الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الْفَصْلُ الأَوَّلُ:
5862 -
[1] عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: "بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ -وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ- مُضْطَجِعًا. . . . . .
ــ
واحتجوا أيضًا بأنه لو كان منامًا لما كانت فيه فتنة للضعفاء، ولما استبعده الأغنياء، ولو كان للروح فقط لما كان على البراق المتصف بصفة الدواب، وقالوا: المعراج بالجسم إلى تلك الحضرة العلية لم يكن لأحد من الأنبياء فإنه مقام عَلِيٌّ مخصوص به صلى الله عليه وسلم وتشريف وتكريم خاص من الحق سبحانه إياه، فافهم وباللَّه التوفيق.
الفصل الأول
5862 -
[1](قتادة) قوله: (عن ليلة أسري به) ليلة بالفتح مضافة إلى (أسري به)، وقد يجعل في بعض النسخ مجرورة منونة، و (أسري به) صفتها، والأول أظهر وأعرق في العربية مع أن الثاني يستلزم حذف ضمير للموصوف، أي ليلة أسري به فيها، كذا قيل، ويشهد للثاني قوله تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ} [البقرة: 48]. و (الحطيم) حجر الكعبة أو ما بين الركن وزمزم والمقام، وقد مرّ تفسيره في (كتاب الحج).
وقوله: (وربما قال: في الحجر) يؤيد قول الحنفية بأن الحطيم هو الحجر، لأن القصة واحدة، ثم اختلفت الروايات في تعيين مكان الإسراء، ففي بعضها:(أسري بي وأنا في الحطيم)، وفي بعضها:(في الحجر)، وفي بعضها:(بينا أنا عند البيت)، وفي بعضها:(فرج سقف بيتي وأنا بمكة)، وفي بعضها: أسري به من شعب أبي طالب، وفي بعضها: في بيت أم هانئ وهو أشهر، والجمع بين هذه الأقوال على ما ذكر في
إِذْ أَتَانِي آتٍ فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ" يَعْنِي مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، "فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ،
ــ
(فتح الباري)(1) أنه بات في بيت أم هانئ، وبيتها في شعب أبي طالب ففرج سقف بيته، وأضاف البيت إلى نفسه الشريفة لبيتوتته فيه، فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد، ثم أخذه الملك فأخرجه من المسجد.
وقوله: (إذ أتاني آت) يعني جبرئيل. و (الثغرة) بضم المثلثة وسكون الغين المعجمة: نقرة النحر التي بين الترقوتين، و (الشعرة) بالكسر: العانة، وقيل: منبت شعرها، وفي (القاموس) (2): هي العانة كالشعراء، وتحت السرة منبته.
وقوله: (فاستخرج قلبي) أي: أخرج، والإخراج والاستخراج بمعنى.
وقوله: (بطست من ذهب) فإن قيل: استعمال الذهب حرام في شرعه عليه الصلاة والسلام فكيف استعمل هنا؟ فالجواب أن تحريم الذهب إنما هو لأجل الاستمتاع به في هذه الدار، وأما في الآخرة فهو من أواني الجنة، وما وقع في تلك الليلة كان الغالب فيه ما كان من أحوال الغيب وعالم الآخرة، على أن الاستعمال والاستمتاع لم يحصل له صلى الله عليه وسلم، فافهم.
وقوله: (مملوء إيمانًا) قيل: هو من باب التمثيل، أو مثل له المعاني كما مثل له أرواح الأنبياء وكما تمثل الأعمال يوم القيامة للوزن.
(ثم حشي) أي: ملئ القلب إيمانًا، من حشا الشيء: ملأه، وأحشا: امتلأ،
(1)"فتح الباري"(7/ 204).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 388).
ثُمَّ أُعِيدَ" -وَفِي رِوَايَةٍ: "ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ إِيمَانًا وَحِكْمَةً- ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ: الْبُرَاقُ،
ــ
وقيل: ملئ بالقلب ظرفه، وهو الجلد الرقيق الذي يكون القلب فيه، وهذا المعنى لا يخلو عن بعد وتكلف، والأظهر الأنسب هو الأول.
وقيل: الحكمة في تفريج سقف البيت ونزول الملك منه وعدم دخوله من الباب أن الملك انصب من السماء انصبابة واحدة، ولم يعرج على شيء سواه مبالغة في المفاجأة، وتنبيها على أن الطلب وقع على غير ميعاد كما كان لموسى صلى الله عليه وسلم، وقيل: يحتمل أن يكون توطئة وتمهيدًا لتفريج صدره، فأراه الملك بإفراجه عن السقف ثم التئامه على الفور كيفية ما يصنع به لطفًا به وتثبيتًا لبصره، واللَّه أعلم.
وقوله: (ثم أتيت بدابة) وهذا على ما جرت به عادة الملوك أنهم إذا استدعوا من يخص بهم بعثوا إليه بمركوب شيء يحمله عليه في وفادته عليه، وقيل: الحكمة في كون البراق دابة دون البغل وفوق الحمار، ولم يكن على شكل الفرس إشارة إلى أن الركوب كان في سلم وأمن دون حرب وخوف.
وقوله: (يقال له: البراق) سمي به لسرعة سيره كالبرق، وقيل: هو من البريق بمعنى اللعمان، وقيل: لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود، ويحتمل أن لا يكون مشتقًا، كذا في (المواهب)(1).
وجاء في رواية: أنه قال جبرئيل: يا محمد اركبه، فإنه البراق الذي ركبه إبراهيم، وفي بعض الروايات: الأنبياء، وركبه سائر الأنبياء، وفي صحة هذه الروايات كلام، نعم يفهم من ظاهر قول جبرئيل للبراق كما جاء في حديث أنس: (فما ركبك أحد
(1)"المواهب اللدنية"(3/ 37).
يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ،
ــ
أكرم على اللَّه منه) (1) أنه قد ركبه قبل ذلك بعض الأنبياء، وسمعت من مولانا الشيخ العارف باللَّه سيدي الشيخ عبد الوهاب المتقي أن لكل نبي براقًا على حسب رتبته كما أن لكل منهم حوضًا يوم القيامة كذلك، وفي كلام أهل التأويل أن البراق مثال لنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، والنفس مركب الروح وسبب لوصوله إلى المقام الأعلى، ولذلك كان يجمح كما هو خاصية النفس فاطمأنت، ومن هذا الكلام يظهر أن يكون هذا البراق مخصوصًا به صلى الله عليه وسلم، واللَّه أعلم.
فإن قلت: هل يقال للبراق فرس؟ قلت: سمعت الشيخ رحمة اللَّه عليه أنه [قال]: إنما يقال له: براق، لا فرس ولا غيره.
وقوله: (يضع خطوه عند أقصى طرفه) بفتح وسكون، أي: يضع رجله عند منتهى بصره، واستدل بعضهم بهذا أنه يكون قطعه الأرض إلى السماء في خطوة واحدة؛ لأن بصر الذي في الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السماوات في سبع خطوات، وجاء في بعض الروايات:(فركبتها، إن تركتها سارت وإن حركتها طارت).
وقوله: (فحملت) بلفظ المجهول إشارة إلى أن الركوب بمحض إعانة اللَّه وقدرته، ويمكن أن يقال: إن الحامل والواسط كان هو جبرئيل بقوة ملكوته ولا بعد في ذلك، فإن جبرئيل كانت واسطة في وصول الفيض والوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهذا نوع من الخدمة يفعلها خدام الملوك، فإن جبرئيل عليه السلام كان في هذه الليلة خادم دولته وحامل غاشيته، وجاء في رواية:(كان الذي أمسك بركابه جبرئيل، وبزمام البراق ميكائيل)(2)،
(1) أخرجه الترمذي في "سننه"(3131).
(2)
انظر: "شرف المصطفى" لأبي سعد عبد الملك النيسابوري (ت: 406 هـ)(2/ 194).
فَانْطَلَقَ بِي جِبْرَئِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قيل: مرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ،
ــ
والسفارة في إيصال الوحي أيضًا من هذا الباب، واللَّه أعلم.
وقوله: (فانطلق بي جبرئيل حتى أتى السماء الدنيا) طوي في هذا الحديث قصة الإسراء إلى بيت المقدس، وقد تمسك بهذا الحديث من زعم أن المعراج كان في غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، واللَّه أعلم.
ثم هذا يدل على أنه قد استمر ركوبه على البراق حتى عرج به إلى السماء، وزعم بعضهم أنه لم يكن على البراق حين صعد إلى السماء، بل وضع له صلى الله عليه وسلم سلم رقي به السماء، وفي رواية:(حمله جبرئيل على جناحه إلى السماء)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وقد أرسل إليه؟ ) بحذف حرف الاستفهام، أي: هل طلبوه وبعثت إليه للإصعاد؟ وقيل: معناه هل أوحي إليه، وبعث نبيًا؟ والأول أظهر؛ لأن أمر نبوته كان مشهورًا في الملكوت، وقيل: سؤالهم كان للاستعجاب والاستبشار بعروجه وقدومه ليتشرفوا به، إذ من البين عندهم أن أحدًا لا يترقى إلى السماوات بغير إذن اللَّه، وهذا القول أظهر وأحسن وأعجب.
وقوله: (فنعم المجيء جاء) قيل: فيه تقديم وتأخير وحذف المخصوص، تقديره: جاء فنعم المجيء مجيئه، أو الموصول محذوف، أي: نعم المجيء الذي جاءه.
وقوله: (ففتح) دل على أن للسماء بابًا، وقد نطق بذلك القرآن العظيم أيضًا، ويقال: إن أبوابها محاذية لبيت المقدس، ولهذا كان المعراج من هناك، وإذا كان لها
فَلَمَّا خَلَصْتُ، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّماءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ. قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَهَذَا عِيسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ. ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ . . . . .
ــ
أبواب فلا يلزم الخرق والالتئام على أن حديث الخرق والالتئام وبطلانهما هذيان من القول باطل، لأن اللَّه سبحانه قادر على كل شيء، والفلك مثل سائر الأجسام يجوز عليه ما يجوز عليها، والدلائل التي أقاموا عليها معلومة مدخولة لا يحصل بها الظن بما ادعوا خصوصًا اليقين.
وقوله: (فلما خلصت) أي: وصلت ودخلت في السماء.
وقوله: (فسلم عليه) إنما بادر جبرئيل بأمره صلى الله عليه وسلم بالتسليم على الأنبياء تعليمًا
قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِدْرِيسُ، فَقَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخَ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثم صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نعُمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ، ثم قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ . . . . .
ــ
للتواضع والشفقة عليهم لبلوغه في الرفعة مقاما لم يبلغه أحد فكان محل التواضع، وقيل: إنما أمر بالتسليم عليهم؛ لأنه كان عابرًا عليهم، فكان في حكم القائم وكانوا في حكم القاعد، والقائم يسلم على القاعد وإن كان أفضل منه.
وقوله: (هذا إدريس) وقيل في قوله: (مرحبًا بالأخ الصالح) أن إدريس من آبائه صلى الله عليه وسلم، وأجيب بأن الأنبياء كلهم إخوان كالمؤمنين، وعلى هذا لو قال آدم وإبراهيم أيضًا: الأخ الصالح، ولكن لما كان أبوتهما ظاهرًا مشهورًا قالا: الابن، ثم استشكل رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم؟ وأجيب بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم أو أحضرت أجسادهم لملاقاته صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفًا وتكريمًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
له، وما جاء في بعض الروايات: أنه بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء فأمّهم، يؤيد هذا الوجه، كذا قيل، ولكن لا حاجة إلى القول بالبعث؛ لأن الأنبياء أحياء إلا أن يكون المراد بالبعث الإحضار، هذا وأما اختصاص هؤلاء الأنبياء بملاقاته صلى الله عليه وسلم دون غيرهم من الأنبياء، واختصاص كل واحد منهم بسماء مخصوص فمما لا يدرك بالحقيقة وجهه.
وقد يذكر لكلا الأمرين مناسبات ظاهرة يستأنس بها، أما حقيقة الأمر فلا، فيقال للأول: إن ذلك إشارة إلى ما سيقع له صلى الله عليه وسلم مع قومه من نظير ما وقع لكل منهم، كخروجه صلى الله عليه وسلم من مكة وما ألفه من الوطن مثل خروج آدم من الجنة، وما أصابه من اليهود في أول الهجرة مثل ما أصاب عيسى ويحيى منهم، ووجود الأذى من أقربائه مثل ما وقع ليوسف من إخوته، وكانت العاقبة له ورفع مكانه وعلو شأنه لقوله تعالى:{وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] كما قال في إدريس: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم: 57]، ورجوع قومه إلى محبته بعد أن آذوه كما وقع بهارون، وقال صلى الله عليه وسلم:(لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر)(1). ولعله قاله في بعض الأمور وإلا فقد ورد: (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت في سبيل اللَّه)(2)، وأما مناسبته بإبراهيم فظاهر، وقد رأى إبراهيم متكئًا بالبيت المعمور، وذلك مثل استناده بالبيت الحرام في فتح مكة.
وأما اختصاص كل منهم بسماء رأى فيها فلأن آدم أول الأنبياء وأول الآباء، فكان أولى بالأولى، وخص عيسى بالثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدًا لمحمد صلى الله عليه وسلم ويحيى
(1) أخرجه البخاري في "صحيحه"(3150)، ومسلم في "صحيحه"(1062).
(2)
أخرجه الترمذي في "سننه"(2472)، وابن ماجه في "سننه"(151).
قَالَ: أَبْكِي لأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرَئِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ،
ــ
ابن خالته معه، ويليه يوسف؛ لأن أمة محمد تدخل الجنة على صورته، وإدريس بالرابعة لقوله تعالى:{وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} ، والرابعة من السبع وسط معتدل، وهارون في الخامسة لقربه من أخيه، وموسى أرفع منه لفضل كلام اللَّه تعالى به، وإبراهيم فوقه لأنه أفضل الأنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، كذا ذكروا واللَّه أعلم.
ثم هذا الترتيب الذي وقع في هذا الحديث هو أصح الروايات وأرجحها، وقد وقع في بعض الروايات أنه رأى إبراهيم عليه السلام في السماء السادسة، ورأى موسى في السابعة، وفي رواية: رأى إدريس في الثالثة وهارون في الرابعة، وفي أخرى إدريس في الخامسة ويوسف في الثانية، ويحيى وعيسى في الثالثة، وعلى تقدير صحة الروايات يتعذر الجمع إلا أن يقال بتعدد المعراج، أو يرجح بعض الروايات على بعض، والأرجح هو رواية الجماعة، كذا قال الشيخ (1).
وقوله: (أبكي لأن غلامًا بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي) قالوا: لم يكن بكاء موسى عليه السلام حسدًا على فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته؛ لأن الحسد مذموم من آحاد المؤمنين، وأيضًا منزوع منهم في ذلك العالم، فكيف عمن اصطفاه اللَّه سبحانه، وهو كليم، بل كان أسفًا على ما فاته من الأجر الذي يترتب عليه رفع الدرجات بسبب ما وقع من أمته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم
(1)"فتح الباري"(7/ 210).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لنقصان أجره عليه السلام، لأن لكل نبي مثل أجر من اتبعه.
وقيل: ذلك محمول على الرقة لقومه والشفقة عليهم حيث لم ينتفعوا بمتابعته انتفاع هذه الأمة بمتابعة نبيهم، ولم يبلغ سوادهم مبلغ سوادهم، فإن اللَّه تعالى قد جعل في قلوب أنبيائه عليهم السلام الرأفة والرحمة لأمتهم، وقد أخذوا من رحمة اللَّه تعالى أوفر نصيب، وكانت الرحمة في قلوبهم لعباد اللَّه تعالى أكثر من غيرهم، وقد بكى نبينا نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم. فقيل: أنت تبكي يا رسول اللَّه! قال: (هذه رحمة، وإنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء)، فلأجل ذلك بكى موسى عليه السلام رحمة لأمته؛ لأن هذا وقت أفضال وجود وكرم، لعل اللَّه يرحم أمته ببركة هذه الساعة، وقد قيل: إن غرض موسى إدخال السرور على نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه أكثر أتباعًا، وأن أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتي، وأمة موسى كانت كثيرًا، وأما قوله:(لأن غلامًا بعث بعدي) فليس على سبيل التنقيص ولم يرد به استصغار شأنه، بل على سبيل التنويه والتعظيم لقدرة اللَّه سبحانه وعظم كرمه بإعطاء ما كان في ذلك السن ما لم يعط أحدًا قبله ممن كان أسن منه، والمراد استقصار مدته مع استكثار فضائله واستتمام سواد أمته، وقد يطلق الغلام ويراد به القوي الطري الشاب، ولهذا كان أهل المدينة يسمونه حين هاجر إليهم شابًا وأبا بكر مع أنه أصغر سنًا منه شيخًا.
وقال الشيخ (1): ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار بهذا اللفظ إلى استمرار قوة نبينا صلى الله عليه وسلم في الكهولة إلى أن دخل في أول الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم ولا اعترى قوته نقص كأنه شاب إلى الآن.
(1)"فتح الباري"(7/ 212).
فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ، فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلَامَ ثم قَالَ: مَرْحَبًا بِالابْنِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى،
ــ
وقوله: (مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح) اعلم أن الأنبياء كلهم وصفوه صلى الله عليه وسلم بالصلاح، ويعلم منه أن الصلاح مرتبة رفيعة عظيمة، وقد وصف اللَّه تعالى في كتابه المجيد أنبياء صلوات اللَّه عليهم بذلك، فقال:{كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 85]، {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} [الأنبياء: 72]، والصلاح ضد الفساد، ويتضمن الاتصاف بجميع ما يصلح القلب ويجعله صالحًا لما يقصد به من الكمالات والصفات الجميلة.
وقوله: (ثم رفعت إلى) الأكثر بضم الراء وسكون العين وضم التاء بضمير المتكلم وبعده (إلى) للانتهاء. وللكشميهني: (رفعت لي) بفتح العين وسكون التاء وبعده لام الجر داخلة على ياء المتكلم، أي: رفعت السدرة لي، أي: من أجلي، والرفع تقريب الشيء، وقد فسر قوله تعالى:{سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية: 13] بموضوعة بعضها على بعض وبمقربة لهم، فمعناه على الأول رقيت وقربت إليه، وعلى الثاني أظهرت السدرة ورئيت لي، والسدر: شجرة النبق، والواحدة بهاء، وإنما سميت سدرة المنتهى؛ لأن علم الملائكة ومقامهم ينتهي إليها، ولم يجاوزها أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم، ولأنه ينتهي إليها ما يعرج من الأرض من الأعمال فيقبض منها، ومن هناك ينزل الأمر وتتلقى الأحكام، وعندها تقف الحفظة وغيرهم، ولا يتعدونها فكانت منتهى.
وقال بعض العلماء: اختيرت السدرة دون غيرها من الأشجار؛ لأن فيها ثلاثة أصناف: ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة زكية، فكانت بمنزلة الإيمان الذي يجمع القول والعمل والنية، فالظل بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النية، والرائحة بمنزلة القول،
فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرٍ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: هَذَا سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، قُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرَئِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ،
ــ
والنبق حمل السدر بفتح النون وكسرها وسكون الموحدة وككتف، واحدته بهاء.
وقوله: (قلال) بالكسر جمع قلة بالضم، وهي الجرة، و (هجر) بفتحتين اسم موضع يصنع فيه القلال كثيرًا، وسبق في (كتاب الطهارة). و (الفيلة) بكسر الفاء وفتح التحتانية جمع الفيل، وهذا تمثيل على قدر فهم الناس، وليس على حقيقته، فقد ورد في بعض الروايات:(فإذا كل ورقة منها تغطي هذه الأمة)(1)، ويدل هذا الحديث أن السدرة في السماء السابعة، وهو الصحيح المشهور الأكثر رواية، ووقع في بعض الروايات أنها في السماء السادسة، وقالوا في وجه الجمع: بأن أصولها في السادسة وفروعها في السابعة، واللَّه أعلم.
وقوله: (نهران باطنان) أي: يجريان في الجنة ولا يخرجان منها، نقل الطيبي (2) أنهما السلسبيل والكوثر، وفي (شرح ابن الملك) (3): يقال لأحدهما: الكوثر، وللآخر: نهر الرحمة، وإنما قال: باطنان لخفاء أمرهما فلا تهتدي العقول إلى وصفهما، أو لأنهما مخفيان عن أبصار الناظرين فلا يريان حتى يَصُبَّا في الجنة، انتهى.
وأما الظاهران فالنيل والفرات، الحديث يدل على أن النيل وهو نهر مصر، والفرات
(1) أخرجه البيهقي في "البعث والنشور"(ص: 143).
(2)
"شرح الطيبي"(11/ 87).
(3)
"شرح مصابيح السنة"(6/ 280).
ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ، قَالَ: هِيَ الْفِطْرَةُ، أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ،
ــ
وهو نهر الكوفة يخرجان من أصل السدرة، ثم يخرجان من الأرض ويسيران فيها فوجب المصير إليه، وقد أورد السيوطي في النيل من الأحاديث ما يدل عليه، ويتضمن عجائب وغرائب ما تتحير العقول فيه، وقيل: يحتمل أن يكون المراد بهما ما عرفا بين الناس ويكون مادتهما مما يخرج من أصل السدرة، ولم يدرك كيفته، وأن يكون من باب الاستعارة بأن شَبَّههما بنهري الجنة في العظم والعذوبة، أو من باب توافق الأسماء بأن يكون اسما نهري الجنة موافقتين لاسمي نهري الدنيا، كذا في (شرح ابن الملك).
وقوله: (ثم رفع لي البيت المعمور) وهو بيت في السماء السابعة بإزاء الكعبة بحيث لو فرض سقوطه لوقع عليها، ويأتي ذكره في الحديث الآتي.
وقوله: (هي الفطرة) نقل في (المواهب)(1): اخترت اللبن الذي عليه بنيت الخلقة وبه نبت اللحم ونشز العظم، أو اخترته لأنه الحلال الدائم في دين الإسلام، بخلاف الخمر فإنه حرام فيما يستقر عليه الأمر، وقال النووي (2): المراد بالفطرة هنا الإسلام والاستقامة، قال: ومعناه -واللَّه أعلم- اخترت علامة الإسلام والاستقامة، قال: وجعل اللبن علامة لذلك لكونه سهلًا طيبًا طاهرًا سائغا للشاربين سليم العاقبة، وأما الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع الشر في الحال والمآل، انتهى.
وبما ذكر يظهر الجواب عما يقال: إن الخمر إذ ذاك كانت مباحة؛ لأنها إنما حرمت بالمدينة، فما وجه تعيينه صلى الله عليه وسلم لأحد المباحين؟
(1)"المواهب اللدنية"(3/ 46).
(2)
"شرح النووي"(2/ 212).
ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمُرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ،
ــ
وإن قلنا: إنها كانت من خمر الجنة كان سبب تجنبها صورتها ومضاهاتها الخمر المحرمة، أي: في علم اللَّه تعالى، وذلك أبلغ في الورع والتقوى، وهذا الحديث يدل على أن الإتيان بالأواني الثلاث كان فوق السماء، ودل بعض الأحاديث على أنه كان عند إتيان المسجد الأقصى، ولعله كان مرتين في المقامين جميعًا صرح به الحافظ العماد ابن كثير (1)، وقد لا يذكر في بعض الأحاديث العسل، ويصلح وجهًا لذلك مثل ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (ثم فرضت علي الصلاة) قال بعض العارفين: الحكمة في فرض الصلاة ليلة الإسراء أنه صلى الله عليه وسلم لما عرج به رأى في تلك الليلة تعبد الملائكة، وأن منهم القائم فلا يقعد، والراكع فلا يسجد، والساجد فلا يقعد، فجمع اللَّه تعالى له ولأمته تلك العبادات كلها في الركعة، وفيه نظر فتأمل.
وقوله: (فقال: بما أمرت؟ ) قيل: لعل اختصاص موسى عليه السلام بالتكلم في هذا المقام لاختصاصه بكلام اللَّه تعالى في الدنيا من بين سائر الأنبياء والرسل، وقد بالغ عليه السلام في النصيحة والشفقة لهذه الأمة في هذه القضية، وظهر منه ما لم يظهر أحد من الأنبياء.
وقوله: (أمضيت فريضتي) استدل بحديث المعراج في فرضية خمس صلوات وإمضائها وعدم تبدلها من قال: بعدم وجوب الوتر، والجواب أن المراد الفرضية القطعية
(1) انظر: "السيرة النبوية"(2/ 95).
وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وإنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ،
ــ
عملًا واعتقادًا، ووجوب الوتر ليس كذلك، وهو ثابت بالسنة بدليل فيه شبهة، ولذا قال إمامنا الأعظم بوجوبه بهذا المعنى، دون فرضيته بذلك المعنى على أنه يجوز أن يكون المراد بإمضاء فرضية الخمس وعدم تبدلها [عدم] نسخ فرضيتها كلًّا أو بعضًا لا عدم الزيادة عليها، فيجوز أن يوحى بعد فرضية الخمس بصلاة أخرى.
وقوله: (وعالجت بني إسرائيل) أي: مارستهم ولقيت الشدة منهم، في (القاموس) (1): عالجه علاجًا ومعالجة: زاوله وداواه، انتهى.
وقوله: (فارجع إلى ربك) أي: إلى موضع ناجيت ربك فيه.
وقوله: (فرجعت) يدل على أنه لم يكن واجبًا قطعًا، ولذلك علم موسى عليه السلام
(1)"القاموس المحيط"(ص: 195).
وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسُلِّمُ. قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3887، م: 164].
5863 -
[2] وَعَنْ ثَابِتٍ البُنانيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُتِيتُ بِالبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ، فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَقَعُ حَافِرُهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، فَرَكبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَربطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ". . . . .
ــ
وعرف نبينا صلى الله عليه وسلم وإلا كيف يتصور المراجعة، ويمكن أن يكون نسخًا، كما قال من جوز النسخ قبل العمل والتمكن منه.
5863 -
[2](ثابت البناني) قوله: (وعن ثابت البناني) بضم الباء وتخفيف النون، و (الحلقة) أي: حلقة باب المسجد بسكون اللام على اللغة الفصيحة المشهورة وحكي فتحها.
وقوله: (تربط) بالفوقانية في أكثر النسخ بتأويل الجماعة، وبالتحتانية في بعضها، و (بها) بضمير المؤنث راجعًا إلى الحلقة، وفي الحواشي:(يربط به) بضمير المذكر في الأصول باعتبار المعنى، والمراد أني ربطت دابتي بالحلقة التي تربط بها الأنبياء دوابهم، فلا يلزم أن يكون هذه الدابة قد ركبها الأنبياء، نعم لا يبعد أن يكون المعنى ربطت براقي حيث كان كل من الأنبياء يربط براقه على ما نقلنا قبل أنه كان لكل نبي براق، وأما هذا البراق فمخصوص به صلى الله عليه وسلم، فافهم.
وجاء في بعض الروايات: فلما بلغ بيت المقدس فبلغ المكان الذي يقال له: باب محمد، أتى إلى الحجر الذي به فغمز جبرئيل بأصبعه فنقبه ثم ربطها، فلما استويا في سرحة المسجد قال جبرئيل: يا محمد! هل سألت ربك أن يريك الحور العين؟ قال: نعم، قال: فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن. و (بيت المقدس) فيه لغتان
قَالَ: "ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرَئِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وإنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرَئِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ،
ــ
فتح الميم مع سكون القاف وكسر الدال وضم الميم وفتح القاف مع تشديد الدال.
وقوله: (فصليت فيه ركعتين) الظاهر أنهما ركعتا تحية المسجد، ولقد فات الراوي في هذا الحديث ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم مع الأنبياء وإمامته لهم، إما اختصارًا أو ذهولًا كما فات في الحديث الأول ذكر دخوله بيت المقدس، بل هذا أظهر لأنه قد قيل: إن المعراج كان في غير ليلة الإسراء، أما في الحديث الذي فيه ذكر الإسراء فرواية الإمامة ثابتة قطعًا، ففي رواية عبد الرحمن بن هشام عن أنس: ثم بعث آدم فمن دونه فأمهم تلك الليلة، وفي حديث أم هانئ عند أبي يعلى:(ونشر لي رهط من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وعيسى)(1). وفي رواية أبي سلمة: (ثم حانت الصلاة فأممتهم)، أخرجه مسلم (2)، وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في (الأوسط) (3): أقيمت الصلاة فتدافعوا حتى قدموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن مسعود:(ثم دخلت المسجد، فعرفت النبيين ما بين راكع وساجد، ثم أذن مؤذن، فأقيمت الصلاة، فقمنا صفوفًا فأنتظر من يؤمنا، فأخذ بيدي جبرئيل فقدمني، فصليت بهم، فلما انصرفت قال لي جبرئيل: أتدري من صلى خلفك؟ قال: لا، قال: صلى خلفك كل نبي بعثه اللَّه تعالى)(4).
(1)"معجم أبي يعلى"(1/ 42).
(2)
"صحيح مسلم"(172).
(3)
"المعجم الأوسط"(4/ 166).
(4)
أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(10/ 69) بألفاظ متقاربة.
ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ". وَسَاقَ مِثْلَ مَعْنَاهُ، قَالَ: "فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فرحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ". وَقَالَ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ:"فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ، إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ". وَلَمْ يَذْكُرْ بُكَاءَ مُوسَى، وَقَالَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ: . . . . .
ــ
واختلف في أن هذه الصلاة كانت نفلًا أو فرضًا؟ وإذا قلنا: كانت فرضًا فأيّ صلاة صبح أو عشاء؟ وهذا إنما يتأتى على قول من قال: إنه صلى بهم بعد عروجه إلى السماء ونزوله منها، وقد قيل به، وقيل: صلى قبله وبعده، فقبله يكون نفلًا وبعده يكون فرضًا، كذا قيل، ولا يخفى أن الصلاة كانت فرضًا قبل قصة المعراج، وإنما فرضت بعد المعراج الخمس، فتدبر. وجاء في حديث أبي هريرة عن البزار والحاكم: أنه صلى بيت المقدس مع الملائكة وأنه أتي هناك بأرواح الأنبياء، فحمدوا اللَّه، وأثنوا عليه بما هو أهله، ثم حمد نبينا صلى الله عليه وسلم ففاق الكل، وبلغ النهاية في ذلك، فأقبل إبراهيم على الأنبياء، وقال: بهذا فضلكم محمد (1).
وقوله: (ثم عرج بنا) بلفظ المجهول، وضمير الجمع في (بنا) إما للتعظيم لصعوده مقام الرفعة والعلاء أو لنفسه وجبرئيل والبراق، واللَّه أعلم.
وقوله: (شطر الحسن) الشطر: نصف الشيء وجزؤه، وقد يجيء الشطر بمعنى الجهة والناحية، كذا في (القاموس)(2)، ويمكن الحمل على هذا المعنى أيضًا.
وبالجملة قد ثبت في شأن حسن يوسف وصباحة وجهه ما يوقع في النفس أنه كان أحسن الناس طرًّا، وقد يروى في قصة المعراج أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: (فأنا برجل
(1)"مسند البزار"(17/ 8)، و"المستدرك"(3/ 692).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 37).
"فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ،
ــ
أحسن ما خلق اللَّه، قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب)،
وهذا ينافي حديثًا أورده الترمذي في (جامعه)(1) من طريق أنس بن مالك: (ما بعث اللَّه نبيًا إلا حسن الوجه وحسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجهًا وأحسنهم صوتًا)، فحديث المعراج مخصوص بغيره صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قول من قال: إن المتكلم لا يدخل في عموم خطابه، كذا في (روضة الأحباب)، وفي (شرح الشمائل) (2) لشيخ شيوخنا أحمد بن حجر المكي: اعلم أن من تمام الإيمان به صلى الله عليه وسلم اعتقاد أنه لم يجتمع في بدن آدمي من المحاسن الظاهرة ما جمع فيه؛ لأن المحاسن الظاهرة آيات على المحاسن الباطنة، ولا أكمل منه صلى الله عليه وسلم ولا مساوي له في هذا المدلول فكذلك في الدال.
قال العبد الفقير إلى اللَّه ورسوله: وإن شئت مدحته ووصفته بما يليق ويختص به، فوصفه أنه جمع الكمالات كلها إلا ما اختص بمرتبة الألوهية، ورحم اللَّه البوصيري في قوله:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم
…
واحكم بما شئت مدحًا فيه واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف
…
وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
وهذا هو الحد في وصفه صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (مسندًا) بكسر النون حال، كذا في (الأصول)، ووقع في بعض نسخ (المصابيح):(مسند) بالرفع على حذف المبتدأ.
(1)"الشمائل" للترمذي (321).
(2)
انظر: "جمع الوسائل"(1/ 9).
وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهَى، فَإِذَا وَرَقُهَا كآذَانِ الْفِيَلَةِ، وإذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، وَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنِّي بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. . . . .
ــ
وقوله: (وإذا هو) أي: البيت المعمور.
وقوله: (ما غشي) قيل: هو فراش من ذهب كما جاء في الحديث، والمراد أنوار أجنحة الملائكة.
وقوله: (وأوحى إلي ما أوحى) تكلموا في بيان ما أوحى، والأحوط الأقرب إلى الصواب أن يترك على إبهامه وإجماله، وأنه لا يعلمه إلا اللَّه ورسوله، وقد فسره بعض العلماء بما لاح لهم من ذلك برواية أو استنباط، وقد صح من جملة ذلك ثلاثة أشياء: فريضة الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، والثالث أن ذنوب أمة محمد سوى الشرك معفو ومغفور.
وقوله: (بلوت) أي: امتحنت وجربت.
وقوله: (وخبرتهم) بالتخفيف من الخبرة بمعنى الاختبار، في (القاموس) (1): الخبر والخبرة، بكسرهما ويضمان والمخبرة: العلم بالشيء كالاختبار والتخبُّر.
(1)"القاموس المحيط"(ص: 357).
قَالَ: "فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ! خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ". قَالَ: "فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً،
ــ
وقوله: (فحط عني خمسًا) قد مرّ في الحديث السابق عن مالك بن صعصعة: (فوضع عني عشرًا)، وجاء في حديث البخاري عن أنس بن مالك:(فوضع شطرها)، ووقع ههنا من حديث ثابت:(فحط عني خمسًا).
قال الشيخ: قال ابن المنير: ذكر الشطر أعم من كونه دفعة واحدة، قلت: وكذا العشر، وكأنه وضع العشر في دفعتين، والشطر في خمس درجات، أو المراد بالشطر في حديث الباب البعض. وقد حققت رواية ثابت أن التخفيف خمسًا خمسًا وهي زيادة معتمدة، ويتعين حمل باقي الروايات عليها، وأما قول الكرماني: الشطر هو النصف، ففي المراجعة الأولى وضع خمسًا وعشرين، وفي الثانية ثلاثة عشر يعني نصف الخمسة والعشرين بجبر الكسر، وفي الثالثة سبعة، وليس في حديث الباب في المراجعة الثالثة ذكر وضع شيء إلا أن يقال: حذف ذلك اختصارًا فمتجه، لكن الجمع بين الروايات يأبى هذا الحمل، فالمعتمد ما تقدم، انتهى كلام الشيخ (1)، فتدبر.
وقوله: (من هم بحسنة. . . إلخ)، زيادة تفضل من المولى الرحيم على أمة حبيبه الكريم بعد أن جعل واحدة بعشر، وفي قوله:(كتبت) بلفظ المجهول ضميره للحسنة
(1)"فتح الباري"(1/ 462 - 463).
فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ لَهُ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً". قَالَ:"فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلى مُوسَى فَأَخْبَرتُهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ" فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 162].
5864 -
[3] وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُرِجَ عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرَئِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. قَالَ جِبْرَئِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرَئِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا فُتِحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، إِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ، عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِه أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ،
ــ
و(حسنة) منصوب، وكذا في قوله:(كتبت له عشرًا)، وكذا في البواقي.
5864 -
[3](ابن شهاب) قوله: (فرج) بلفظ المجهول مخففًا، كذا في النسخ المصححة، وفرج بالتشديد أيضًا بمعناه.
وقوله: (ففرج) بلفظ المعلوم مخففًا.
وقوله: (فعرج بي إلى السماء) أيضًا بلفظ المعلوم، وهذا يدل بظاهره على أن المعراج كان في غير ليلة الإسراء، كما ذهب إليه بعضهم، كما يفهم من حديث مالك ابن صعصعة كما مرّ.
وقوله: (أسودة) بفتح الهمزة وسكون السين وكسر الواو جمع سواد، وهو شخص
وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شَمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ، وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمين مِنْهُم أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّار، فَإِذَا نظرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شَمَالِهِ بَكَى،
ــ
الإنسان، وقال في (فتح الباري) (1): هي الأشخاص من كل شيء.
وقوله: (قلت لجبرئيل: من هذا؟ ) ظاهر هذا الحديث أن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن جبرئيل من هذا كان بعد ترحيب آدم له، وحديث مالك بن صعصعة الذي مر دل على أن الترحيب كان بعد السؤال، وهو المعتمد، وفيه ما يدل على تراخي الترحيب عن السؤال، فيحمل هذا على ذاك، إذ ليس فيه أداة ترتيب.
وقوله: (نسم بنيه) النسم بنون وسين مهملة مفتوحتين جمع نسمة، وهي الروح، قال في (المشارق) (2): قال الجوهري: النسمة: النفس، والروح، والبدن، وإنما يعنى هنا الروح، وقال الخليل: النسمة: الإنسان، وقال: ضبط بعضهم عن القابسي: (شيم) بشين معجمة جمع شيمة: وهي الطباع، وهو تصحيف، انتهى.
وقال الشيخ (3): قد جاء أن أرواح الكفار في سجين، وأرواح المؤمنين منعمة في الجنة، فكيف [تكون] مجتمعة في سماء الدنيا؟ وأجيب بأنه يحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتًا فصادف وقت عرضها مرور النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن النسم المرئية هي التي لم تدخل الأجساد بعد، وهي مخلوقة قبل الأجساد، ومستقرها عن يمين آدم
(1)"فتح الباري"(1/ 461).
(2)
"مشارق الأنوار"(2/ 47).
(3)
"فتح الباري"(1/ 461).
حَتَّى عُرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُ". قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاوَاتِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَنْصَاريَّ كَانَا يَقُولَانِ: . . . . .
ــ
وشماله، وقد أعلم بما سيصيرون إليه، فقوله: نسم [بنيه] عام مخصوص، انتهى كلام الشيخ.
والأظهر أن يقال: إنها تمثلت أولها وآخرها في تلك الليلة إراءة للنبي صلى الله عليه وسلم على ما نطق به قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1]، ولا يقتضي قوله: فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار وجود الجنة والنار وحضورهما هناك، كما لا يخفى على أنه يمكن القول بتمثلهما أيضًا، كما في حديث:(رأيت الجنة والنار في عرض هذا الحائط)(1)، واللَّه أعلم.
وقوله: (وإبراهيم في السادسة) قد مرّ في حديث مالك بن صعصعة: أنه رآه في السابعة، وهو أرجح لما جاء في رواية الجماعة: أنه رآه مسندًا إلى البيت المعمور وهو في السابعة، وقد مرّ.
وقوله: (فأخبرني ابن حزم) بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي، و (أبا حبة) بالحاء المهملة والباء الموحدة، وهو الأشهر، وكذا في (القاموس)(2)، وقال: أو صوابه حنة بالنون.
(1) أخرجه البخاري في "صحيحه"(540)، ومسلم في "صحيحه"(2359).
(2)
"القاموس المحيط"(ص: 80).
قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ عُرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلَامِ"، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. . . . .
ــ
وقوله: (ظهرت) بلفظ المتكلم المعلوم من الظهور، والمراد صعدت وعلوت، و (المستوى) بفتح الواو محل الاستواء، والمراد به المصعد، قال التُّورِبِشْتِي (1): المستوى على مثال الملتقى: المستقر، وموضع الاستعلاء من الاستواء بمعنى الصعود والقصد، يقال: استوى إليه: قصد كالسهم المرسل إذا قصده قصدًا مستويًا من غير أن يلوي على شيء، وأصل الاستواء طلب السواء، وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من تسوية وضع الأجزاء، كذا في (تفسير البيضاوي) (2) في قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29]، واللام في قوله:(لمستوى) بمعنى إلى، وقيل: للعلة، أي: علوت وصعدت لاستعلاء مستوى أو لرؤيته أو لمطالعته صريف الأقلام، أي: صوت جريانها بما تكتبه من أقضية اللَّه ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء اللَّه أن يكتب ما أراد من أموره وتدبيره بأقلام لا يعلم كيفتها إلا هو، وقد يأولها المتفلسفة بتأويلات تخرجها عن الظاهر، والأقوم اعتقاد ظاهرها وإحالة حقيقتها إلى علم اللَّه سبحانه، واللَّه أعلم. نعم يجعل ذلك كناية عن الاطلاع على الكوائن، وتدبير اللَّه في خلقه، لكن الكناية لا يمنع إرادة الموضوع له، فافهم.
(1)"كتاب الميسر"(4/ 1276).
(2)
"تفسير البيضاوي"(1/ 48).
قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ، فَرَاجَعَنِي، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي حَتَّى انْتُهِيَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى،
ــ
وقوله: (فارجع إلى ربك) وقوله: (فراجعني فوضع شطرها) في (الصراح)(1): رجوع: باز كَشتن، مراجعة: باز كَردانيدن سخن را، وتقدير الكلام: فرجعت فراجعني ربي فوضع شطرها، وفي رواية الكشميهني:(فراجعت إلى ربي) فلا حاجة إلى التقدير.
وقوله: (فرجعت فراجعت) أي: رجعت إلى ربي فراجعته الكلام، وفي بعض النسخ جعل (فراجعت) نسخة مكان (فرجعت) وهو أنسب بقول موسى:(راجع ربك)، وقوله في الثالثة:(فراجعت) موافق برواية الكشميهني.
وقوله: (لا يبدل القول لدي) يحتمل أن يكون المراد عدم تبديل الخمس وكونه حكمًا مؤبدًا، أو عدم تبديل الحكم بأن الخمس في حكم خمسين، وكون الحسنة الواحدة بعشرة، وهذا المعنى أظهر.
وقوله: (ثم انطلق بي حتى انتهي) كلاهما بلفظ المجهول.
(1)"الصراح"(ص: 313).
وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ؟ ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. [خ: 3342، م: 163].
ــ
وقوله: (لا أدري ما هي؟ ) أي: في أول الأمر، أو مبالغة بحيث لا يطيقها نعت ولا يحصيها عد، أو المراد أنها كانت لا تشبه الألوان المشهودة المستحضرة في النفوس، فأنعت لكم بذكر نظائرها وأشباهها، أو صدر هذا القول من غاية الحيرة والدهش عن قدرة اللَّه وإلا لا مجال لأن يقال: لم يوقفه على ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة، والألوان عبارة عن أنوار الملكوت، وقد وقع في الروايات التعبير عنها بفراش الذهب، كما يأتي في الحديث الآتي.
و(الجنابذ) جمع جنبذة بضم الجيم وسكون النون وبالموحدة المضمومة وبالمنقوطة: ما ارتفع من الشيء واستدار كالقبة، والعامة تقول بفتح الموحدة، والظاهر أنه فارسي معرب، كذا قال الكرماني (1)، ويريد بالفارسي كَنبذ، قال الشيخ (2): كذا وقع في رواية البخاري في أحاديث الأنبياء من رواية ابن المبارك وغيره، وكذا عند غيره من الأئمة، ووقع عند مسلم:(بينا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف وإذا طينه مسك أذفر)، وفي رواية:(فيها حبائل اللؤلؤ)، وقال الشيخ (3): كذا وقع لجميع رواة البخاري في هذا الموضع بالحاء المهملة ثم الموحدة وبعد الألف تحتانية ثم لام، وذكر كثير من الأئمة أنه تصحيف، وروى البخاري (4) في التفسير عن
(1)"شرح الكرماني"(4/ 8).
(2)
"فتح الباري"(7/ 216 - 217).
(3)
"فتح الباري"(1/ 463).
(4)
"صحيح البخاري"(4964).
5865 -
[4] وَعَنْ عَبدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ:{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)} قَالَ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ،
ــ
قتادة عن أنس: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ)، وقال صاحب (المطالع) في الحبائل: قيل: هي القلائد والعقود جمع حبالة، أو هي من حبائل الرمل، أي: فيها لؤلؤ مثل حبائل الرمل جمع حبل، وهو ما استطال من الرمل، وتعقب بأن الحبائل لا يكون إلا جمع حبالة أو حبيلة بوزن عظيمة، وقيل: الحبائل جمع حبالة، وحبالة جمع حبل على غير قياس.
5865 -
[4](عبد اللَّه) قوله: (وهي في السماء السادسة) قد عرف مما سبق من حديث مالك بن صعصعة أنها في السماء السابعة، وعرفت وجه الجمع بينهما هناك.
وقوله: (ما يعرج به) بلفظ المجهول.
وقوله: (إذ يغشى السدرة) تعظيم وتكثير لما يغشاها، وهو المراد بقوله في الحديث السابق:(لا أدري ما هي)، لا حقيقة عدم الدراية كما أشرنا إليه هناك، فلا منافاة بين الحديثين، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال:(رأيت على كل ورقة ملكًا قائمًا يسبح)، وقيل: فرق من الطير الخضر وهو أرواح الأنبياء والشهداء، وأما قول عبد اللَّه بن مسعود:(فراش من ذهب) بفتح الفاء فلا ينافي ذلك لجواز كونها أيضًا مما غشيها، كذا قال التُّورِبِشْتِي (1)، ويمكن أن يكون إطلاق الفراش على تلك الأنوار النازلة من عالم
(1)"كتاب الميسر"(4/ 1277).
قَالَ: فَأُعْطِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحَمَاتُ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. [م: 1730].
ــ
الملكوت بطريق التشبيه والاستعارة، فالفراش طير معروف يتهافت على السراج، وجعلها من الذهب لصفائها وضيائها، وفي الرواية: جراد من ذهب، قيل: ذكر الفراش والجراد على سبيل التمثيل؛ لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد ونحوه، وجعلها من الذهب حقيقة والقدرة صالحة لذلك.
وقوله: (فأعطي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاثًا) وبه فسر بعضهم قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] كما أشرنا إليه من قبل.
وقوله: (وأعطي خواتيم سورة البقرة) الناطقة بكمال رحمة اللَّه تعالى لهذه الأمة المرحومة وتخفيفه عنهم ومغفرته لهم ونصرته إياهم على الكافرين، وقد ورد في الحديث:(أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي من قبل)(1)، فالمراد إعطاء مضمونها ومدلولها، وإلا فسورة البقرة مدنية، والمعراج كان بمكة، ويمكن أن يقال: يمكن أنها نزلت عليه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بلا واسطة جبرئيل، ثم نزل جبرئيل بها بعد نزول السورة بالمدينة فأثبت في المصاحف، ويؤيده ما جاء عن الحسن وابن سيرين ومجاهد: أن اللَّه تعالى جاء بها إليه بلا واسطة جبرئيل ليلة المعراج فكتبت عندهم، واللَّه أعلم.
و(المقحمات) بضم الميم وسكون القاف وكسر الحاء: الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار، من اقتحم أمرًا عظيمًا ويقتحم: إذا رمى نفسه فيه من غير
(1) أخرجه أحمد في "مسنده"(5/ 151).
5866 -
[5] وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِّي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي. فَإِذَا رَجُلٌ ضَربٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بنُ مَسْعُودٍ الثَّقفيُّ، فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي، أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ -يَعْنِي نَفْسَهُ- فَحَانَتِ الصَّلَاةُ،
ــ
رَويَّة وتثبت، أقحمته فانقحم واقتحم، والمراد بالغفران أن لا يخلد صاحبها في النار، وقيل: المراد بعض الأمة.
5866 -
[5](أبو هريرة) قوله: (لم أثبتها) من الإثبات، أي: لم أضبطها، أي: لم أشاهدها على اليقين، أو لم أحفظها الآن بطريان النسيان.
وقوله: (فكربت) بلفظ المجهول من الكرب، أي: أصابتني كرب وغم شديد.
وقوله: (فرفعه اللَّه لي) أي: قربه عني ورفع الحجاب بيني وبينه حتى شاهدته.
وقوله: (وقد رأيتني) أي: عند بيت المقدس.
وقوله: (فإذا رجل ضرب جعد) الضرب: الرجل الخفيف اللحم، والجعد: يحتمل جعودة الشعر وجعودة الجسم، وهو اجتماعه وغلظه.
فقيل: هذا هو المراد لأنه قد جاء في رواية أبي هريرة: أنه كان رجل الشعر، وقيل: ويحتمل الأول أيضًا، لأن الرجل من الشعر ما يكون بين السبوطة والجعودة، يقال: شعر رجل: إذا لم يكن شديد الجعودة، فيمكن وصفه بالجعودة في الجملة.