرًا، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنها سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير)(6).

وقوله: (وهو أشده عليَّ) أي: هذا القسم من الوحي أشد أقسامه على فهم المقصود؛ لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، ويقال في تعدد الوحي بهذين النوعين: إنه لا بد من المناسبة بين القائل والسامع،

(1)"فتح الباري"(1/ 20).

(2)

"النهاية"(1/ 261).

(3)

"فتح الباري"(1/ 20).

(4)

"شرح الكرماني"(1/ 27).

(5)

"فتح الباري"(1/ 20).

(6)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(4800).

ص: 338

فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي، فَأَعِي مَا يَقُولُ". قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ،

ــ

وهي هنا إما باتصافه صلى الله عليه وسلم بصفة الملَكية وغلبة الروحانية، وهو النوع الأول، وإما باتصاف جبرئيل بوصف البشرية، وهو النوع الثاني، والأول أشد على النبي صلى الله عليه وسلم لغاية تصرف جبرئيل فيه بخلعه عن صفة البشرية وإلباسه لباس الملكية، هذا إذا كان الصلصلة محمولًا على أنه وحي وكلام الملك كما هو الظاهر من الحديث، وأما إذا حمل على أنه صوت حفيف أجنحة الملك فالحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي، فلا يبقى فيه مكان لغيره، فمعنى كونه أشد لتجمع قلبه، فيكون أوعى لما سمع، كذا في (فتح الباري)(1)، ولعله أراد كونه أشد تعلقًا بقلبه حفظًا له، واللَّه أعلم.

وقوله: (فيفصم عني) بفتح الياء وسكون الفاء وكسر المهملة، أي: يقلع ويتجلى ما يغشاني، وروي بضم أوله من المزيد بمعنى صار ذا فصم، وفي رواية لأبي ذر بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، والفصم: القطع، فصمه يفصمه: كسره فانفصم، ولكن الفصم بالفاء: القطع من غير إبانة، وبالقاف: القطع بإبانة، فذكر الفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود لبقاء الجامع بينهما.

وقوله: (وقد وعيت) أي: حفظت (عنه ما قال) جملة حالية.

وقوله: (يتمثل لي الملك) أي: يتشكل بشكل البشر.

وقوله: (فيكلمني) وفي رواية: (فيعلمني)، وقيل: هذا تصحيف، والصحيح

(1)"فتح الباري"(1/ 20).

ص: 339

فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 2، م: 2333].

5845 -

[9] وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ وَجْهُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: نكَّسَ رأسَهُ، وَنكَّسَ أَصْحَابُهُ رُؤُوسَهُمْ، فَلَمَّا أُتْلِيَ عَنْهُ رَفَعَ رَأْسَهُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 2334].

ــ

(يكلمني) بالكاف.

وقوله: (وإن جبينه ليتفصد عرقًا) أي: يسيل، وهو مأخوذ من الفصد بمعنى قطع العرق لإسالة الدم.

وقوله: (عرقًا) بفتحتين تمييز، وهو أبلغ من أن يقال: ليتفصد عرقه كما في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4].

5845 -

[9](عبادة بن الصامت) قوله: (كرب) بلفظ المجهول، والكرب بالفتح: الغم الذي يأخذ النفس، كالكربة بالضم، والظاهر أن الكرب لشدة الوحي، وقيل: للاهتمام بما يطالب به من حقوق العبودية والقيام بشكر المنعم لا سيما من عصاة الأمة.

وقوله: (تربد) في (القاموس)(1): تربد: تغير، وتربدت السماء: تغيمت، والربدة بالضم: لون بين السواد والغبرة، أي: علته غبرة وصار كلون الرماد لغلبة التغير.

وقوله: (فلما أتلي عنه) بهمزة مضمومة، فمثناة فوقية ساكنة، فلام مكسور، فمثناة تحتية مفتوحة، أي: ارتفع عنه الوحي، وأصل أتليته بمعنى أحلته، كذا في

(1)"القاموس المحيط"(ص: 269).

ص: 340

5846 -

[10] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي:"يَا بَنِي فِهْرٍ! يَا بَنِي عَدِيٍّ" لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ،

ــ

(القاموس)(1)، فالملك إذا قضى الوحي فقد أحال عليه البلاغ، كذا قال الطيبي (2)، وقال عياض (3):(فلما أتلي عنه) بضم الهمزة وتاء باثنتين فوقها ساكنة ولام مكسورة مثل أعطي، كذا قيده شيخنا القاضي أبو عبد اللَّه بن عيسى عن الجياني، وعند الفارسي مثله إلا أنه بثاء مثلثة، وعند العذري من طريق شيخنا الأسدي: أثل بكسر الثاء المثلثة مثل ضرب، وكان عند شيخنا القاضي الحافظ أبي علي: أُجلي بالجيم مثل أعطي أيضًا، وعند ابن ماهان: انجلى بالنون، وكذا رواه البخاري، وهاتان الروايتان هما وجه، أي: انكشف عنه وذهب وفرج عنه، يقال: انجلى عنه الغم، وأجليته عنه، أي: فرجته فتفرج.

وقال بعضهم: لعله أؤتلي عنه، أي: قصر عنه، وأمسك من قولهم: لم يأل يفعل كذا، أي: لم يقصر، وقال بعضهم: أُعْلي عنه، فصحف منه: انجلى وأجلي، وكذا رواه ابن أبي خيثمة، أي: نحي عنه، كما قال أبو جهل: أعلي عنّي، أي: تنحّ، انتهى، واللَّه أعلم.

5846 -

[10](ابن عباس) قوله: (يا بني فهر) بكسر الفاء وسكون الهاء.

(1)"القاموس المحيط"(ص: 1164).

(2)

"شرح الطيبي"(11/ 58).

(3)

"مشارق الأنوار"(1/ 17).

ص: 341

فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ: "أرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيَلًا تَخْرُجُ منْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ -وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ- أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا. قَالَ:"فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شديدٍ". قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ فَنَزَلَتْ:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1]. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 4971، م: 208].

5847 -

[11] وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ قَالَ قَائِلٌ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِآلِ فُلَانٍ، فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلَاهَا ثُمَّ يُمْهِلُهُ، حَتَّى إِذَا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ؟ . . . . .

ــ

وقوله: (فقال) أي: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. والصفح بفتح المهملة وسكون الفاء: الجانب.

وقوله: (أن تغير) من الإغارة، أغار على القوم غارة وإغارة: دفع عليهم الخيل. والتب والتبب والتباب: النقص والخسارة والهلاك، وقد مر هذا الحديث في باب بعد (باب تغير الناس).

5847 -

[11](عبد اللَّه بن مسعود) قوله: (إذ قال قائل) وفي رواية للبخاري: قائل منهم، وفيها أيضًا: ألا تنظرون إلى هذا المرائي، وقيل: القائل هو أبو جهل -لعنة اللَّه عليه-، وقد صرح به في رواية مسلم، والجزور من الإبل: ما يجزر، أي: يقطع، وهو بفتح الجيم، وفي (القاموس) (1): الجزور: البعير، أو خاص بالناقة

(1)"القاموس المحيط"(ص: 341).

ص: 342

فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ، فَلَمَّا سَجَدَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا، فَضَحِكُوا حَتَّى مَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ، فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا حَتَّى أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ قَالَ: . . . . .

ــ

المجزورة، وما يذبح من الشاة، واحدتها: جزورة. وفي (المشارق)(1): الجزور بفتح الجيم: ما يجزر وينحر من الإبل وغيرها، وقيل: بل يختص بالضأن والمعز.

والفرث بفتح الفاء وسكون الراء: السرجين في الكرش، والسلا بفتح السين المهملة: جلدة فيها الولد من الناس والمواشي، والجمع أسلاء، كذا في (القاموس)(2)، وقال السيوطي: يختص بالبهائم، ويسمى في الآدمي مشيمة، والضمير في (فرثها) و (دمها) للـ (جزور)، ولفظها يؤنث وإن كان ذكرًا.

وقوله: (فانبعث أشقاهم) هو عقبة بن أبي معيط، وإنما سماه أشقى القوم وإن كان فيهم أبو جهل؛ لأن المباشرة اكد من التسبب، ويلمح هذا إلى قوله:{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] لعاقر ناقة صالح.

وقوله: (فانطلق منطلق) منهم، قال الشيخ: أظنه عبد اللَّه بن مسعود راوي الحديث.

وقوله: (فأقبلت عليهم تسبهم) فيه قوة نفس فاطمة الزهراء من صغرها لشرفها لكونها خرجت لسبّهم وهم رؤوس قريش فلم يردوها عليها.

(1)"مشارق الأنوار"(1/ 147).

(2)

"القاموس المحيط"(ص: 1191).

ص: 343

"اللهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلَاثًا -وَكَانَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا-:"اللهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةْ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ ابْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ". قَالَ عَبدُ اللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 520، م 1794].

ــ

وقوله: (اللهم عليك بقريش) أي: بإهلاك كفار قريش، فإنه عام أريد به المخصوص، (أمية بن خلف) بفتح اللام، (وعقبة) بضم العين وسكون القاف، (ابن أبي معيط) بضم الميم وفتح العين، وسكون التحتانية. و (صرعى) جمع صريع كمريض ومرضى، والصرع: الطرح والإسقاط على الأرض. و (سحبوا) بلفظ المجهول، سحبه: جره على الأرض فانسحب. و (القليب) بئر لم يطو. (وأتبع) بلفظ المجهول من الإفعال، وقالوا: لم يكن عمارة بن الوليد في المذكورين، ولم يقتل ببدر، بل مات بأرض الحبشة، وعقبة بن أبي معيط إنما قتل بعد أن رجعوا عن بدر، وأمية بن خلف لم يطرح في القليب، فما ذكر يكون باعتبار الأكثر، ويظهر حقيقة الحال بالنظر في كتب السير.

هذا واستشكل الحديث بأنه كيف استمر صلى الله عليه وسلم في الصلاة مع إصابة النجاسة على ظهره؟ وأجيب أولًا: بأن الفرث طاهر عند مالك ومن وافقه، وإنما النجس الدم، وتعقب بأن الفرث لم ينفرد، بل كان مع الدم كما مرّ من قوله:(فيعمد إلى فرثها ودمها)، وثانيًا: بأن الفرث والدم كانا داخلين تحت السلا، وجلدة السلا طاهرة، فكأنه كحمل القارورة المرصصة، وتعقب بأنه ذبيحة مشرك وثني فجميع أجزائها نجسة لأنها ميت؟

ص: 344

5848 -

[12] وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، فَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ. . . . .

ــ

وأجيب بأن ذلك قبل تحريم ذبائحهم.

وقال النووي: الجواب المرضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما وضع على ظهره، فاستمر في سجوده استصحابًا لأصل الطهارة، وتعقب بأنه ينبغي أن يعيدها بعد العلم؟ فأجاب الشافعية بأن الإعادة إنما تجب في الفريضة، فإن ثبت أنها كانت فريضة فالوقت موسع فلعله أعاد، وهذا هو الجواب عند الحنفية، واستبعد ذلك بأنه لو أعاد لنقل ولم ينقل، وهذا الاستبعاد في الفريضة صحيح؛ لأنها تقام بالجماعة، وأما في النفل فلا، لأنه يمكن إعادتها في وقت لم يطلع عليها، هذا وقد استدل به على أن من حدث له في صلاته ما يمغ انعقادها ابتداء لا يبطل صلاته ولو تمادى، وقد ترجم البخاري (1):(باب إذا ألقي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته)، وكان ابن عمر إذا رأى في ثوبه دمًا وهو يصلي وضعه ومضى في صلاته، واللَّه أعلم.

5848 -

[12](عائشة) قوله: (من يوم أحد) وقد أصابه صلى الله عليه وسلم فيه ما أصاب، وفيه كسرت رباعيته، وغير ذلك كما يأتي في الحديث الآتي.

وقوله: (لقد لقيت من قومك) مفعوله محذوف إما عامًّا مثل ما لقيت: شيئًا، أو خاصًا وهو: أمرًا مخصوصًا لقيه منه، والضمير في (كان) راجع إلى هذا المقدر، و (أشد) خبر كان مضافًا إلى (ما لقيت) وهو المفضل عليه، ويجوز أن يكون (ما لقيت) اسم كان و (أشد) خبره، والمفضل عليه محذوف، أي: كان ما لقيت منهم في ذلك

(1)"صحيح البخاري"(ك: 4، ب: 69).

ص: 345

يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ (1) عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ -وَأَنَا مَهْمُومٌ- عَلَى وَجْهِي،

ــ

اليوم أشد الشدائد أو أشد من كل شديد، وعلى الوجهين يكون قوله:(يوم العقبة) ظرفًا لـ (لقيت) الأول، ويجوز أن يكون ظرفًا لـ (لقيت) الثاني، ويكون الأول مطلقًا، أي: لقيت من قومك ما لقيت، وكان ما لقيت منهم يوم العقبة أشد من الكل، فافهم.

والظاهر أن العقبة هي التي تضاف إليها الجمرة وهي بمنى، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقف عند العقبة في الموسم يعرض نفسه على قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام، فدعا ابن عبد ياليل فأبى، وما أجاب إلى ما دعاه، كذا قال الطيبي (2)، ولكن ذكر في كتب السير أن ابن عبد ياليل كان في الطائف من رؤساء أهله من ثقيف، وذهب صلى الله عليه وسلم إليه في الطائف، ودعاه وأشراف ثقيف لما زاد أهل مكة في الكفر والطغيان، ومات أبو طالب وخديجة، فحزن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويسمى ذلك العام عام الحزن، ذهب إلى أهل الطائف، فلم يجد منهم مساعدة وموافقة، ورأى منهم ومن سفهائهم من الإيذاء ما لا يطاق ذكره، والقصة مذكورة في (شرح سفر السعادة) في فصل الجهاد وآدابه قبيل الخاتمة، إلا أن يقال: دعاه عند العقبة ثم ذهب إليه، واللَّه أعلم.

و(ياليل) بتحتانية وبعدها ألف ثم لام مكسورة ثم تحتانية ساكنة ثم لام غير منصرف. و (كلال) بضم الكاف منون.

وقوله: (فانطلقت) أي: عند الانصراف عن أهل الطائف.

وقوله: (على وجهي) متعلق بـ (انطلقت)، أي: حائرًا هائمًا لا أدري أين أتوجه،

(1) في نسخة: "إذا".

(2)

"شرح الطيبي"(11/ 62).

ص: 346

فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ، قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ". قَالَ:"فَنَادَانِي مَلَكُ الْجبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِم الأَخْشَبَيْنِ"، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3231، م: 1795].

5849 -

[13] وَعَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ،

ــ

كذا فسره الطيبي (1).

وقوله: (فلم أستفق) استفعال من الإفاقة، أي: لم أرجع إلى حالي (إلا بقرن الثعالب) بفتح القاف وسكون الراء: اسم موضع هناك، ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل أيضًا، وهو موضع قريب الطائف، وهذا أيضًا يؤيد ما في كتب السير. و (ما) في (ما ردوك) موصولة أو مصدرية عطف على (قول قومك). والأخشبان بالخاء والشين المعجمتين والباء الموحدة: جبلان بينهما مكة: أبو قبيس والأحمر، والأخشب: الجبل الخشن العظيم.

5849 -

[13](أنس) قوله: (كسرت) بلفظ المجهول. (رباعيته) بفتح الراء

(1)"شرح الطيبي"(11/ 62).

ص: 347

فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 1791].

ــ

وكسر العين، وفتح التحتانية مخففة على وزن ثمانية: أربعة أسنان بين الثنية والناب، من كل جانب ثنتان، رماه عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص، فكسرت اليمنى السفلى، وجرحت شفته السفلى، ولم تكسر رباعيته من أصلها، بل ذهبت منها فلقة، قالوا: لم يولد من نسله ولد فيبلغ الحنث إلا وهو أنحر وأهتم مكسور الثنايا من أصلها يعرف ذلك في عقبه، وعبد اللَّه بن هشام شج في جبهته، وعبد اللَّه بن قميئة جرح وجنته فقال: خذها وأنا ابن قميئة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهته:(أقمأك اللَّه)، فسلط اللَّه عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة [قطعة]، فأخذ عليّ بيده واحتضنه ورفعه طلحة بن عبيد اللَّه حتى استوى قائمًا، وهنا قال صلى الله عليه وسلم:(أوجب طلحة)، ونشبت حلقتان من المغفر في وجهه، ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح، وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما في وجهه، وامتص مالك بن سنان والدُ أبي سعيد الخدري الدم من وجنته، فقال صلى الله عليه وسلم:(من مس دمي لم تمسه النار)، وفي رواية: فشقّوا البيضة عن رأسه، أي: كسروا الخودة ورموه بالحجارة حتى سقط في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر.

وقوله: (يسلت الدم) أي: يميط، من نَصَرَ، سلتت المرأة الخضاب عن يدها: إذا مسحته وألقته.

وقوله: (شجوا رأس نبيهم) وفي رواية أحمد (1) والترمذي والنسائي: (خضبوا

(1)"مسند أحمد"(3/ 178)، و"سنن الترمذي"(3002)، و"السنن الكبرى" للنسائي (10/ 51، رقم: 11011).

ص: 348