الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللامبالاة، كفر النعمة. . . ما هذه إلا بعض آثار، لا شك أنها تتولد من السلوك الشرائي غير المنضبط، ومن الإدمان الاستهلاكي غير المتزن، ومن الإنفاق البذخي غير الرشيد.
إن صناديق القمامة تشهد أكياسا من الزبالة وألوانا من النفايات المنزلية أشبه بالتلال نتيجة الاستهلاك المنزلي الشره، وصدق من قال إن الاستهلاك هو طوفان التلوث القادم.
فإذا أضفنا إلى ما سبق شيوع أخلاقيات الأنا والجسد والجشع والمباهاة والتقليد وكسر قلوب الفقراء والمساكين والمحتاجين واختلال الميزانيات الأسرية والاستدانة. . . فإن هذا كله يستلزم أن نقف في وجه الوحش الاستهلاكي والغول الشرائي والإدمان الإنفاقي والهوس التسوقي من أجل أن تغلق وبشكل نهائي الملف الأسود للاستهلاك في كل بيت، وعند كل أسرة وداخل كل مجتمع وفي أي دولة.
إننا لو جمعنا كل ما ينفق على الأمور التافهة في صندوق موحد، ثم أنفق هذا على إزالة أسباب المأساة من حياة الكثيرين، لصلحت الأرض وطاب العيش فيها.
وإذا تمثلت أعمالنا بالتدبير وحسن التصرف فإننا نستطيع التخلص من النقيضين وهما الإفراط في الإنفاق والاستهلاك، وحالات العوز والفقر، إذ يمكن للأول سد حاجات الثاني، بحيث يقترب النقيضان إلى معدل معقول.
معالجة ظاهرة الإسراف والتبذير:
إن الاعتدال هو جوهر الإسلام في كل الأنشطة البشرية، فالإسلام ينهى عن التقتير كما ينهى عن الإسراف وعن الاستهلاك
حبا في الظهور.
وقد حدد القرآن الكريم والسنة النبوية استهلاك المسلم بما لا يوصف بالإسراف والتبذير، بحيث تتناول الخريطة الاستهلاكية على مستوى الأفراد:(المأكل، والمشرب، والملبس، والمسكن، والزينة، ووسائل التنقل، وتكاليف الزواج، وأجور العمال. . .)، وبحيث تنضبط بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة.
ومن ثم، فينبغي على المسلم الالتزام داخل هذه الخريطة الاستهلاكية بما يلي:
1 -
الناحية الاقتصادية لا تملك المؤمن بل يواجهها بعقيدته وبخلقه.
2 -
الاستهلاك في حدود الوسط والاعتدال.
3 -
تجنب الفخر والخيلاء.
4 -
الابتعاد عن الحرام.
5 -
ترشيد وتنظيم الاستهلاك.
6 -
تناول المنتجات الاستهلاكية وادخارها عند اليسر والرخاء.
كما أن المستهلك المسلم يتحرك داخل مناطق استهلاكية محددة شرعا، تتراوح ما بين الإباحة والحرمة.
أولا: منطقة القوام (الوسطية والاعتدال): وهي منطقة مباحة، إذ هي وسط بين الإسراف والتقتير، ووسط بين الزينة والورع، وأكثر الناس لا يأخذ بها، إذ هم يميلون غالبا إلى الزينة، ويتجاوز بعضهم إلى الترف والسرف والتبذير. وأصل هذه المنطقة قوله
تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1). وقوله عليه السلام: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة (2)» حديث حسن أخرجه أحمد والنسائي.
ثانيا: منطقة الزينة (الطيبات وإظهار الغنى): وهي منطقة مباحة. يقول تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (3). ويقول عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (4). ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (5)» حديث حسن، أخرجه الترمذي. ومن هذه المنطقة التحدث بالنعم والرفاهية، على ألا يخرج المستهلك المسلم إلى منطقة الترف المنهي عنه.
ثالثا: منطقة الورع (التقشف والزهد): وهي منطقة مباحة، ورغم أنها منطقة محمودة، بيد أن الذين يستطيعون المكث فيها قلة من الناس. ويأتي على رأس هذه المنطقة الأنبياء عليهم السلام، والزهاد الأوائل، وقليل من المتأخرين. إذ في هذه المنطقة كثير من التضحية بالدنيا ومباهجها، وإيثار الآخرين على النفس. ولو تيسر ذلك لأمكن حل المشكلات الاقتصادية. وأصل هذه المنطقة قوله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (6).
رابعا: منطقة التقتير (البخل والشح): وهي منطقة محرمة،
(1) سورة الفرقان الآية 67
(2)
سنن النسائي الزكاة (2559)، سنن ابن ماجه اللباس (3605)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 182).
(3)
سورة الضحى الآية 11
(4)
سورة الأعراف الآية 31
(5)
سنن الترمذي الأدب (2819).
(6)
سورة الحشر الآية 9
فالبخيل عدو لله وعدو لنفسه وعدو لكل ما ينفع الناس، حتى لو وصلت به الحال إلى الزهد الأعجمي وحرمان نفسه من الضروريات.
وأصل هذه المنطقة قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} (1). وقوله عليه السلام: «إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالفجور ففجروا (2)» حديث صحيح على شرط مسلم كما عند الحاكم في المستدرك، أخرجه أبو داود.
خامسا: منطقة الإسراف (التبذير والترف): وهي منطقة محرمة. قال تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (3). وقال عز وجل: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (4){إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (5). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم، الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب، فيتشدقون بالكلام» . حديث صحيح، أخرجه أحمد والحاكم.
والتبذير أشد من الإسراف، فهو مغالاة وتجاوز للحد المعروف، وتوسع في الإنفاق المحرم، وعلى المعاصي والشهوات المنكرة.
كما أن الترف أشد من التبذير إذ يتوسع المرء المترف في ملاذ الدنيا وشهواتها.
(1) سورة محمد الآية 38
(2)
سنن أبو داود الزكاة (1698)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 195).
(3)
سورة الأنعام الآية 141
(4)
سورة الإسراء الآية 26
(5)
سورة الإسراء الآية 27
وإذا انتشر الترف في الأمة أودى بها إلى الفناء. ومن هذه المنطقة إضاعة المال. والرسول الكريم نهى عن إضاعة المال، كما روى ذلك الشيخان.
وانسجاما مع أسلوب ومنطقة الاعتدال والقوام، وبعدا عن أسلوب ومنطقة الإسراف والتبذير، وضع الإسلام قيودا نوعية وكمية وقعد قواعد حاكمة للعملية الاستهلاكية. ومن ذلك:
1 -
النهي عن حياة الترف: والترف هو المبالغة في التنعم، والمترف هو المتنعم المتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها. والإسلام لا يحبذ الترف بل يعده سلوكا غير سوي، وسببا في نزول العذاب وهلاك الأمم ودمارها، ومؤشرا على الابتعاد عن الطريق القويم، وعلامة على تخلخل كيان المجتمع واهتزازه، قال تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (1).
2 -
النهي عن الإسراف والتبذير والسفه: والإسراف - كما بينا - هو تجاوز القصد والاعتدال في الإنفاق، وهو ما دون الترف. أما التبذير فيعني إنفاق المال وتفريقه إسرافا في غير ما ينبغي. والسفه ضد الرشد. وقد نهى الشرع عن الإسراف والتبذير لما ينطوي عليهما من تبديد غير واع لموارد الفرد والمجتمع.
3 -
الأمر بالاعتدال في الإنفاق: بحيث يكون المسلم متوازنا بين مصالح الدين والدنيا والروح والمادة. فالنهي عن الترف والإسراف والتبذير، لا يعني الدعوة إلى البخل والشح والتقتير،
(1) سورة الإسراء الآية 16
إنما يعني الدعوة إلى الاعتدال. لما لذلك من آثار إيجابية على الفرد والمجتمع، فإذا كان البخل يقود إلى نقص الميل للاستهلاك، فإن الترف والإسراف يقودان إلى تبديد الموارد وإتلافها، وكلاهما آفة.
4 -
الابتعاد عن استهلاك المنتجات المحرمة والضارة: ويعني هذا أن تكون المنتجات من الطيبات المتصفة بالحسن والنقاء والطهارة، فقد أحل الله الطيبات وحرم الخبائث. والقاعدة الفقهية تقول:" لا ضرر ولا ضرار ".
5 -
عدم المباهاة والخيلاء: إذ الإسلام ينظر إلى الإنفاق الاستهلاكي باعتباره قوام المجتمعات، ومن الواجبات الاجتماعية. ومن ثم، فينبغي أن يحذر المسلم من أن يداخل إنفاقه مباهاة أو خيلاء. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (1).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء (2)» متفق عليه.
6 -
تذليل النفس البشرية بالجوع: لتضييق مجاري الشيطان. فالنفس البشرية إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات، وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت.
وقد ورد عن جمع من العلماء والفقهاء أن في الجوع فوائد
(1) سورة البقرة الآية 264
(2)
صحيح البخاري المناقب (3665)، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085)، سنن الترمذي اللباس (1730)، سنن النسائي الزينة (5335)، سنن أبو داود اللباس (4085)، سنن ابن ماجه اللباس (3569)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 147)، موطأ مالك الجامع (1696).
جمة، ومن ذلك:
أ - صفاء القلب ونفاذ البصيرة.
ب - زوال البطر والأشر.
جـ - تذكر بلاء الله وعذابه.
د - كسر شهوات المعاصي.
هـ - المواظبة على العبادة.
والإيثار والتصدق بالفضل.
7 -
التربية الاقتصادية: وذلك على حسن الإنتاج والكسب، وحسن الاستهلاك والإنفاق، وحسن التوزيع. وفي هذا المقام يمكن أن نستأنس بما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه عليه، ومن ذلك:
أ - التربية على أن الغنى غنى النفس: جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم له:«أترى كثرة المال هو الغنى؟ قال أبو ذر: نعم. وترى قلة المال هو الفقر؟ قال أبو ذر: نعم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب حديث صحيح» . ومعنى ذلك عدم تقبل المال من كل سبيل، وعدم إنفاقه في كل سبيل وبأي مقدار.
ب - التربية على العمل وكسب العيش: جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، فقال:«ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، من يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله (1)»
(1) صحيح البخاري الزكاة (1469)، صحيح مسلم الزكاة (1053)، سنن الترمذي البر والصلة (2024)، سنن النسائي الزكاة (2588)، سنن أبو داود الزكاة (1644)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 94)، موطأ مالك الجامع (1880)، سنن الدارمي الزكاة (1646).
رواه البخاري. ومعنى ذلك أن الوسائل النفسية المهمة: التعفف، والاستغناء، والصبر.
أما الوسيلة المادية فهي العمل، كما في حديث:«لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه (1)» . رواه البخاري. ولهذا كان أهل مكة يعملون في التجارة في مكة، وبالزراعة في المدينة.
ب - التربية على الاعتماد الذاتي والاكتفاء بالدخل الشخصي. جاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قول رسول الله:«فراش للرجل وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان (2)» رواه مسلم. ومعنى ذلك تقليل المصروفات، حتى لا يحتاج المرء إلى الاستدانة من الآخرين، وليكتفي ذاتيا بما عنده.
د - التربية على العطاء. جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة (3)» رواه مسلم. ومعنى ذلك رفع المستوى الاقتصادي للمجتمع، بحيث يكثر فيه المعطون، ويقل فيه الآخذون.
هذه أهم معالم التربية الاقتصادية التي نشأ رسول الله أصحابه عليها، ورباهم على الأخذ بها، ودعاهم إلى سلوكها، فآتت ثمارها على الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى المجتمع المسلم، وكان لها صداها في مجال الدعوة إلى الإسلام.
(1) صحيح البخاري الزكاة (1471)، سنن ابن ماجه الزكاة (1836)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 164).
(2)
صحيح مسلم اللباس والزينة (2084)، سنن النسائي النكاح (3385)، سنن أبو داود اللباس (4142)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 293).
(3)
صحيح البخاري الزكاة (1429)، صحيح مسلم الزكاة (1033)، سنن النسائي الزكاة (2533)، سنن أبو داود الزكاة (1648)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 152)، موطأ مالك الجامع (1881)، سنن الدارمي الزكاة (1652).
وحري بنا نحن أن نقتدي برسولنا ونمتثل تلك المعالم التربوية سلوكا واقعيا وعمليا.
إن على المسلمين أن يحجموا عن أي نمط سلوكي يدمر هذه القيم والمعالم والآداب. فأي نفقة بنية التباهي أو إظهار الأبهة أو الخيلاء، لا بد وأن يكون من شأنها توسيع الهوة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء في المجتمع المسلم الواحد.
إن نمط الإنفاق السليم والمتفق مع الآداب الشرعية هو ذلك الذي يحكي البساطة والتواضع والاعتدال. ولا يعني ذلك عزوف المسلمين عن الاستفادة من دخلهم، أو من الموارد التي امتن الله بها عليهم، لسد حاجاتهم أو عن تزويد أنفسهم بأسباب الراحة.
لكن الإسلام يتطلب إعطاء الاستهلاك جدوى وجودة أعظم. كما يأمر بتجنب أسلوب الحياة القائم على الغرور والخداع، لإشباع الميل الشديد إلى تقليد الآخرين.
إن المنافسة غير الصحية على رموز الأبهة والمصحوبة بعدد من العادات، ولا سيما بمناسبات الزواج، إنما تؤدي إلى الإنفاق المفرط الذي يتم تمويله إما بتعطيل استثمار ما سبق ادخاره أو بمنع ادخار المستقبل.
ولا تلبث العدوى أن تصيب كل المناخ الاجتماعي. إن المسلم مطالب بالاعتدال والتوازن والابتعاد عن كل مظاهر الفساد والترف والإسراف والتبذير، آفات المجتمعات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين.