الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليهم، ونحن نسجد اقتداء بهم عند تلاوة الآيات التي أنزلت إلينا، وأثنت على سجودهم قصدا للتشبه بهم (1)
(1) انظر: تفسير التحرير والتنوير 16/ 133، 134.
المبحث السادس: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (1).
صلة الآية بما قبلها: لما ذكر الله عز وجل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (2)، وقوله:{وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} (3) ذكر بعدها طوائف الناس من المؤمنين واليهود والصابئين والنصارى والمجوس والمشركين وأنه عز وجل يفصل بينهم، ثم ذكر بعد ذكر طوائف الناس سجود كل شيء في السماوات والأرض لله عز وجل لا يخرج عن هذا السجود إلا من أهان الله ولم يرد هدايته وكتب عليه العذاب من طوائف الناس سابقة الذكر (4).
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} (5) الرؤية هنا هي الرؤية القلبية لا البصرية، أي ألم تعلم (6) .... ، وسجود من في السماوات
(1) سورة الحج الآية 18
(2)
سورة الحج الآية 14
(3)
سورة الحج الآية 16
(4)
انظر: البحر المحيط 7/ 493. وتفسير المراغي 17/ 100.
(5)
سورة الحج الآية 18
(6)
انظر تفسير الطبري 17/ 130، وفتح القدير 3/ 443.
ومن في الأرض لله هو سجود حقيقة وانقياد وطاعة، والدليل على أنه سجود حقيقة أن الله عز وجل وصف به كثير من الناس (1)، فلو كان السجود سجود الانقياد والتسخير لأمر الله الكوني فقط لكان كل الناس يسجدون لله عز وجل لأنهم كلهم مربوبون لله منقادون لمشيئته الكونية، وسجود هذه المخلوقات لله عز وجل نجهل نحن كيفيته، لكننا نؤمن به لإخبار ربنا عز وجل عنه، وفي التنزيل الحكيم:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (2)، وقال عز من قائل:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (3) فإذا كنا لا نعلم كيفية صلاة وتسبيح هذه الأشياء فكذلك لا نعلم كيفية سجود من في السماوات ومن في الأرض لكننا نؤمن بهذا السجود وإن لم نعلم كيفيته.
وورد في صحيح السنة عن سجود الشمس ما رواه أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة
(1) انظر: تفسير الطبري 17/ 130، وتفسير القرآن العظيم 5/ 398.
(2)
سورة النور الآية 41
(3)
سورة الإسراء الآية 44
فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي. ارجعي من حيث جئت، فترجع، فتصبح طالعة من مطلعها. ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة. . . (1)» الحديث.
والذي يريد أن يعرف كنه كل شيء بعقله القاصر، لا يمكن أن يستوعب فهم هذا الحديث وهو يعلم يقينا أن هذه الشمس إذا غربت في مكان فهي طالعة في مكان آخر، وهكذا هي. فكيف تسجد تحت العرش؟.
لكن المؤمن بقدرة الله على كل شيء وأن الله عز وجل خلق كل شيء وهداه إلى سنن ونواميس خاصة به لا تشاركه فيها كثير من المخلوقات، يؤمن يقينا بسجود الشمس وغيرها من المخلوقات على الصفة الخاصة بها في علم الله عز وجل لكننا لا نعرف هذه الكيفية والصفة.
قال النووي: وأما سجود الشمس فهو بتميز وإدراك بخلق الله تعالى فيها (2) وقال ابن العربي: أنكر قوم سجودها وهو صحيح ممكن (3) وقال أبو العالية: ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر، إلا
(1) فتح الباري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر 6/ 297. ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان 1/ 137.
(2)
صحيح مسلم بشرح النووي 2/ 197.
(3)
فتح الباري 6/ 299.
يقع لله ساجدا حين يغيب، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له، فيأخذ ذات اليمين (1).
قوله: {يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} (2) والذين في السماوات مما نعلم الملائكة ومن في الأرض عام في كل من في الأرض من العوالم التي نعرف والتي لا نعرف، ولا يشذ عن هذا العموم إلا من أشرك أو كفر من البشر أو الجن ممن حق عليهم العذاب، وأراد الله له الهوان.
قوله: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (3) والشمس والقمر والنجوم في السماء والجبال والشجر والدواب في الأرض (4)، وأفرد هذه المخلوقات بالذكر مع كونها داخلة تحت من في السماوات ومن في الأرض لكونها من أكثر ما عبد من دون الله عز وجل مع أنها مربوبة خاضعة ساجدة لله (5) فالشمس عبدتها حمير، وعبد القمر كنانة، وعبد بعض النجوم تميم ولخم وقريش وطي وأسد وغيرهم، وعبد كثير من
(1) تفسير الطبري 17/ 130، والدر المنثور، وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، 6/ 18.
(2)
سورة الحج الآية 18
(3)
سورة الحج الآية 18
(4)
انظر: تفسير الطبري 17/ 130.
(5)
انظر: نظم الدرر 13/ 26.
المشركين الأصنام المنحوتة من الجبال والشجر وعبدت البقرة وبعض الدواب كما يفعل الهندوس وغيرهم.
قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} (1) أي وكثير من الناس يسجد لله طائعا مختارا متذللا لخالقه ومولاه عز وجل، وهم المؤمنون بالله (2).
قوله: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} (3) معني بها من ترك السجود لله، أي حق عليهم العذاب بسبب عدم سجودهم وطاعتهم لله عز وجل، وقد قضى الله في حكمه استحقاق المشرك لعذاب النار وبئس المصير (4).
قوله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} (5)؛ لأن من كفر بالله العظيم استحق العذاب المهين كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (6) وقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (7) ..... ، ومن استحق العذاب المهين فهو مهان، ومن أهان الله فلن تجد من يكرمه وينصره من دون الله {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} (8){هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} (9)
(1) سورة الحج الآية 18
(2)
انظر: تفسير الطبري 17/ 130.
(3)
سورة الحج الآية 18
(4)
انظر التحرير والتنوير 17/ 227.
(5)
سورة الحج الآية 18
(6)
سورة آل عمران الآية 178
(7)
سورة النساء الآية 37
(8)
سورة الكهف الآية 43
(9)
سورة الكهف الآية 44