الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحق لملائكة الرحمن أن تخضع وتذل وتخشع لربها، وهي من عرفت عظمة الرب عز وجل جلاله. {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (1).
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - أن الآية أخبرت عن حال من أحوال الملائكة في تعظيم الله عز وجل، وهو السجود له، وفي سجود النبي صلى الله عليه وسلم عند هذه الآية حض للمؤمنين على التخلق بأخلاق الملائكة ومنه السجود لله جل جلاله.
(1) سورة الأعراف الآية 206
المبحث الثاني: قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (1).
مناسبة الآية لما قبلها: في الوقت الذي يتخذ الكافرون آلهة من دون الله، يتوجهون إليهم بالرجاء والدعاء كما قال تعالى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} (2). إذ كل من في الكون خاضعون لله، وكلهم محكومون بإرادته، مسيرون وفق مشيئته، المؤمن منهم يخضع طاعة
(1) سورة الرعد الآية 15
(2)
سورة الرعد الآية 14
وإيمانا، وغير المؤمن يخضع أخذا وإرغاما، فما يملك أحد أن يخرج عن إرادة الله، ولا أن يخالف مشيئته (1).
وللمفسرين في معنى السجود في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (2) قولان:
الأول: السجود حقيقة، وهو وضع الجبهة على الأرض، وعلى هذا القول يكون المعنى:
أ- أن المؤمن يسجد طوعا، وبعض الكفار يسجدون إكراها وخوفا كالمنافقين.
ب- وقيل: الآية في المؤمنين، منهم من يسجد طوعا لا يثقل عليه السجود، ومنهم من يثقل عليه السجود؛ لأن التزام التكليف مشقة، ولكنهم يتحملون المشقة إخلاصا وإيمانا.
الثاني: أن السجود بمعنى الخضوع والانقياد. وعلى هذا يكون المعنى:
أن المؤمن يسجد ببدنه طوعا، ويسجد خضوعا وانقيادا وطاعة لسنن الله وإرادته الكونية، والكافر يسجد إرغاما وكرها خضوعا لسنن الله وإرادته الكونية، حيث إنه كافر لا يؤمن بالله العظيم (3). وهذا المعنى هو الأقرب. والله أعلم (4).
(1) انظر: في ظلال القرآن، لسيد قطب 4/ 2052.
(2)
سورة الرعد الآية 15
(3)
انظر: التفسير الكبير للرازي 19/ 30، 29، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 9/ 302.
(4)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 9/ 302.
وفي قوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1)
من الملائكة والثقلين كما يقتضيه ظاهر التعبير بمن التي تختص بالعقلاء مع كون غيرهم أيضا كذلك، لأنهم العمدة، وانقيادهم دليل على انقياد غيرهم، والتعبير بمن للتغليب (2).
{وَظِلَالُهُمْ} (3) أي وتسجد ظلالهم، جمع ظل، وهو ما ستره الشيء عن شعاع الشمس، يقصر مرة ويمتد أخرى (4).
وسجود الظلال له معنيان:
الأول: السجود حقيقة، بمعنى الميلان والانحناء (5). كما في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (6). قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره (7). قال ابن الأنباري: يجعل للظلال عقول تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهام حتى خاطبت وخوطبت (8).
(1) سورة الرعد الآية 15
(2)
انظر: روح المعاني للألوسي 13/ 126.
(3)
سورة الرعد الآية 15
(4)
انظر غرائب التفسيرات للكرماني 1/ 565.
(5)
انظر: معاني القرآن للفراء 2/ 61، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 9/ 302.
(6)
سورة النحل الآية 48
(7)
تفسير الطبري 16/ 404.
(8)
الجامع لأحكام القرآن 9/ 302. وفتح القدير للشوكاني 3/ 73.
الثاني: سجود الانقياد والخضوع لمشيئة الله وسننه ونوامسه الكونية (1) وكلا المعنيين صحيح.
والغدو: أول النهار (2). والآصال: جمع أصل، والأصيل: هو العشي، وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس (3).
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - أن يضع المسلم نفسه مع من يسجد لله طوعا باختياره بإيقاع السجود لله تعالى، وهو اعتراف بالفعل بعبودية الله عز وجل (4).
(1) انظر: الكشاف للزمخشري 2/ 284.
(2)
مفردات ألفاظ القرآن 603.
(3)
تفسير الطبري 16/ 405.
(4)
انظر: تفسير التحرير والتنوير 13/ 113.
المبحث الثالث: قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُون} (1){وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (2){يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (3).
صلة الآيات لما قبلها: لما ذكر الله عز وجل حال الذين مكروا السيئات في صدودهم عن ربهم وإعراضهم عنه وعدم
(1) سورة النحل الآية 48
(2)
سورة النحل الآية 49
(3)
سورة النحل الآية 50
طاعتهم له مع قدرته عليهم، لكنه أمهلهم رحمة بهم، ذكر عز وجل حال الجمادات والدواب في عبادتها لربها وحال الملائكة في خوفهم من ربهم وطاعتهم له وشتان بين الحالين (1).
قرأ حمزة والكسائي وخلف: {أَوَلَمْ يَرَوْا} (2) بالتاء، على أنه خطاب لجميع الناس. وقرأ عامة قراء الحجاز والمدينة والبصرة {أَوَلَمْ يَرَوْا} (3) بالياء، على الخبر عن اللذين مكروا السيئات (4).
وفي الآية لفت الأنظار إلى ما خلق الله من كل شيء، يتفيأ ظلاله، أي ترجع وتتمايل ظلاله من حال إلى حال، فهو أول النهار على حال، ثم يتقلص، ويعود إلى حال أخرى في آخر النهار (5). وهذه الظلال تتمايل عن اليمين والشمال، قال قتادة: أما اليمين: فأول النهار. وأما الشمال: فآخر النهار (6). وقيل عن اليمين والشمائل: أن جهات اليمين وجهات الشمائل مقصود به إيضاح الحالة العجيبة للظل إذ يكون عن يمين الشخص مرة وعن شماله
(1) انظر: تفسير الطبري 14/ 114، ونظم الدرر للبقاعي 11/ 172.
(2)
سورة النحل الآية 48
(3)
سورة النحل الآية 48
(4)
انظر: تفسير الطبري 14/ 114، ورجح القراءة بالياء، والجامع لأحكام القرآن 10/ 111.
(5)
انظر: تفسير الطبري 4/ 114، ومفردات ألفاظ القرآن 650.
(6)
تفسير الطبري 4/ 115.
أخرى، أي إذا استقبل جهة ما ثم استدبرها، وليس المراد خصوص اليمين والشمال، بل كذلك الأمام والخلف، فاختصر الكلام (1).
وإفراد اليمين وجمع الشمال تفنن في الكلام (2)، وكانت العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله تعالى:{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (3) وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} (4). ويمكن أن يقال وحد اليمين والمراد الجمع ولكنه اقتصر على الواحد كقوله تعالى: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (5)(6).
وفي قوله تعالى: {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} (7)، قد مر في الآية التي قبلها سجود الظلال وكيف هو، والدخور: الصغار والذل، يقال: أدخرته فدخر، أي أذللته فذل (8).
(1) تفسير التحرير والتنوير 14/ 169. وانظر: غرائب التفسير للكرماني 1/ 606.
(2)
انظر: تفسير التحرير والتنوير 14/ 169.
(3)
سورة الأنعام الآية 1
(4)
سورة البقرة الآية 7
(5)
سورة القمر الآية 45
(6)
انظر: التفسير الكبير للرازي 20/ 42، 41.
(7)
سورة النحل الآية 48
(8)
انظر: الجامع لأحكام القرآن 10/ 111، ومفردات ألفاظ القرآن 309.
وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (1).
الدابة: اسم لما دب ومشى على الأرض (2). كقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} (3)، قال الراغب الأصفهاني: والأولى إجراؤها على العموم (4). وسجود الملائكة مر معنا في سورة الأعراف عند الآية [206].
قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (5). خوف إجلال وكبرياء لله عز وجل، وكلما كانت معرفة الله تعالى أتم، كان الخوف منه أعظم كما قال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (6).
وفي الحديث: «أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له (7)» . وهذا من كمال معرفته صلى الله عليه وسلم بربه عز وجل.
(1) سورة النحل الآية 49
(2)
انظر: لسان العرب 2/ 1312، مادة دبب.
(3)
سورة فاطر الآية 45
(4)
مفردات ألفاظ القرآن 306، وانظر: الكشاف للزمخشري 2/ 331.
(5)
سورة النحل الآية 50
(6)
سورة فاطر الآية 28
(7)
فتح الباري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح 9/ 104، ومسلم، كتاب الصيام، الحديث 74، 2/ 779.
وفي سنن الدرامي أن موسى عليه السلام قال: يا رب أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي (1).
وفي قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (2) إثبات لصفة العلو لله عز وجل.
كقوله تعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} (3){تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (4) الآية.
وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (5) الآية.
قال ابن خزيمة رحمه الله: باب ذكر سنن النبي صلى الله عليه وسلم المثبتة أن الله جل وعلا فوق كل شيء، وأنه في السماء، كما أعلمنا في وحيه، وعلى لسان نبيه، إذ لا تكون سنته أبدا المنقولة عنه بنقل العدل عن العدل موصولا إليه إلا موافقة لكتاب الله لا مخالفة له (6).
قوله: ويفعلون ما يؤمرون وهذا من كمال طاعة ملائكة الله الكرام لربها عز وجل.
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - أن المؤمن يسجد
(1) سنن الدرامي، المقدمة، باب التوبيخ لمن يطلب العلم لغير الله 1/ 102.
(2)
سورة النحل الآية 50
(3)
سورة المعارج الآية 3
(4)
سورة المعارج الآية 4
(5)
سورة الملك الآية 16
(6)
كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل 1/ 265. وانظر: تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل 6/ 114.
عند هذه الآية تأسيا بملائكة الله الكرام، ومشابهة لمن يسجد لله عز وجل في هذا الكون الفسيح اعترافا بأحقيته وقهره عز وجل (1).
(1) انظر: تفسير التحرير والتنوير 14/ 171.
المبحث الرابع: قال الله عز وجل: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} (1){وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} (2){وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (3).
صلة الآية بما قبلها: يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المعاندين المكذبين من كفار مكة ممن طلبوا الآيات والمعجزات حتى يؤمنوا وهم يرون هذا الكتاب الحق وما فيه من الحق الذي لا يمارون فيه، قل لهم على سبيل التهديد والوعيد والاستغناء عنهم وعن إيمانهم {آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا} (4) فإن الذين أوتوا العلم بالله وآياته من قبل نزوله من مؤمني أهل الكتابين، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يخرون تعظيما له وتكريما (5).
والهاء في قوله {مِنْ قَبْلِهِ} (6) يعود على القرآن، والذين
(1) سورة الإسراء الآية 107
(2)
سورة الإسراء الآية 108
(3)
سورة الإسراء الآية 109
(4)
سورة الإسراء الآية 107
(5)
انظر: تفسير الطبري 15/ 180، وفتح القدير 3/ 264.
(6)
سورة الإسراء الآية 107
أوتوا العلم من قبل نزول القرآن هم مؤمنوا أهل الكتاب ممن آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم من مثل ورقة بن نوفل، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي. . وغيرهم.
ووصف الله عز وجل حال المؤمنين بالقرآن الكريم من مؤمني أهل الكتاب وسرعة استجابتهم وتأثرهم بالقرآن بقوله: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (1) والخرير: سقوط يسمع منه صوت (2) قال ابن الجوزي: اللام ها هنا بمعنى (على). قال ابن عباس: قوله: {لِلأَذْقَانِ} (3) أي للوجوه (4) قال الزجاج: الذي يخر وهو قائم. إنما يخر
(1) سورة الإسراء الآية 107
(2)
انظر: مفردات ألفاظ القرآن 277.
(3)
سورة الإسراء الآية 107
(4)
انظر: تفسير الطبري 15/ 180، والدر المنثور للسيوطي 5/ 346.
لوجهه، والذقن: مجتمع اللحيين، وهو عضو من أعضاء الوجه، فإذا ابتدأ يخر، فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض الذقن. وقال ابن الأنباري: أول ما يلقى الأرض من الذي يخر قبل أن يصوب جبهته ذقنه، فلذلك قال:{لِلأَذْقَانِ} (1). ويجوز أن يكون المعنى: يخرون للوجوه، فاكتفى بالذقن من الوجه كما يكتفى بالبعض من الكل، وبالنوع من الجنس. أ. هـ (2).
ويقولون في هذا السجود: سبحن ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا وفيه تنزيه لله عز وجل وتعظيم له (3)، وفي قوله {إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} (4) أي بإنزال القرآن وبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن هؤلاء كانوا من أهل الكتاب؛ لأن الوعد ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم سبق في كتابهم فهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد.
وعطفت {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا} (5) على {وَيَخِرُّونَ} (6) للإشارة إلى أنهم يجمعون بين الفعل الدال على الخضوع، والقول الدال على التنزيه والتعظيم (7).
(1) سورة الإسراء الآية 107
(2)
زاد المسير 5/ 97، 98.
(3)
انظر: التفسير الكبير 21/ 69، وفتح التقدير 3/ 264.
(4)
سورة الإسراء الآية 108
(5)
سورة الإسراء الآية 108
(6)
سورة الإسراء الآية 109
(7)
تفسير التحرير والتنوير 15/ 234.
وقوله عز وجل: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} (1) كرر ذكر الخرور للأذقان لاختلاف السبب، فإن الأول: لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه. والثاني: للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم، ولهذا قال:{وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (2) أي سماع القرآن خشوعا أي لين قلب ورطوبة عين (3).
روى الدارمي والطبري عن أبي محمد عبد الأعلى التميمي قال: إن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه؛ لأن الله نعت العلماء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (4) الآيتين (5).
وقال القرطبي عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} (6) هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم. وحق لكل من توسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه المرتبة، فيخشع عند استماع القرآن ويتواضع ويذل (7).
والحكمة من السجود هنا - والله أعلم - اقتداء بأولئك الساجدين، بحيث لا يذكر المسلم سجود أهل الكتاب عند سماع
(1) سورة الإسراء الآية 109
(2)
سورة الإسراء الآية 109
(3)
فتح القدير 3/ 264.
(4)
سورة الإسراء الآية 107
(5)
سنن الدارمي، المقدمة باب من قال: العلم الخشية وتقوى الله 10/ 88. وتفسير الطبري 15/ 181 - 182.
(6)
سورة الإسراء الآية 107
(7)
الجامع لأحكام القرآن 10/ 341.
القرآن إلا وهو أولى بالسجود عند تلاوة القرآن (1)
(1) انظر تفسير التحرير والتنوير 15/ 235.
المبحث الخامس: قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1).
صلة الآية بما قبلها: لما ذكر الله عز وجل الأنبياء في هذه السورة وعددهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس عليهم السلام جميعا. وأثني على كل واحد منهم بما يخصه من الثناء، ثم جمعهم آخرا (2) فقال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} (3) فاسم الإشارة أولئك يشير إلى المذكورين في السورة الكريمة، وما فيه من معنى البعد للإشارة بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل (4).
وأنعم الله عليهم بنعمة لا تلحق، ومنة لا تسبق، من النبوة والرسالة.
(1) سورة مريم الآية 58
(2)
انظر التفسير الكبير 21/ 233، والتفسير الواضح، للدكتور حجازي 2/ 12
(3)
سورة مريم الآية 58
(4)
انظر: تفسير أبي السعود 5/ 271، وروح المعاني 16/ 107.
(5)
سورة مريم الآية 58
ومن في قوله: من النبيين للبيان؛ لأن جميع الأنبياء منعم عليهم، ومن الثانية للتبعيض، وكان إدريس من ذرية آدم، لقربه منه (1).
قال السدي في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} (2) قال: هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم. أما من ذرية آدم: فإدريس ونوح، وأما من حمل مع نوح: فإبراهيم، وأما ذرية إبراهيم: فإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب. وأما ذرية إسرائيل: فموسى وهارون وزكريا، ويحيى وعيسى (3).
وقوله تعالى: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} (4) أي وهم من جملة من هديناهم للحق والدين الصحيح، واجتبيناهم واصطفيناهم للنبوة والكرامة (5).
(1) انظر: البحر المحيط 7/ 276، 277. وتفسير القرآن العظيم 5/ 237. وأضواء البيان 4/ 305.
(2)
سورة مريم الآية 58
(3)
الدر المنثور، للسيوطي 5/ 525.
(4)
سورة مريم الآية 58
(5)
انظر: تفسير أبي السعود 5/ 271.
وقوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1)
تتلى عليهم أي على هؤلاء الأنبياء، فبين تعالى أنهم من نعم الله عليهم قد بلغوا الحد الذي عند تلاوة آيات الله عز وجل يخرون سجدا وبكيا خضوعا وخشوعا وحذرا وخوفا. والمراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة عليهم (2) وفي إضافة الآيات إلى اسمه: الرحمن دلالة على أن آياته من رحمته بعباده، وإحسانه إليهم حيث هداهم بها إلى الحق، وبصرهم من العمى، وأنقذهم من الضلالة، وعلمهم من الجهالة (3).
والبكي: جمع باك (4)؛ ولهذا ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد، ثم قال: هذا السجود فأين البكاء؟ (5).
والحكمة من السجود - والله أعلم - اقتداء بأولئك الأنبياء عليهم السلام حيث سجدوا عند تلاوة آيات الله التي أنزلت
(1) سورة مريم الآية 58
(2)
انظر: التفسير الكبير 21/ 234.
(3)
تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، 5/ 120.
(4)
انظر: تفسير الطبري 16/ 98، وتفسير القرآن العظيم 5/ 238.
(5)
تفسير الطبري 16/ 98، والتفسير المأثور عن عمر بن الخطاب 534.