الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدخل:
لقد صدق من قال: إن الوقت هو الحياة، وإنهما وجهان لعملة واحدة؛ فما الأيام إلا صفحات تقلب في كتاب حياتنا، وما الساعات في تلك الأيام إلا كالأسطر في صفحات الأيام، والتي سرعان ما تختم الصفحة لننتقل إلى صفحات أخرى، وهكذا تباعا حتى تنتهي صفحات كتاب العمر، وبقدر ما نحسن تقليب صفحات أيامنا تلك، نحسن الاستفادة من كتاب حياتنا؛ وبقدر استغلالنا لأوقاتنا، نحقق ذواتنا ونعيش حياتنا كاملة غير منقوصة.
ولا شك أن إدراك الإنسان لقيمة وقته ليس إلا إدراكا لوجوده وإنسانيته ووظيفته في هذه الحياة الدنيا، وهذا لا يتحقق إلا باستشعاره للغاية التي من أجلها خلقه الله عز وجل وإدراكه لها، ومن المعلوم أن الله خلق الإنسان لعبادته، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1){مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2){إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) ومما لا شك فيه أن المقصود بالعبادة معناها الشامل الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين عرف العبادة بأنها: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة (4) ولذلك كان الوقت أغلى ما يملكه الإنسان، فهو
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2)
سورة الذاريات الآية 57
(3)
سورة الذاريات الآية 58
(4)
العبودية، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، المكتب الإسلامي، بيروت 1403 هـ، ص 38.
كنزه، ورأس ماله الحقيقي في هذه الدنيا، ذلك أنه وعاء كل شيء يمارسه الإنسان في حياته الدنيا.
ويكفى الوقت شرفا وأهمية أن الله عز وجل قد أقسم به في كتابه العزيز، وأقسم ببعض أجزائه في مواطن عديدة، قال تعالى:
والليل إذا عسعس {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (1)، {وَالْفَجْرِ} (2){وَلَيَالٍ عَشْرٍ} (3)، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (4){وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} (5)، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (6){وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (7)، {وَالضُّحَى} (8){وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (9)، {وَالْعَصْرِ} (10){إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (11).
ولقد ذكر عدد من المفسرين رحمهم الله أن إقسام الله ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته، ومن هنا فالله لم يقسم بتلك المخلوقات عبثا، بل ليبين لعباده أهميتها وليلفت أنظارهم إليها، ويؤكد على عظيم نفعها، وضرورة الانتفاع بها، وعدم تركها تضيع سدى دونما فائدة ترجى في الدنيا أو الآخرة.
(1) سورة التكوير الآية 18
(2)
سورة الفجر الآية 1
(3)
سورة الفجر الآية 2
(4)
سورة الشمس الآية 1
(5)
سورة الشمس الآية 2
(6)
سورة الليل الآية 1
(7)
سورة الليل الآية 2
(8)
سورة الضحى الآية 1
(9)
سورة الضحى الآية 2
(10)
سورة العصر الآية 1
(11)
سورة العصر الآية 2
ولقد برزت أهمية الوقت والحث على الاستفادة منه وعدم تركه يضيع سدى في السنة النبوية، فلقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله:«اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك (1)»
فالحديث وإن تنوعت ألفاظه وتعبيراته إلا أنها تدور على الحث على اغتنام فرصة الفراغ في الحياة قبل ورود المشغلات، مثل المرض أو الهرم أو الفقر، فالغالب أن هذه الأمور تلهي الإنسان وتمنعه من الاستفادة من أوقاته، فالمريض يهتم بأسباب عودة صحته واسترداد عافيته، وكذلك مع الهرم، وهو أقصى الكبر، يكون الضعف العام للجسم وبطء الحركة بعكس من كان في مرحلة الفتوة والقوة والشباب.
كما روى البخاري في صحيحه أن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ (2)» ، ومعنى الحديث في منتهى الوضوح، حيث يرشد
(1) المستدرك على الصحيحين، الحاكم، ج 4، ص 341، وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وكذلك: الزهد، ابن المبارك، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية، ص 2.
(2)
صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق مصطفى البغا، دار القلم، دمشق، 1401 هـ، كتاب الرقاق، باب ما جاء في الصحة والفراغ، ج هـ، ص 2357.
الرسول صلى الله عليه وسلم أن الفراغ مغنم ومكسب، ولكن لا يعرف قدر هذه الغنيمة إلا من عرف غايته في الوجود، وأحسن التعامل مع الوقت والاستفادة منه، ولعل مما يحفز على ضرورة الاستفادة من الوقت حرص الفرد أن يكون من القلة التي عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه السابق، إذ ظاهر الحديث أن من يستفيد من الوقت هم القلة من الناس، وإلا فالكثير مغبون وخاسر في هذه النعمة، بسبب تفريطه في وقته وعدم استغلاله الاستغلال الأمثل.
وقد يكون الإنسان صحيحا ولا يكون متفرغا؛ لانشغاله بمعاشه، وقد يكون مستغنيا ولا يكون صحيحا، فإذا اجتمعا -الصحة والفراغ- وغلب عليه الكسل عن طاعة الله فهو المغبون، أما إن وفق إلى طاعة الله فهو المغبوط (1).
ومسئولية الإنسان عن وقته شاملة لجميع عمره، وهذا الوقت مما يسأل عنه الإنسان يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فعل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه (2)»
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ج 11، دار الريان، القاهرة، 1407 هـ، ص 234.
(2)
سنن الدارمي، أبي محمد عبد الله الدارمي، دار الفكر، بيروت، باب من كره الشهرة والمعرفة، ص 98.