الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قولهم أن يكون من الاجتهاد السائغ بين المسلمين.
وقد يكون سبب خلافهم هو المسألة الأصولية: (إذا أجمع المسلمون على أن في المسألة قولين، أو أكثر، فهل يجوز إحداث قول ثالث).
ولكن هذا في بعض المسائل، وليس كليا؛ لأنه توجد مسائل شذ الظاهرية بقول، ولا يعلم للمتقدم فيها رأي.
المبحث الثالث:
خلاف أهل العلم في المسألة
، وأدلتهم، والترجيح
.
اختلف أهل العلم القائلون بالقياس رحمهم الله في هذه المسألة على أربعة أقوال:
القول الأول: أن خلافهم غير معتبر، وليس معتدا به مطلقا.
وهو منسوب لجمهور أهل العلم، حكاه أبو إسحاق الاسفرائيني (ت 316 هـ) عن جمهور أهل العلم، وذكر أبو العباس القرطبي
(ت 656 هـ)(1) أن جل الفقهاء والأصوليين على أنه لا يعتد بخلافهم. وقال النووي (ت 676 هـ)(2): (ومخالفة داود لا تقدح في الإجماع عند الجمهور)، وقال في موضع آخر (3):(ومخالفة داود لا تضر في انعقاد الإجماع؛ على المختار الذي عليه المحققون والأكثر).
وقال بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ)(4): (ولم يعدهم المحققون من أحزاب الفقهاء. . . وأخرجوهم من أهل الحل والعقد).
وحكاه ابن دقيق العيد (ت 702 هـ)(5)، والصنعاني (ت 1182 هـ)(6) عن بعض الناس.
وممن وقفت على قوله من أهل العلم موافقا لهذا القول، أبو الحسن الكرخي (ت 340 هـ)(7)، وأبو بكر الجصاص الرازي (ت 370 هـ)، والحموي (ت 1098 هـ)(8)، وابن عابدين
(1) المفهم لأبي العباس القرطبي 1/ 543، ونقله أيضا عنه في (البحر المحيط 4/ 472).
(2)
المجموع، للنووي 2/ 156، في باب الغسل.
(3)
شرح صحيح مسلم، للنووي 3/ 143، في باب السواك.
(4)
البحر المحيط، لبدر الدين الزركشي 6/ 291.
(5)
الإمام شرح الإلمام، لابن دقيق العيد 1/ 413.
(6)
العدة، للصنعاني 1/ 131.
(7)
نقله عنه في (الفصول في الأصول 3/ 297 ط: الكويت).
(8)
غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر، للحموي 3/ 299.
(ت 1252 هـ) من الحنفية.
ومن المالكية: القاضي أبو بكر الباقلاني (ت 403 هـ)، وابن بطال (ت 449 هـ)(1)، والقاضي أبو بكر ابن العربي (ت 543هـ)، وأبو العباس القرطبي (ت 656 هـ)(2)، والدرديري (ت 1201 هـ)(3)، وعليش (ت 1299 هـ).
وبه قال من الشافعية أبو العباس بن سريج (ت 306 هـ)(4)، والأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني (ت 316 هـ)، وأبو علي بن
(1) شرح صحيح البخاري، لابن بطال 1/ 352.
(2)
المفهم لأبي العباس القرطبي 1/ 543.
(3)
بلغة السالك لأقرب المسالك، للدرديري 2/ 389.
(4)
انظر كتاب: (المحمدون من الشعراء للقفطي 2/ 427).
أبي هريرة (ت 345 هـ)، والقاضي أبو الحسن المروزي (ت 462 هـ)، وأبو المعالي الجويني (ت 478 هـ)(1)، وأبو حامد الغزالي (ت 505 هـ)(2)، وحكي عن النووي (ت 676 هـ) الجزم بعدم الاعتداد بقولهم، ورجح هذا القول صلاح الدين الصفدي
(1) البرهان، للجويني 2/ 819 - في مبحث مسالك العلة -، وانظر: فيض القدير للمناوي 6/ 226.
(2)
البحر المحيط 4/ 472، حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2/ 242.
(ت 826 هـ)(1)، وولي الله العراقي (ت 826 هـ)(2)، ونقله أبو منصور البغدادي (ت 429 هـ) عن طائفة من متأخري الشافعيين.
وقال به نجم الدين الطوفي (ت 716 هـ)(3) من الحنابلة.
والحافظ أبو بكر ابن مفوز (ت 505 هـ) من علماء الحديث.
القول الثاني: أن خلافهم معتبر مطلقا.
وممن قال به القاضي عبد الوهاب البغدادي (ت 422 هـ)(4) من المالكية.
وبه قال من الشافعية أبو منصور البغدادي الشافعي (ت 429 هـ)؛ وحكى أنه الصحيح من مذهب الشافعية، ونسب هذا القول لأبي
(1) الوافي بالوفيات، للصفدي 13/ 475.
(2)
طرح التثريب شرح التقريب، لولي الله العراقي 2/ 37.
(3)
التعيين في شرح الأربعين، للطوفي ص 244.
(4)
قاله في كتاب (الملخص)، ونقله عنه الزركشي في (البحر المحيط 4/ 472).
عمرو ابن الصلاح (ت 650 هـ)، وقال به الذهبي (ت 748 هـ)(1)، وابن السبكي (ت 771 هـ)، (وهو الذي استقر عليه الأمر آخرا كما هو الأغلب الأعرف من صفو الأئمة المتأخرين)(2).
وهو رأي كثير من الحنابلة.
(1) سير أعلام النبلاء، للذهبي 13/ 104.
(2)
قاله ابن الصلاح (الفتاوى ص 67)، والنووي (تهذيب الأسماء واللغات 1/ 183).
واختاره غير واحد من المحققين؛ كالعلامة ابن القيم (ت 751 هـ)، والصنعاني (ت 1182 هـ)(1)، والشوكاني (ت 1250 هـ)(2)، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت 1393 هـ)(3) ونسبه للمحققين من علماء الأصول.
القول الثالث: أن خلافهم معتبر في غير المسائل القياسية، وأما المسائل القياسية فلا اعتبار بقولهم.
وهو قول أبي الحسن الأبياري (ت 618 هـ)(4).
القول الرابع: أن خلافهم معتبر فيما خالف القياس الخفي، دون ما خالف القياس الجلي.
(1) العدة، للصنعاني 1/ 140.
(2)
إرشاد الفحول، للشوكاني ص 71.
(3)
نثر الورود على مراقي السعود، للشنقيطي 2/ 428، أضواء البيان.
(4)
نقله عنه في (البحر المحيط 4/ 473).
وهو قول ابن الصلاح (ت 650 هـ)؛ قال: " والذي أجيب به بعد الاستخارة والاستعانة بالله أن داود يعتبر قوله ويعتد به في الإجماع إلا فيما خالف فيه القياس الجلي "(1).
(1) نقله عنه النووي في (تهذيب الأسماء واللغات 1/ 184)، وسكت عنه.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول (وهم القائلون بعدم الاعتداد بخلاف الظاهرية مطلقا) بأدلة متعددة، بعبارات مختلفة، وسأسوق بعضا منها:
- أن أهل الظاهر ليسوا من العلماء ولا من الفقهاء، بل هم من جملة العوام الذين لا يعتد بخلافهم (1).
- أن الظاهرية في حيز العوام، فلا اعتبار بخلافهم (2).
- أن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة، فبإنكارهم القياس والاجتهاد يكونون ملتحقين بالعوام، وكيف يدعون الاجتهاد، ولا اجتهاد عندهم، وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ. (3).
(1) نقله في (المفهم 1/ 543) عن القاضي أبي بكر الباقلاني.
(2)
الفصول في الأصول 3/ 296، سير أعلام النبلاء 13/ 104.
(3)
البرهان للجويني 2/ 818.
- أن من أنكر القياس لا يعرف طرق الاجتهاد، وإنما هو متمسك بالظواهر، فهو كالعامي الذي لا معرفة له (1).
- أنهم لا يعتد بخلافهم لأنهم من جملة العوام، وأن من اعتد بخلافهم فإنما ذلك لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع، والحق خلافه (2).
- ولأنهم في الشرعيات كالسوفسطائية في العقليات (3).
- أن منكري القياس من الظاهرية ليسوا من علماء الأمة؛ لأنهم مباهتون على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا، ومن لم يزعه التواتر، ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه (4).
- أنهم كالشيعة في الفروع، ولا يلتفت إلى أقوالهم، ولا ينصب معهم الخلاف، ولا يعتنى بتحصيل كتبهم، ولا يدل مستفت من العامة عليهم (5).
- أنهم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد، ولا يعتبر في الإجماع إلا خلاف من له أهلية النظر والاجتهاد.
(1) البحر المحيط 4/ 472.
(2)
المفهم 1/ 543، وعنه البحر المحيط 4/ 472.
(3)
البحر المحيط 4/ 472.
(4)
البرهان للجويني 2/ 818.
(5)
سير أعلام النبلاء 13/ 104.
بل بالغ بعضهم فلم يعدوا الظاهرية من العلماء والفقهاء.
- أنهم لما أحدثوا قواعد تخالف الأولين، أفضت إلى المناقضة لمجلس الشريعة، فلم يعتبر خلافهم (1).
- أنهم لما اجترءوا على دعوى أنهم على الحق، وأن غيرهم على الباطل أخرجهم أهل العلم من أهل الحل والعقد (2).
- أنه قد دل الدليل القاطع على أصل القياس، وهو لا يحتمل المنازعة فيه لظهوره. وقد نازع الظاهرية فيه.
وهذه المنازعة الظاهر أنها عناد، والمعاند في الحق لا عبرة بقوله، وهذا ظاهر.
وإن لم تكن عنادا - كما هو الظنون بذوي الحجى -، فقد نفوا ما ثبت بالدليل القاطع باجتهاد، قصاراه إفادة الظن الذي لا يعارض القطع الظاهر (3).
والاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد في إنزالهما بمنزلة ما لا يعتد به، وينقض الحكم به (4).
(1) البحر المحيط، لبدر الدين الزركشي 6/ 291.
(2)
البحر المحيط، لبدر الدين الزركشي 6/ 291.
(3)
الوافي بالوفيات، للصفدي 13/ 475.
(4)
فتاوى ابن الصلاح ص 69.
- أن من أنصف لنفسه علم أن النصوص التي أخذت منها الأحكام لا تفي بعشر معشار الحوادث التي لا نهاية لها، فما الذي يقوله الظاهري في غير المنصوص إذا أتاه عامي وسأله عن حادثة لا نص فيها، أيحكم فيها بشيء أم يدع العامي وجهله؟
لا قائل من المسلمين بالثاني؛ أعني أنا ندع العامي يخبط في دينه، وإن حكم فيها - والواقع أن لا نص -؛ فإما أن يقيس، أو يخترع من نفسه حكما يلزم الناس الأخذ به.
إن اخترع من عند نفسه ونسبه إلى الحكم الشرعي كان كاذبا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا كان ملزما للناس بفلتات لسانه، فما بقي إلا أنه لا يخترعه من عند نفسه ويقيسه على الصور المنصوص عليها.
والظاهري لا يقول بذلك، فعاد الأمر إلى أنه إما أن يدع العامي يخبط في دينه بما لم ينزل الله به سلطانا، أو يكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو يلزم الناس بهفواته، والثلاثة لا يقولها ذو لب - معاذ الله - (1).
- أن داود ينفي حجج العقول. . . فمن كان هذا مقدار عقله ومبلغ علمه كيف يجوز أن يعد من أهل العلم وممن يعتد بخلافه. . . (2)
(1) الوافي بالوفيات، للصفدي 13/ 475.
(2)
الفصول في الأصول، للجصاص 3/ 296.
- أنهم قد أخذوا هذا القول - نفي القياس - عن النظام من المعتزلة، وقد كفره جمع من أهل العلم (1).
مما سبق من تعليلات القائلين بعدم الاحتجاج بخلاف الظاهرية يتبين أنهم يدورون حول معنى واحد وإن اختلفت العبارات، وهو:
أن الظاهرية عندما أنكروا القياس خرجوا عن دائرة العلم، وأهله [وصاروا في دائرة العوام، أو الجهال، أو المبتدعة،
(1) فقه أهل العراق وحديثهم، للكوثري ص 17.
أو المباهتين (1)، أو الكفار والمشركين - بحسب اختلاف العبارات -] وهؤلاء لا يصح الاحتجاج بهم في الإجماع، ولا يقدح خلافهم فيه.
والسبب في ذلك - مما تقدم - ثلاثة أمور:
أ - أن النصوص الشرعية لا تفي بجميع الأحكام الشرعية، ولا بد من القياس لإظهار الأحكام الشرعية.
ب - أن الظاهرية وافقهم في قولهم هذا كثير من أهل البدع.
ج - أن القياس قد دل عليه (الدليل القاطع) فإنكارهم له إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة، فخالفوا صريح العقول، وصحيح المنقول.
أما الأمر الأول؛ وهو أن النصوص الشرعية لا تفي بجميع الأحكام الشرعية، ولا بد من القياس لإظهار الأحكام الشرعية.
فلا يسلم ذلك - عندهم - فإن في القرآن والسنة بيانا لجميع الأحكام الشرعية إما بطريق المنطوق أو المفهوم أو غيرها من دلائل الألفاظ ووسائل الاستنباط غير القياس، ويدل على ذلك عموم قول
(1) البرهان للجويني 2/ 818.
الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (1)، وقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2).
وقال ابن حزم (3): " كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة نعلمه والحمد لله، حاشا القراض فما وجدنا له أصلا البتة ".
قال أبو إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ)(4): " العالم بالقرآن على التحقيق عالم بجملة الشريعة، ولا يعوزه منها شيء، والدليل على ذلك أمور. . .
ومنها: التجربة؛ وهو أنه لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن في مسألة إلا وجد لها أصلا، وأقرب الطوائف من إعواز المسائل النازلة أهل الظاهر الذين ينكرون القياس، ولم يثبت عنهم أنهم عجزوا عن الدليل في مسألة من المسائل " ا. هـ.
وقال الشوكاني (ت 1255 هـ) بعد ذكره لدليل المانعين من الاعتداد بخلاف منكري القياس: ويجاب عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها، وتدبر آيات الكتاب العزيز، وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة، علم بأن نصوص الشريعة جمع جم،
(1) سورة النحل الآية 89
(2)
سورة الأنعام الآية 38
(3)
النبذ في أصل الفقه، لابن حزم ص 118.
(4)
الموافقات للشاطبي 4/ 189.
ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب، ولا سنة، ولا قياس مقبول (وتلك شكاة ظاهر عنك عارها). نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذاهب غيرهم من العمل بما لا دليل عليه البتة قليلة جدا " (1).
أما الأمر الثاني؛ وهو أن الظاهرية وافقهم في قولهم هذا كثير من أهل البدع.
فقد دفع ابن حزم هذا التراشق بأمرين؛ أحدهما: أنه لا يهمه من وافقه من أهل الباطل، فلا ينكر أن تقول اليهود لا إله إلا الله ويقولها هو.
وثانيهما: أنها لا تخلو كلمة حق أو باطل يذهب إليها غيره من آخذ بها من أهل الباطل، فالأخذ بالقياس قال به بعض المعتزلة، والأزارقة، وأحمد بن حابط، ولكل هؤلاء من شنيع الأقوال ما هو كفر (2).
أما الأمر الثالث؛ وهو أن القياس قد دل عليه (الدليل القاطع)، فإنكار الظاهرية له إنكار لأمر معلوم من الدين بالضرورة، فخالفوا بذلك صريح العقول، وصحيح المنقول.
(1) إرشاد الفحول ص 72.
(2)
تحرير بعض المسائل على مذهب الأصحاب ص 52.
فهو محل النزاع بين الظاهرية وغيرهم، وقد أطال الظاهرية في نقاش هذه الأدلة التي استدل بها القائلون بصحة القياس (1).
إضافة إلى أن (الدليل القاطع) إن سلم به، فإنما هو قد دل على أصل القياس، وصحة الاستدلال بجنسه. لا على صور آحاده؛ فإنها باتفاق ظنية، ما عدا بعض الصور التي قال بعض العلماء بأن القياس فيها قطعي؛ كالقياس الأولوي على نزاع في تسميته قياسا.
وبذلك يتبين فساد المقدمات التي بنى عليها أصحاب هذا القول نتيجتها؛ وهو عدم الاعتداد بخلاف الظاهرية. فإذا سقطت المقدمات سقطت النتيجة المترتبة عليها. وعليه يتبين ضعف هذا القول - والله أعلم -.
واستدل أصحاب القول الثاني (القائلون باعتبار خلاف الظاهرية مطلقا) بأدلة متعددة، وسأسوق أولا عباراتهم؛ فمنها:
- أن ما تفردوا به هو من قبيل مخالفة الإجماع الظني، وتندر مخالفتهم لإجماع قطعي (2).
- قال الصنعاني (ت 1182 هـ)(3): إن الظاهرية لم يخالفوا في المسائل المجمع عليها؛ لأن التحقيق أنه لم يقم الدليل إلا
(1) انظر مثلا: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2/ 761 وما بعده.
(2)
سير أعلام النبلاء 13/ 104.
(3)
العدة شرح إحكام الأحكام، للصنعاني 1/ 140 - بتصرف يسير -.
على حجية الإجماع القولي، وقد كذب من ادعاه إلا في المسائل الضرورية - كما قال الإمام أحمد -.
فإذا حققت فالحق أن دعوى الإجماع طريقة القاصرين، إذا أعيتهم الأدلة ادعوه على منازعهم، ولا يليق ذلك بأئمة التحقيق، فليس العمدة إلا الدليل من الكتاب والسنة أو قياس في معنى الأصل، فإذا قام الدليل فلا ينظر إلى التنقيش قال به قائل أو لا؟، فلا وحشة مع الدليل، ولا ناظر بعد وجوده إلى قال ولا قائل ولا قيل، والله يقول الحق ويهدي السبيل.
- أن هؤلاء المخالفين في القياس كلا أو بعضا، هم بعض الأمة، فلا بد من الاعتداد بخلافهم (1).
- أنه لم يذكر أحد من العلماء أن من شرط المجتهد المعتبر قوله أن يكون من أهل القياس القائلين به.
- أن قول الظاهرية اجتهاد منهم، ومن لم يعتد بخلافهم كان هذا اجتهادا منه فكيف يرد اجتهاد بمثله (2).
- أن داود الظاهري كان يقرئ مذهبه، ويناظر عليه، ويفتي به في مثل بغداد، وكثرة الأئمة بها وبغيرها، فلم نراهم قاموا عليه، ولا أنكروا فتاويه ولا تدريسه، ولا سعوا في منعه من بثه (3).
(1) إرشاد الفحول ص 210.
(2)
سير أعلام النبلاء 13/ 105، ونقله عنه الصفدي في (الوافي 13/ 474).
(3)
سير أعلام النبلاء 13/ 105. ثم ذكر أمثلة لبعض العلماء الذين عاصروا داود.
- أنهم وإن جاء عنهم مسائل غريبة، فإنهم علماء مجتهدون، وقد صدر من كثير من العلماء مسائل تخالف الإجماع، وإنما تحكى للتعجب؛ كقول ابن عباس في المتعة، والصرف، وإنكار العول (1).
- أن كثيرا من الأئمة المصنفين أوردوا خلاف الظاهرية في كتبهم، مما يدل على اعتبارهم له، فلولا اعتدادهم بخلافهم لما أوردوا مذاهبهم في مصنفاتهم، لمنافاة موضوعها لذلك (2).
- أننا ما اعتددنا بخلافهم لأن مفرداتهم حجة، بل لتحكى في الجملة، وبعضها سائغ، وبعضها قوي، وبعضها ساقط (3).
- أنه يلزم القائل بعدم الاعتبار بخلاف الظاهرية في الإجماع يلزمه أن لا يعتبر خلاف منكر العموم، وخبر الواحد، ولا ذاهب إليه (4).
- أن خلاف الظاهرية معتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل، ويمنع العموم، ومن حمل الأمر على الوجوب؛ لأن مدار الفقه على هذه الطرق (5).
- أن عدم الاعتداد بخلاف الظاهرية غير صحيح؛ لأنه إن كان نفيا للوجود فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان، وإن قيل: إن
(1) سير أعلام النبلاء 13/ 105 - 106.
(2)
فتاوى ابن الصلاح ص 68.
(3)
سير أعلام النبلاء 13/ 104.
(4)
البحر المحيط 4/ 472، نقلا عن الأصفهاني شارح (المحصول).
(5)
البحر المحيط 4/ 472، نقلا عن القاضي عبد الوهاب في (الملخص).
الله أمر بعدم سماعه، أو رسوله أمر بذلك فهذا شر من الأول لأنه كذب على الله ورسوله.
مما تقدم يتبين أن الحديث في قبول خلاف الظاهرية ما ادعي فيه الإجماع مقبول وأنه مانع من انعقاد الإجماع لأمور:
أ - منع صحة الإجماع شرعا، وعقلا في المسائل التي خالف فيها الظاهرية (1).
ب - وعلى فرض صحة الإجماع قبل خلافهم، فإنه يمنع من الوقوع؛ لأن الوقائع التي ادعي فيها خلاف الظاهرية للإجماع، إنما هو خلاف ظني (2).
ج - أن إنكارهم للقياس لا يعني خروجهم من دائرة العلماء؛ لأنهم مجتهدون توفرت فيهم جميع أدوات الاجتهاد - ولم يذكر أحد من العلماء أن من شروط المجتهد أن يكون عاملا بالقياس في المسألة المجتهد فيها -، كما أنه يلزم من عدم الاعتداد بخلافهم عدم الاعتداد بخلاف منكري حديث الآحاد - مطلقا أو في وقائع معينة - ومنكري العمل بالحديث المرسل، ومن يرى نسخ القرآن بالسنة، ومنكري العموم، وغير ذلك من صور عدم العمل ببعض آحاد الأدلة المتفق
(1) وقد أطال ابن حزم في (الإحكام 2/ 494 - 506) النفس في تقرير هذا الأصل، فيراجع.
(2)
قاله الذهبي في (السير 13/ 104)، والصنعاني في (العدة شرح إحكام الأحكام 1/ 140) وتقدم نقله.
عليها من الكتاب والسنة.
د - (القلب للدليل) وهو أن الإجماع منعقد على قبول خلاف الظاهرية؛ لأن داود الظاهري أظهر قوله في عصره وكذا تلامذته من بعده وحكى خلافهم أهل العلم في كتبهم، ولم يرو عن أحد معاصريه أنه أنكر خلافه ولم يعتد به.
واستدل أصحاب القول الثالث (وهم القائلون بقبول خلافهم في المسائل غير القياسية، وأما القياسية فلا يعتد بخلافهم) بأدلة منها:
أن المسألة إن كانت مما يتعلق بالآثار والتوقيف واللفظ اللغوي، ولا مخالف للقياس فيها، لم يصح أن ينعقد الإجماع بدونهم - إلا على رأي من يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ -.
فإن قلنا بالتجزؤ، لم يمنع أن يقع النظر في فرع هم فيه محقون، كما نعتبر خلاف المتكلم في المسألة الكلامية؛ لأن له فيه مدخلا، كذلك أهل الظاهر في غير المسائل القياسية يعتد بخلافهم (1).
ويظهر بتأمل هذا القول أنه عائد في الحقيقة إلى القول الأول القائل بعدم الاعتداد بخلاف الظاهرية؛ لأن جل المسائل إنما هي قياسية؛ كما قال إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ)(2):
(1) البحر المحيط 4/ 473، نقلا عن الأبياري.
(2)
البرهان، للجويني 2/ 818.
" إن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة ".
كما أن في التفريق بين المسائل التي يدخلها القياس والتي لا يدخلها القياس خلافا بين العلماء؛ فمثلا مسائل الحدود، والكفارات، والعبادات فإن بين القائسين خلافا في جريان القياس فيها من عدمه.
إضافة لذلك فإن هذا التفريق هو محل النزاع؛ فإن الظاهرية يرون أن جميع هذه المسائل ليست قياسية؛ فيكون قولهم معتبرا.
واستدل أصحاب القول الرابع (وهم القائلون باعتبار خلافهم فيما خالف القياس الخفي، دون ما خالف القياس الجلي) بأدلة منها:
أن خلاف الظاهرية فيما خالف القياس الخفي معتبر؛ لما سبق في أدلة القول الثاني.
أما خلافهم فيما خالف القياس الجلي فهو غير معتد به؛ لكونه مبنيا على ما يقطع ببطلانه، والاجتهاد الواقع على خلاف الدليل القاطع كاجتهاد من ليس من أهل الاجتهاد في إنزالهما بمنزلة ما لا يعتد به، وينقض الحكم به (1).
ولأنه يجوز تبعيض الاجتهاد؛ بمعنى أن يكون العالم مجتهدا في
(1) فتاوى ابن الصلاح ص 69.
نوع دون غيره، فكذلك الظاهرية يعتبر قولهم فيما عدا ما خالفوا القياس الجلي (1).
ولأن المسائل التي خالفوا فيها القياس الجلي، وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه، أو بنوه على أصولهم التي قام الدليل القاطع على بطلانها باتفاق من سواهم على خلافه، إجماع منعقد. وقولهم حينئذ خارج من الإجماع؛ كقولهم في التغوط في الماء الراكدة؛ وقولهم: لا ربا إلا في الستة المنصوص عليها.
فخلافهم في هذا، وشبهه غير معتد به؛ لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه، والاجتهاد على خلاف الدليل القاطع مردود، وينتقض حكم الحاكم به (2).
ويعرض على تفريقهم بين القياس الجلي، والقياس الخفي في الاعتداد بخلاف الظاهرية في الثاني دون الأول. أن يقال لهم:
أ - إن تقسيم القياس إلى جلي وخفي - بحسب تقسيم الشافعية - إنما هو تقسيم لما يطلق عليه القياس، لا القياس الشرعي المعرف بين الأصوليين، والذي فيه نزاع الظاهرية.
فإن الجمع بنفي الفارق - وهو القياس الخفي - ليس من
(1) فتاوى ابن الصلاح ص 69.
(2)
تهذيب الأسماء واللغات للنووي 1/ 184.
حقيقة القياس (1).
فعاد هذا القول للقول الأول، وهو نفي الاعتداد بخلاف الظاهرية مطلقا، فيكون القول فيهما واحدا.
ب - كذلك فإنه يقال: إما أن يعمم عدم الاعتداد بخلاف من خالف قول الأكثر في القياس الجلي سواء كان من أهل القياس، أم لا. أو أن يخص بأهل الظاهر فقط.
فإن قيل بالأول وهو أن كل من خالف في القياس الجلي لم يقبل قوله، ولا يعتد بخلافه، فهذا يؤدي إلى القول بقطعية هذا القياس، وفيه نظر؛ بدليل خلاف بعض القياسيين فيه.
وإن قيل بتخصيص منكري القياس فقط. ففيه تحكم؛ لأنه ربما خالف في هذه المسألة التي يدعي أن القياس فيها جلي غير الظاهرية ممن يعمل القياس؛ فيكون القائل هذا القول قد أهمل خلاف الظاهري، وأعمل خلاف غيره في مسألة واحدة، وهو تحكم.
مثال ذلك: ما ذكره أصحاب هذا القول من التمثيل للمسائل التي خالف فيها الظاهرية القياس الجلي؛ بأن الظاهرية يقولون: " بأن الربا لا يجري إلا في الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث فقط، ولا يتعداها لغيره ".
(1) تيسير التحرير لأمير بادشاه 4/ 77.