الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الإمام الرامهرمزي: (على أن طلاب الحديث عصر التابعين كانوا في حدود العشرين، وكذلك يذكر عن أهل الكوفة)(1)(قيل لموسى بن إسحاق: كيف لم تكتب عن أبي نعيم؟ قال: كان أهل الكوفة لا يخرجون أولادهم في طلب العلم صغارا، حتى يستكملوا عشرين سنة)(2) وهو لم يبلغ سن العشرين لذا لم يكتب عنه.
وليس المراد أن من طلب الحديث قبل هذه السن لا يصح؛ إذ كان أهل البصرة يرسلون أولادهم لطلب الحديث إذا بلغوا عشر سنين، وإنما المراد المبالغة في التأكد من إدراكه، فالصحيح أن من كان يقظا ذكيا جاز له طلب الحديث والعناية به، ولو كان دون العشرين، فهذا سفيان بن عيينة طلب الحديث وعمره خمس عشرة سنة (3).
أما أداء الحديث بعد تحمله فلا يقبل إلا من كان بالغا (4)
(1) المحدث الفاصل ص 186، وعصر، منصوب بنزع الخافض والتقدير: في عصر.
(2)
المحدث الفاصل ص 186
(3)
المحدث الفاصل ص 185
(4)
المحدث الفاصل ص 185
المبحث الثاني: الصيغة التي يستعملونها لأداء الحديث:
قد بلغ حرص هؤلاء الأئمة الأعلام أنهم كانوا أهل دقة في اختيار استعمال الصيغة لأداء الحديث، ملاحظين الكيفية عند تحملهم للحديث.
قال الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى: (كان شيخنا أبو بكر البرقاني يقول فيما رواه لنا عن أبي القاسم عبد الله بن إبراهيم الجرجاني المعروف بالأبندوني: (سمعت، ولا يقول: حدثنا، ولا أخبرنا، فسألته عن ذلك: فقال: كان الأبندوني عسرا في الرواية جدا، مع ثقته وصلاحه وزهده، وكنت أمضي مع أبي منصور ابن الكرجي إليه، فيدخل أبو منصور عليه، وأجلس أنا بحيث لا يراني الأبندوني، ولا يعلم بحضوري، فيقرأ هو الحديث على أبي منصور، وأنا أسمع، فلهذا أقول فيما أرويه عنه: (سمعت) ولا أقول: (حدثنا ولا أخبرنا)، فإن قصده كان الرواية لأبي منصور وحده) (1).
فهذه الواقعة تدل على أمانة هذا الإمام ودقته في اختيار الصيغة التي تدل على الحالة التي تحمل بها الحديث.
قال الإمام الحافظ معتمر بن سليمان البصري المتوفى سنة سبع وثمانين ومائة: (سمعت، أسهل علي من حدثنا وأخبرنا، وحدثني، وأخبرني؛ لأن الرجل قد يسمع ولا يحدث)(2).
(1) الكفاية في علم الرواية ص 287.
(2)
الكفاية في علم الرواية ص 288.
فمن أجل ضبط تلقي السنة وضع علماء الحديث طرق أنواع التحمل، وجعلوها ثمانية طرق، مبينين أحكامها بالتفصيل (1).
كما أن من تحمل أحاديث عن طريق النظر في كتاب موثوق به، بينوا أمره، وقالوا بحقه:
روى أحاديث وجادة، أو رواها من صحيفة، ونحو ذلك من العبارات التي تدل على عدم سماع ما يحدث به.
قال سفيان بن عيينة: (حديث أبي سفيان عن جابر، إنما هي صحيفة)(2).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: (حديث سفيان أحاديث إسرائيل عن عبد الأعلى عن ابن الحنفية، قال: كانت من كتاب)(3). قلت: يعني أنها ليست بسماع.
فمن خلال هذين النصين وغيرهما يتبين لنا أن العلماء قد بينوا وميزوا السماع من غيره، وهذا دليل واضح على أمانتهم واهتمامهم. ومن شدة أمانتهم أن الراوي عندما يسأل عما يحدث به يخبرهم بأن الذي حدث به أخذه من صحيفة.
قال الحسن بن عبيد الله: (ذكرت لإبراهيم شيئا. فقال-
(1) انظر هذه الطرق والكلام عليها في الإلماع للقاضي عياض ص 68 وما بعدها. وهو خير من تناول هذه الطرق
(2)
مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/ 46.
(3)
مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 1/ 71.
أي إبراهيم -: هذا وجدته في صحيفة) (1).
كما أنهم ميزوا بين السماع والعرض علما أن كليهما من الطرق التي يصح بها التحمل.
قال الإمام أبو عبد الله أحمد رحمه الله: (سمع حجاج الأعور (2) التفسير من ابن جريج بالهاشمية (3) قال حجاج: أحاديث طوال سمعتها منه- أي من ابن جريج - سماعا. . . - والباقي عرضا، وأحاديث أيضا) (4).
نجد هذا الإمام الثبت قد ميز مروياته عن ابن جريج، علما أنها كلها صحيحة، ولا يضيره شيء ولو لم يميز.
كما أن الراوي إذا حدث بحديث ما، ولم يتحمله بواحد من الطرق المعروفة، فإن الراوي يقول: قال فلان أو عن فلان، ونحو ذلك من الألفاظ التي تدل على عدم السماع.
قال الإمام أحمد في ابن وهب: (كان بعض حديثه سماعا، وبعضه عرضا، وبعضه مناولة، وكان ما لم يسمعه يقول: قال حيوة، قال فلان)(5).
(1) المحدث الفاصل للرامهرمزي ص 212
(2)
هو حجاج بن محمد المصيصي الأعور أبو محمد ثقة، توفي سنة ست ومائتين، انظر التقريب.
(3)
مدينة بناها السفاح قرب الكوفة، انظر معجم البلدان: 5/ 389.
(4)
العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد: 1/ 259.
(5)
الكفاية ص 289.
وهكذا كان يفعل الإمام البخاري في معلقاته التي لم يأخذها بواحد من طرق التحمل، يقول: قال فلان، ويذكر عن فلان، ونحو ذلك؛ لأنه أخذها من كتاب.
وهذا أمر جائز لا يضير المحدث، ما دام أنه يستعمل صيغة لا تدل على السماع.
قال الإمام الذهبي - تعليقا على كلام الإمام أحمد كان ابن إسحاق يشتهي الحديث، فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه-:(هذا الفعل سائغ، فهذا الصحيح للبخاري فيه تعليق كثير)(1).
وكذلك بلاغات الإمام مالك في الموطأ فإنه أخذها من كتاب.
قال الإمام أحمد: (كان مالك بن أنس يتلهف على بكير بن الأشج، وكان غاب عن المدينة، ويقولون: إن مرسلات مالك التي يقول: بلغني عن فلان، أخذها من كتب بكير، يقولون عن ابنه)(2). قلت: إذا قال الراوي: قال فلان، فله ثلاث حالات:
1 -
أن يكون القائل غير مدلس فهذا حكمه الاتصال، إلا إن كان هناك دليل بأن تلك الأحاديث أخذها من كتاب، كمعلقات البخاري وبلاغات مالك.
2 -
أن يكون القائل معروفا بالتدليس، فهذا حكمه الرد.
3 -
أن يكون حاله مجهولا فهل يحمل على الاتصال أم لا؟ (3) كما
(1) سير أعلام النبلاء: 7/ 46.
(2)
العلل ومعرفة الرجال: 2/ 131.
(3)
انظر: شرح علل الترمذي: 1/ 376.
أن الراوي لا يقول: سمعت أو حدثنا، وهو لم يحدث أو يسمع؛ لأن من فعل ذلك، وهو لم يحدث ولم يسمع يكون كذابا، وبالتالي يكون مجروحا، وإنما يستعمل صيغة لا تدل على السماع، وإذا وجدنا راويا قد قال: حدثنا وهو لم يحدث، فهذا ليس منه، وإنما جاء من الرواة بعده.
قال محمد بن جابر المحاربي: قال رجل لأبي أسامة الكوفي المتوفى سنة إحدى ومائتين، قل: حدثنا.
فقال: فقدتك (1) والله إن الحق يثقل علي، فكيف أكذب لك) (2).
وقد كان جماعة من المحدثين لا يسمعون من المحدث، إلا إذا كان يقول: حدثنا أو سمعت.
قال سفيان بن عيينة: (كان عبد الكريم أول من جالسته قبل عمرو بن دينار، فكان كثيرا من حديثه، لا يقول فيه (سمعت)، يقول:(قال فلان) ففررت منه، وذهبت إلى عمرو بن دينار، فكان يقول: سمعت وحدثنا) (3).
وقال الإمام شعبة بن الحجاج: (كل حديث ليس فيه، سمعت، فهو خل وبقل)(4).
(1) أي أفقدك بالموت.
(2)
الكفاية ص 290.
(3)
العلل ومعرفة الرجال: 12/ 348
(4)
تصحيفات المحدثين: 1/ 23