الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أول مرة، لذلك كان المحدث يجد صعوبة ومشقة في حفظها.
قال الإمام عبد الرحمن بن مهدي: سأل رجل سليمان بن المغيرة - المتوفى سنة خمس وستين ومائة-: (كيف سمعت هذه الأحاديث الطوال)؟. قال: كنت أخوض فيها الرداغ).
قال الإمام أحمد: (هذه الأحاديث الطوال إنما كان سليمان بن المغيرة يحفظها، ولم تكن عنده في كتاب)(1).
وكان بعض المحدثين إذا كان الحديث طويلا ولم يمكنه أن يحفظه في مجلس واحد قسمه إلى مجلسين، ليتمكن من حفظه.
قال مطرف: (كان قتادة إذا سمع الحديث يختطفه اختطافا. . . إلى أن قال: وإن كان الحديث طويلا، بحيث لا يمكن حفظه في مجلس واحد حفظ نصفه، ثم عاد في مجلس آخر فحفظ بقيته)(2).
وهكذا كان تلاميذ قتادة ينهجون هذا المنهج.
(1) العلل ومعرفة الرجال: 2/ 311
(2)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/ 235.
المبحث الرابع: طريقتهم في التحديث:
من الأساليب التي كانوا يتبعونها للحفاظ على السنة النبوية
أنهم كانوا إذا حدثوا أحدا حدثوا بالعدد القليل من أجل أن يكون التلميذ أقدر على حفظ الحديث بحروفه؛ لأن العدد القليل، كما هو معروف، يسهل على الإنسان حفظه، كما أن المحدث عندما يحدث بالقليل يكون التلميذ في شوق إلى المزيد.
قال شعبة: (كنت آتي قتادة فأسأله عن حديثين، فيحدثني، ثم يقول: أزيدك؟ فأقول: لا! حتى أحفظهما وأتقنهما)(1) وقال أبو بكر بن عياش: (كان الأعمش إذا حدث بثلاثة أحاديث قال: قد جاءكم السيل. قال أبو بكر: وأنا اليوم مثل الأعمش)(2).
وكان يسير على هذا المنهج الإمام الثقة أبو قلابة البصري، المتوفى سنة أربع ومائة، والإمام الحجة أبو الوليد هشام بن عبد الملك الباهلي البصري، المتوفى سنة سبع وعشرين ومائتين (3).
قال الحسن بن المثنى: (كان أبو الوليد يحدثنا بثلاثة أحاديث إذا صرنا إليه، لا يزيدنا على ثلاثة أحاديث)(4).
وقد حذر غير واحد من أهل العلم من أخذ العلم جملة؛ لأنه سرعان ما ينسى.
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/ 232.
(2)
المحدث الفاصل: ص 583.
(3)
المحدث الفاصل: ص 583.
(4)
المحدث الفاصل: ص 583.
قال الإمام الزهري:
(من طلب العلم جملة، فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان)(1).
وقد وصلت الأمانة عندهم منزلة لا يصل إليها إلا من كان مثلهم في التقى والورع، إذ كان أحدهم إذا شك في حديث ما من مجموعة أحاديث مكتوبة في صحيفته، ولم يتبين له الحديث الذي شك فيه، فإنه في هذه الحالة يترك جميع ما رواه عن ذلك الشيخ في تلك الصحيفة.
وقد سلك هذا المنهج غير واحد من المحدثين، فمن ذلك:
الإمام الثقة الحجة الخبير في الرجال والحديث عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد البصري المتوفى سنة ثمان وتسعين ومائة.
قال رحمه الله: (وجدت في كتبي بخط يدي عن شعبة ما لم أعرفه وطرحته)(2).
وقال أيضا: (خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم والحديث)(3) أي لا بد من الجزم فيهما.
وقال الإمام يحيى بن معين المتوفى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين:
(1) الجامع- لأخلاق الراوي وآداب السامع: 1/ 232.
(2)
الكفاية ص 233
(3)
الكفاية ص 233.
(من لم يكن سمحا في الحديث كان كذابا. قيل له: وكيف يكون سمحا؟ قال: إذا شك في حديث ما تركه)(1).
وكان الإمام مالك ممن يتبع هذا المنهج.
قال الإمام الشافعي: (كان مالك إذا شك في شيء من الحديث تركه كله)(2).
قال الإمام المتقن أمير المؤمنين في الحديث شعبة بن الحجاج الواسطي ثم البصري المتوفى سنة ستين ومائة: (وجدت مذ ثلاثة أيام في كتاب عندي عن منصور عن مجاهد قال: لم يحتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم. قال: ما أدري كيف كتبته، ولا أذكر أني سمعته)(3).
وهذا الإمام الحافظ علي بن الحسن الشقيقي المروزي، المتوفى سنة خمس عشرة ومائتين، يترك أحاديث كتاب الصلاة كلها من أجل حديث واحد.
قال الحسين بن حريث المروزي: سألت علي بن الحسن الشقيقي هل سمعت كتاب الصلاة عن أبي حمزة؟ (4).
(1) الكفاية ص 233.
(2)
الكفاية ص 234، وترجمة الشافعى 199
(3)
الكفاية ص 233
(4)
هو محمد بن ميمون المروزي أبو حمزة السكري ثقة فاضل، مات سنة سبع وستين أو ثمان وستين ومائة.
قال: الكتاب كله إلا أنه نهق الحمار يوما فخفي علي حديث أو بعض حديث، ثم نسيت أي حديث كان من الكتاب، فتركت الكتاب كله (1).
بل توصل الأمر لدى بعضهم أنه إذا شك في كلمة من الحديث ترك الحديث كله، والبعض الآخر كان يقول: كذا أو كذا، إشارة إلى تردده.
فهذه الدقة وهذه الأمانة لا نجدها عند أحد إلا عند علماء هذه الأمة وخاصة محدثيها.
قال يحيى بن سعيد القطان: (الأمانة في الذهب والفضة أيسر من الأمانة في الحديث إنما هي تأدية، إنما هي أمانة)(2).
قال الحافظ الخطيب: (إذا شك في حديث واحد بعينه أنه سمعه وجب عليه اطراحه، وجاز له رواية ما في الكتاب سواه، وإن كان الحديث الذي شك فيه لا يعرفه بعينه لم يجز له التحديث بشيء مما في ذلك الكتاب)(3).
فأي أمانة بلغها هؤلاء الأئمة الذين فاقوا ما يتصوره العقل البشري، فرحمة الله عليهم ورضي عنهم، وجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
(1) الكفاية ص 234.
(2)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 202.
(3)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 202.