الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرس حجيلان بن حمد:
عندما طال الحصار على أهل بريدة واستمر، وبينما كان سعدون بن عريعر ومن معه من الذين كانوا يحاصرونها ينتظرون أن تستسلم سمعوا في إحدى الليالي ضربا على الدف وغناء صادرا منها فسألوا عنه فقالوا: هذا الزواج الأمير حجيلان، فعلموا أنهم وحصارهم لم يؤثروا على أهل بريدة، وكان ذلك مما جعلهم يتيقنون من أنه لا فائدة لاستمرار حصارهم فرحلوا وتركوها.
رحلوا عن بريدة وتركوها، ولكن أهل بريدة لم يتركوهم، فقد صاروا يلاحقونهم بشن الغارات عليهم كما قال ابن بشر رحمه الله:
"وفيها ركب من أهل بريدة في أثر سعدون رجال، فوافقوا قافلة معها هدم ظاهرة من الشمال رئيسهم النفيش، فوافقهم بأرض المستوى فأخذوا أموالهم، وقتلوا رجالهم وكان معهم مال كثير لأهل المدينة فأمر عبد العزيز برده إليهم، ولم يبق منه شيء"(1).
رواية ابن غنام:
وهذا نص ما أورده المؤرخ حسين بن غنام في تاريخه الذي عنوانه روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، وتعداد غزوات ذوي الإسلام) وهو أقدم من ابن بشر عهدًا، بل إن هذه الوقائع حدثت في حياته، ربما كان ابن بشر قد استوحي ما ذكره هنا أو بعضه من تاريخ ابن غنام كما يراه بعض الباحثين وإن لم يصرح ابن بشر بذلك.
ولا يعيب كلام ابن غنام هذا إلَّا بعض السجع المتكلف أو الذي لا لزوم له، وإلا فإنه يوضح العبارة وسجعة متكلفة واحدة ربما تجلو المراد من جملة أو جمل فيه أو توضحه.
(1) عنوان المجد، ج 1، ص 150 قبلها.
وسوف نعلق على كلام ابن غنام ما نراه يحتاج إلى تعليق، وبخاصة ما كان يريده من معنى الارتداد الذي ظاهره الارتداد عن الإسلام، وابتغاء دين غيره، وإن لم يقل إن أهل القصيم الذين وصفهم بالمرتدين قد استبدلوا به دينًا آخر، وإنما ذكر ارتداد أهل القصيم ما عدا بريدة والرس والتنومة، وذلك يحتاج إلى إيضاح وبخاصة للقراء في هذا العصر، وقد حذفت من كلامه بعض السجعات والمترادفات التي لا لزوم لها.
قال ابن غنام في تاريخه (1):
وفيها جرى ذلك الأمر العظيم والخطب المدلهم الجسيم وهو ارتداد أهل القصيم، فقدر المولى الرحيم أن يرتعوا في ذلك المرتع الوبي الوخيم، وذلك أن كافة أهل القصيم إلَّا بريدة والرس والتنومة لما أراد الله تعالى عليهم المسكنة والذلة وقضى عليهم في سابق الأزل بالهوان والمذلة، اجتمعوا على الغدر بأهل الدين وقتل من عندهم من أهل التوحيد وخصوصًا المعلمين فحضر كافة رؤسائهم وكبرائهم وقدمائهم في ذلك الوقت والزمان، يوم الجمعة في خفي مكان فتفاوضوا الأمر وأبرموه وشدوا عقدته وأحكموه، وتعاطوا بينهم الأيمان والعهود وحققوا الوفاء بالعقود على تقل أهل كل بلد من عندهم من المسلمين موجود، في يوم معين عندهم معدود، وزمن مؤجل معروف وقته مشهود، فحين تم ذلك الأمر وانقضى انصرف كل إلى بلده ومضى، ولم يكن عند المسلمين من ذلك خبره إلَّا أنهم على ما يصدر عليهم في حالة يقين ورضى، فأرسل أهل تلك الأوطان إلى سعدون بن عريعر يخبرونه بذلك الحال والشأن، حتى يقدم ومن معه من البدوان، فكان قدوم ذلك الرسول عنده هو المني والسول، فبادره بإعطاء البشارة بعدما أعلمه بالمأمول، وأنه سريع الحصول
(1) ج 2، ص 125 وما بعدها.
فبادر إلى الأمر في الحال وآذن في جميع البوادي بالارتحال، فأقبل بنو خالد كافة وعنزة وجدوا في السير والإقبال، تعجيلًا لذلك المرام الذي لم يخطر له على بال، وقد داخله من السرور والاستيناس ما لا يعرف حدّه ولا يقاس، وقال: الآن حان الزمان أن يفي فننتهز الفرصة ونشتفي، وقد قرب أن يطلع لي بأفق نجد نجم العز والفخر والمجد.
فسار بمن معه من الحماة والكماة والأنصار يريد أهل تلك الديار، حتى ينجز منهم ما در وصار، ولسان الحال يتلو عليه ولكن لا تأمل ولا اعتبار {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} .
وحين قارب أن يلقي عصى السير والترحال ويحط عن الظهر الأثقال في أرض تلك البلدان أسرع أهل الشر والعدوان وشرعوا الأسنة على أهل الإيمان، فقتل أهل الخبراء إمامهم في الصلاة منصور أبا الخيل يوم الجمعة وهو للصلاة مريد فقطعوا منه الوريد، وقتل ثنيان أبا الخيل وقتل آل جناح رجلًا من أهل الدين مكفوف البصر وصلبوه بعصبة رجله وفيه رمق من الحياة، وقتل آل شماس أميرهم علي بن جوشان، وفعل بقية أهل البلدان مثل ذلك الفعل والشان.
ومن لطف الله تعالى بأهل بريدة وسلامتهم من الشيطان وكيده، وتوفيق الله لهم وكرامته، وحفظه لهم وعنايته، أن سليمان الحجيلاني وابن حصين وغيرهم عزموا على الردة وثبت ذلك عند حجيلان، فلما أقبلت تلك العربان بادر حجيلان إلى قتلهم فقتلوا ولم يدركوا ما أملوا ثم أرسل إلى سعدون بن عريعر أهل عنيزة على سبيل السلام والإكرام وإظهار المبادرة في الامتثال والاعتزام من عندهم من معلمة الأحكام ومفهمة التوحيد الذي خلقت لأجله الأنام، وهما عبد الله القاضي وناصر الشبلي وقالوا هؤلاء إليك قربة ومن تقرب
إلى الله تعالى قد كفر ذنبه، وهم منا إليك هدية وليس في قتلهم علينا ولا عليك عار ولا ازر ولا خطيَّة، فجرد عليهم صارمه وبأسه وأسقي كلًّا من طرف الحمام كاسه، فلبس من الخزي لباسه، فقتلهم حين جاءوه صبرًا فنال من مولاه ذنبًا وازرًا، وحقق الله تعالى لأهل الدين شهادة وأجرًا.
فلما استقر في تلك الفجاج الفسيحة الواسعة مع تلك الجيوش والأسلاف الهايلة المنيعة لبس أهل الشر والفساد وأهل الشقاق والنفاق والعناد من أهل تلك الأوطان والبلاد ملابس السرور والفرح، وزال عنهم ما كان في قلوبهم من الهم والأسا والترح وجاءت منهم جموع وأجناد وأنصار وأمداد.
ولما نزل بذلك المحل عجل الله لأناس من جماعته الأجل فبادروا إلى بريدة في الإسراع قالوا: همنا حصول الأطماع، فلم يؤب إليه منهم إلَّا الأقماع، فداخله الرعب والارتياع، حين أرسل إلى بريدة يريد الخيانة فأرسلوا إليه تلك الرؤوس وقالوا هذه ضيافته لشيمة الإقامة والجلوس، فتشيط غيضًا وغضبًا وإلى إن ظفر بأهلها أن يقطعهم إربًا إربًا، وشمر إلى أهلها في المنازلة، وكانت منه إليها معاجلة، ولم يحسب أنها تبقى إلى أمد بعيد فضلًا عن كونه يرجع عنها ولا يفيد، بل جزم أنها مفتوحة عن قريب، وأن سعيه لا يضيع ولا يخيب، فآب أول يوم للمنازلة بالخيبة والحرمان، والقتل والذل والهوان، وقتل جماعة من قومه في ساعته تلك لا يومه.
ثم عاود الحملة يومًا آخر على السور فرجع منقوصًا موتور، وقتل من أولئك الحمر السود كل من رام الهدم للسور والصعود، بقيت قتلاهم لا تنقل ولا ترفع للدفن، ولا تحمل، بل بقي غالبهم ملقى مهمل، غير أنهم صاروا للعاويات (1) مائدة، فهي إليهم تلك الأيام كل حين قاصدة، وصادرة وعايدة.
(1) يريد بالعاريات السباع الضارية كالذئاب والضباع.
فبقي أيامًا حائرًا متندمًا ثم أجمع رايه وعزمه محققًا مصممًا، أنه يسوق عليهم جميع الآلات والخلق مزدحمًا ويلجها بعد هدم بروجها وأسوارها مقتحمًا وأنه يعاقب من الجيوش من لم يره متقدمًا، فنهض إلى إنجاز ذلك العزم وانفاذ تلك الهمة والحزم، وبادر على تؤدة من الصباح متيمنًا، بالبكور في النجاح وحصول الأرباح، فأقبل بكيد عظيم مهول يحق للألباب عند رؤيته الإزالة والذهول، فصبر أهل الدين وصابروا، وجد أهل الباطل وكابروا، وراموا اقتحام البروج والسور وهدم تلك الحصون والقصور، والهجوم على أهل تلك الدور، فثبت الله لأهل الحق القلوب ولم يكن أحد منهم بمذعور ولا مرهوب.
فرجع سعدون ولله الحمد مذعورًا مرعوب، مهزوما مغلوب، وما أغنى عنه ذلك الكيد شيئًا، وكانت له الذلة والمقتلة فيئا.
ثم بعد ما صدر منه ما صدر وجرى منه ما تبين وظهر عض من الغيظ الأنملة، حيث لم يرجع بما كان أمله، وبقي على أفعاله السالفة وقضاياه التي هي للشرع مخالفة متحسرًا متأسفًا. فتفاوض مع أولئك الرؤساء الذين هم لا يزالون عنده جلساء، فيما يدفع عنه الهم والحزن والآسى.
واتفق الرأي السديد الجامع والأمر الذي هو المراد قاطع وللعدوان مذلة قامع وللمقاتلة مزعج وادع إنك إن نصبت لأجل هدم السور مدافع ويأتي لها بحكم ومدافع، فلا يبقي لأهل البلد عن ذلك دافع، ويصير لك معاند ومشاقق متابع، ولحكمك منقاد طايع، فأجابهم أن هذا هو الرأي السديد وسينجز هذا قريبًا غير بعيد، فشرع في أسباب ما كان لهم به مجيب، وإنجاز ذلك الأمر الذي هو في زعمهم صايب مصيب.
وجمع له أهل تلك الأوطان من جميع البلدان من أنواع الصفر جملة وأنجزوا له في قريب مدة ومهلة فلم تمض من الأيام مدة، حتى اتفق عنده من ذلك عدة، وشرع في صبها الصانع، فكان في أحكام هبئتها طامع وأقام يعالجها
في أحكامها أياما لم ينل من ذلك مرامًا بل حاز ذلة وخيبة وأثامًا وأطال في ذلك الأمر مكثًا ومقامًا، وكلما صبها أبت وكلما أفرغها في القالب خبت، فلم يتم لها حال ولا استقامة، ولم يدرك منها مقصوده ولا مرامه، وعرف في باطنه أن لهذه شأن وأن لم يفه بذلك لسان.
وكل يوم أو غالب الأيام يجري قتال وجلاد، مع أولئك الأقوام وأهل الدين والهدى لم يبالوا بمقام أهل الردي، بل كل يوم من الحزم في مزيد ومن البأس والنصرة في تجديد، ومن الله تعالى في إعانة وتأييد، فكان حالهم عبرة من الله تعالى للعبيد، وأية يستيقنها قلب كل جبار عنيد.
وفي أثناء تلك الإقامة بنى قصرًا وأنجز اتمامه، وجعل فيه عدة من الرجال وذوي الباس في المجال، وكان موضع ذلك القصر ليس إلى الحلة إليه من سبيل فانتدب المسلمون إليه ليلًا فنالوا من مرادهم نيلًا، وقد أعلمهم أهل الإسلام إنهم يريدونهم جنح الظلام فعجلوا لهم بالأعلام وبادروهم في ذلك القصر فهدم وازيل وبقي كل من فيه مجندلًا قتيل ولم ينج منهم سوى واحد، وكان بالخبر عن قومه وارد.
وفي أثناء تلك المدة أغار سعد بن عبد الله أمير الرس مع جماعة من قومه على سارحة أولئك الأعراب فأخذوا غنم سعدون وكانت نحو أربعمائة في الحساب تسمى تلك الغنم الدغيموات كثير من غنم تلك البريات.
وفي أثنائها أيضًا عدا أهل بريدة على بيت من الشعر جعله عبد الله بن رشيد للحرب من التيه والبطر، وكان فوق النهير مشهورًا وفيه آلات للحرب وزهبه فأضحى لديهم مجرورًا وقتلوا فيه أربعة رجال ورجعوا في ضحوتهم في أحسن حال.
فلما مضت من الشهور مدة نحو خمسة في العدة، وتحقق له من مراده الحرمان والخيبة وأراد لأهله الانصراف والأوبة، عزم على اقتحام البلاد
والدخول على أولئك العباد، وقد صنع منتريسًا من الخشب يسمى عجلًا عند أولئك العرب، يرد الرصاص عن من فيه فلا يضره ولا يؤذيه، فلما ساقوه إلى مرقب البلد وكان في ذلك المرقب عشرة من العدد، تكلموا مع أهل المرقب وذلك أن عثمان آل أحمد استفتح وهو مع ساقة العجل وجد في الدعاء واجتهد، ورفع صوته وقال بفصيح اللسان والمقال: اللهم انصر من هو منا على الحق فأمن على دعائه أولئك الخلق وصار أهل المرقب عند سماعه من المؤمنين، فكانوا هم أهل الحق فلذا صاروا من سطوتهم مؤمَّنين، وحاولوا فيهم نكاية، فلم يحصلوا على غاية، واجتهدوا أن يدركوا إليهم وصولًا، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلًا ورد كل منهم خاسرًا خايبًا ذليلًا وترك أكثرهم ذليلًا.
ثم بعد ذلك حمل على البلد حملة هايلة وأصبحت تلك الأمم عليها صايلة وعلى جميع أركانها جايلة، وإلى تسور الأسوار مايلة، يساقون بالسيف من أعقابهم في مسيرهم وذهابهم، فازدحموا عند السور والبروج، فلم يفوزوا منها بصعود ولا عروج، بل قطعت عندها الحناجر، وأعان الله تعالى من بها من محاصر، وكان له عونًا وناصر، فطار عند ذلك الاقتحام وهول ذلك الازدحام كثير من الروس والهام من تلك الأقوام، وانقلبوا بخيبة المقصود والمرام، من ذلك البأس والإقدام، فلم تسر إليها بعد ذلك أقدام ورجع أهل الحق بالفوز والأجر الجسيم، والعناية والقبول من الله الكريم، كما قال سبحانه في الذكر الحكيم:{فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} .
وارتحلت قبائل أولئك الأحزاب والعربان عن ذلك الموضع والمكان بأمر عظيم من الخزي والهوان.
ولما سارت تلك العشاير خرج حجيلان ومن معه مسارعًا مبادر، ففاجأ
بريدة آل شماس وقتل من وجد بها من أولئك الناس، فأوقع بها النقمة والبأس، وخرج غالب أهلها نايرين مع تلك الجيوش السايرين، وعرفوا أنها ليست لهم بدار مقام، فهربوا مع أولئك الأقوام، وشدوا في الانهزام، ثم بعد صدور تلك القضية وانصراف العساكر بالرزية، ضاق وسيع الفجاج على من ساعد ذلك المنهاج، وانزعجت قلوبهم أشد الانزعاج، فلم يجدوا عن الدخول في حوزة الإسلام بدا ولم يبصروا سواه قصدًا.
فأقبلوا على حجيلان يريدون الإسلام والإيمان، وأعطاهم الأمان وأجابهم إلى ذلك الشان، بعد ما شرط عليهم النكال، فكل بذلك دان وأقبلوا إليه مسرعين وحدانًا ومجتمعين، ووفدوا بلدًا بلدًا، ولم يبق إلَّا أهل عنيزة بُعدًا.
وفيها غزا ركب لأهل بريدة في أثر سعدون يطلبون الاختلاس من تلك البوادي ويريدون، فوافقوا ظهرة مع النفيثي بأرض المستوي، فكان ذلك الركب لجميع الظهرة محتوي، وقتلوا جميع الرجال وأخذوا ما معهم من الأموال، وقد كان مع تلك الظهرة لأناس من أهل المدينة مال كثير، فأمر بأدائه عبد العزيز الجليل منه والحقير، فأدَّى تامًا من غير نقص ولا تغيير، لأنها كانت أوقافًا وأحباس، فلم يرد أخذها لأولئك الناس، وإن لم يكن فيه معرة ولا بأس (1).
إنتهى كلام ابن غنام.
والتعليق على كلام ابن غنام كالتعليق على كلام ابن بشر فيما لا يحتاج إلى تعليق وهو مناعة سور بريدة الذي أقامه عليها حجيلان بن حمد الذي صمد أمام زحف تلك الجموع بما معها من المال والرجال.
وسيأتي أنه صمد أيضًا أمام هجوم ثويني بن شبيب.
(1) تاريخ ابن غنام، ج 2، ص 124 - 131.