الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: شرح ما نقل عن الإمام مالك في الاستواء:
روى أبو الشيخ الأصبهاني بسنده عن محمد بن النعمان بن عبد السلام قال: (أتى رجل مالك بن أنس فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) كيف استوى؟ قال فأطرق وجعل يعرق وجعلنا ننتظر ما يأمر به فرفع رأسه فقال: الاستواء منه غير مجهول والكيف منه غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. . .) (2)، هذا الأثر ثابت عن الإمام مالك وقد روي عنه مرق طرق متعددة، وتلقاه أهل العلم بالقبول ونال استحسانهم وثناءهم عليه وهو موافق لعقيدة أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقول مالك من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشده استيعابا؟ لأن فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعقول وقد ائتم أهل العلم بقوله واستجودوه واستحسنوه)(3).
ومراد الإمام مالك بقوله: الاستواء منه غير مجهول: أن معنى الاستواء معلوم في اللغة وهو العلو، وبهذا فسر أهل العلم من الأئمة
(1) سورة طه الآية 5
(2)
طبقات المحدثين بأصبهان 2/ 214.
(3)
الفتاوى 5/ 520.
المالكية وغيرهم مراد الإمام مالك والأئمة المالكية أدرى الناس بمراد مالك وأعرف بأقواله من غيرهم ومن هؤلاء:
1 -
أبو بكر ابن العربي قال: (ومذهب مالك رحمه الله أن كل حديث منها معلوم المعنى ولذلك قال للذي سأله: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة)(1).
2 -
والقرطبي في تفسيره قال: قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم- يعني في اللغة- والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، ثم قال القرطبي: والاستواء في كلام العرب هو العلو والاستقرار (2).
3 -
قال الذهبي: (هذا ثابت عن مالك وتقدم نحوه عن ربيعة، شيخ مالك وهو قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها بل نجهلها وأن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه وأنه كما يليق به)(3).
(1) عارضة الأحوذي 3/ 166.
(2)
تفسير القرطبي 7/ 141، سورة الأعراف، الآية 54.
(3)
العلو للذهبي 104.
وأما القول بأن مراد الإمام مالك: أنه موجود فقد أخبر عنه في القرآن (1) فهذا باطل قطعا:
1 -
لأن السائل إنما سأل عن آية من القرآن فهو يعلم بوجود الاستواء وأنه قد ذكر في القرآن.
2 -
وأيضا السائل يسأل عن الكيفية لأن هذه الصيغة (كيف استوى) إنما يسأل بها عن الكيف.
3 -
أن الأئمة المالكية وهم أدرى الناس بمراد مالك وأعرف بأقواله من غيرهم قد بينوا مراد الإمام مالك أنه معلوم المعنى في اللغة كما سبق.
ومراده بقوله: والكيف منه غير معقول: أي كيفية الاستواء لا نستطيع أن نصفها بعقولنا، وصفات الله عز وجل عند أهل السنة لها كيفية لكنهم يجهلون هذه الكيفية، وأقوال أهل العلم في بيان أن الصفات لها كيفية وأنها مجهولة عندهم كثيرة:
1 -
قال ابن خزيمة:
نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب من غير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى لم يصف لنا كيفية نزول خالقنا إلى سماء الدنيا وأعلمنا أنه ينزل، والله جل وعلا لم يترك ولا نبيه عليه السلام بيان ما بالمسلمين الحاجة إليه من أمر دينهم فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية إذ النبي
(1) انظر: العلو للذهبي ت حسن السقاف 381، هامش 670.
صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول (1).
2 -
قال أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي في قصيدته في السنة:
وأن استواء الرب يعقل كونه
…
ويجهل فيه الكيف جهل الشهارب (2)
3 -
قال القرطبي: ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته (3).
فهذه أقوال صريحة وألفاظ بينة في أنهم يثبتون للصفات كيفية، وهذه الكيفية مجهولة عندهم، وما يروى عن بعض أهل السنة من قولهم: بلا كيف، أو الكيف مرفوع، فمرادهم نفي تكييف البشر لصفات الله تعالى ووصفهم لكيفية صفاته جل وعلا، وليس مرادهم نفي أن تكون لصفات الله كيفية.
قال ابن القيم: (العقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله وهذا معنى قول السلف بلا كيف أي: بلا كيف يعقله البشر فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته
(1) التوحيد لابن خزيمة 1/ 289، 290.
(2)
العلو للذهبي 191، طبقات الشافعية للسبكي 6/ 137 - 147.
(3)
تفسير القرطبي 7/ 140، 141.
كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته ولا يقدح ذلك في الإيمان بها ومعرفة معانيها فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر ولا نعرف حقيقة كيفيته مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم) (1).
ومراده بقوله: والإيمان به واجب (أي أن الإيمان بالاستواء على هذا الوجه واجب؛ لأن الله تعالى أخبر به عن نفسه وهو أعلم بنفسه وأصدق قولا وأحسن حديثا فاجتمع في خبره كمال العلم وكمال الصدق وكمال الإرادة وكمال الفصاحة والبيان فوجب قبوله والإيمان به)(2).
ومراده بقوله: والسؤال عنه بدعة، مراده لا يخرج عن ثلاثة أمور:
1 -
أن السؤال عن المعنى بدعة.
2 -
أو السؤال عن وجود الاستواء بدعة.
3 -
أو السؤال عن الكيف بدعة.
ولا يمكن أن يريد الأول لأن السؤال عن معاني الصفات ليس بدعة، وقد فسر أهل العلم كثيرا من معاني الصفات مثل: القيوم والصمد وغيرها، ولا يزال الناس من أهل العلم وغيرهم يوضحون
(1) مدارج السالكين 3/ 376.
(2)
تقريب التدمرية 42.
معاني الصفات، فلا يمكن لأحد أن يقول إن السؤال عن معاني الصفات بدعة، ولا يمكن أيضا أن يريد أن السؤال عن وجوده بدعة؛ لأن وجود الاستواء ثابت في القرآن ومن سأل عن وجود شيء في القرآن مثل مجيء الله أو رحمته أو رؤيته في الآخرة لا يقال له: سؤالك بدعة.
فإذا تبين أن الإمام مالكا لم يرد السؤال عن المعنى ولا السؤال عن وجود الاستواء تعين أنه يريد به السؤال عن كيفية الاستواء، وكون السؤال عن الكيفية بدعة؛ لأن السؤال عنها لم يعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين وهو من الأمور الدينية فكان إيراده بدعة، ولأن السؤال عن مثل ذلك من سمات أهل البدع، ثم إن السؤال عنه مما لا تمكن الإجابة عليه فهو من التنطع في الدين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«هلك المتنطعون (1)» .
فبهذا يتضح أن مراد مالك أن الاستواء معلوم معناه في اللغة وكيفيته مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عن كيفيته بدعة وما رواه البيهقي عن مالك من قوله: ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع (2)، فهذا خلاف اللفظ الثابت عنه من طرق عديدة وهو:(والكيف منه غير معقول)(3) وخلاف ما نقله عنه الأئمة المالكية كابن
(1) تقريب التدمرية 42.
(2)
الأسماء والصفات 515.
(3)
انظر: المراجع السابقة في تخريج هذا الأثر.