الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
آل أبا الخيل في العراق:
انتقل بعض آل أبا الخيل إلى العراق بصفات فردية أي أنه لم تجمع طائفة أو طوائف منهم على السفر إلى العراق والبقاء فيه وإنما ظهرت شخصيات منهم من نجد إلى العراق واستقرت في سوق الشيوخ التي هي بوابة العراق بالنسبة إلى أهل نجد.
كما انتقل أفراد إلى ناحية أخرى من العراق والذي يهمنا هنا هم الذين انتقلوا إلى (سوق الشيوخ) لأنه ورد ذكر أحدهم في معرض النفوذ والزعامة وحل المشكلات في كتاب ألفه أحد العراقيين وهو معن بن شناع العجلي.
قال معن بن شناع العجلي:
ففي الثامن من شعبان 1313 هـ، بينما كان صالح بن عباس الكرادي مشغولا ببيع التمر في دكانه ومعه ضيفه حمود الشريفي، وإذا بحنظل بن حمادي من (محلة الحويزة) - وهو شاب كان في نفسه عداءٌ، وغضب على الرجل الشريفي - يقف في باب ذلك الدكان ويرمي الشريفي بطلقة من بندقيته فيرديه قتيلًا ثم أخذ يطعنه بخنجره يمثل به فانتصر الكرادي لضيفه فجأر بالشكوى مستنجدًا بالشيخ عبد العزيز أبو الخيل، وقد كان جارًا له في محلة النجادة (علمًا أن الشريفي والكرادي لم يكونا على مذهب أبي الخيل وكانا فيجملة من تشيعوا لقليل من السنين في ذلك الزمان) وشرع الكرادي يستنهض أبا الخيل ويستجير به حتى خرج أبو الخيل من بيته يطالب محلة الحويزة، وأقارب حنظل (القاتل) بحق الجار، والحشم، ودية القتيل، وكان في أتباع أبي الخيل في ذلك الوقت رجل شجاع وجرئ هو أبو ذياب علي الصالحي الملقب بعلي أفندي الذي جعلته الحكومة التركية في سنة من السنين منصوبًا وبوظيفة مهمة في قرية البطحة ليراقب العراك المسلح الحادث بين سعدون المنصور وقبيلة البدور، فاستدعاه أبو الخيل وطلب منه أن يرافقه ويكون وسيطًا في
مطالبة رئيس محلة الحويزة ناصر الجوهر بإعلان العطوه لجاره الكرادي، والاستعداد لتأدية الفصل وإرضاء عائلة حمود الشريفي بكل وجه من الوجوه.
وفي أثناء توجه أبو الخيل ورُفقتَه إلى محلة الحويزة اعترضهم حنظل في الطريق، وهددهم وشتمهم، وهمَّ بقتل علي الأفندي (الصالحي) غير أن علي أفندي قد كان حذرًا، وعلى توقع الخطر، فعاجله بطلقة خرّ صريعًا بها فسال دمه في المكان الذي قتل فيه الشريفي قبل يوم واحد.
فماجت المدينة وارتبكت الأحوال فيها ومدت البنادق من السطوح، النجادة يرمون الحضر، والحضر يرمون النجادة بالرصاص، ولكن الرمي كله قد كان طائشًا في الهواء.
وعندما رجع أبو الخيل إلى منزله أخذ يضرب أخماسًا بأسداس، ويقدح زناد الرأي يقلب الفكر للنجاة من هذه المحنة، وتجسمت أمام بصيرته وخامة العاقبة، وسوء الحال فضاق بالحرج الشديد، فهداه اجتهاده بالرأي المرتجل إلى أن يصرف الجميع إلى مهمة عامة، فيثير الشعور بالواجب الجماعي، ويوّحد المدينة في تلك الليلة، ويشغل أبناءها جميعًا برعاية الخُلقُ المطلوب فقرّ على عزمه الفردي أن يحرق أحد الدكاكين الخالية ليجعل الناس مشغولين بإطفاء الحريق ويتركوا الرمي وينزلوا من السطوح للاهتمام بحمل القِرَب والدلاء لمعالجة هذا الحريق بنقل الماء، فتقدم إلى دكان خاصٍ له مملوءٍ بالأخشاب والأكياس الخالية وأضرم النار في بابه الخشبي، وأمر أحد رجاله أن يصيح مناديًا: حريق
…
حريق .. يا جماعة حريق .. يا أهل السوق حريق، فتجاوب القوم حريق .. حريق، وقد أمل أبو الخيل أن يكون هذا الفعل داعيًا إلى جمع أهل البلدة، وردعهم عن الخوض في الفتنة التي استيقظت وأسفرت عن وجهها مشتعلة ملتهبة كان المتصيدين في الماء العكر على موعد معها، قد كان أبو الخيل يتصرف بقلب سليم النية، وغايته إنقاذ البلاد من فوادح القتل، وتبادل الرصاص بين الجيران.
وانقلب السوق دخانًا ورمادًا وركامًا، ومضى أهل المدينة الليل كله ينقلون جرار الماء من الشط لإطفاء ذلك الحريق المخيف.
وما كان أبو الخيل ولا أهل السوق في تلك الليلة يشعرون أن هذا الحريق قد أثار قبيلتي حجام، وآل حميدي وهيجهما، وكان ضيدان بن فهد شيخ قبيلة حجام يترقب الفرص للانتقام من أعداء حجام في مدينة السوق لتصرفات ومشاكسات فردية أدت إلى نفرة العشائر، وأثارت الغضب في النفوس، فلما شوهدت النيران من بعيد، وارتفع سناها، وعلم ضيدان بن فهد بذلك استنفر قبيلته، وآل بو حميدي في تلك الليلة فدخلوا المدينة وسوقها يفور كُلُهُ من شدة الجمر، واللظى فاجتاحت قبيلة حجام، وآل بو حميدي معهم خانات المدينة ودكاكينها التي لم تصلها النار بعد فأخذوا ينهبون ويسلبون ويطاردون خصومهم بالرمي عليهم في أزقة المدينة ويصولون ويجولون كأنهم هم الذين أحرقوها، ثم حفرت عشيرة آل بو حميدي خندقًا محاذيًا لأم العباس، ورابطوا عليه لمنع الجيش التركي من الوصول إلى المدينة ولجأ قائمّقام السوق إلى منزل الشيخ علي حيدر، فاقترح عليه الشيخ علي حيدر أن يدفع ثلاثين ليرة عثمانية ذهبًا إلى ضيدان بن فهد شيخ حجام ليأمن سلامته في الوصول إلى الناصرية، وتكاثرت جموع قبائل المجرة في مدينة السوق، واختفى السكان في بيوتهم، وقبعوا فيها لا يبرحون، واتسعت الفوضى، وساد الشغب، ونصب ضيدان بن فهد نفسه (شيخًا) على هذه المدينة، ووظف مناديًا له بذلك، واحجمت العساكر التركية عن اقتحام المدينة وطرد العشائر منها، وفي اليوم الثالث حضر نفر من كبار آل سعدون، ومعهم آل خيون شيوخ بني أسد، وتويلي شيخ الحسينات وتوسطوا بين قبائل المجرة ووجوه المدينة من النجديين والحضر والبغادّة، فتعهد سعدون المنصور بمبلغ من المال يدفعه تجار السوق نجديهم وحضريهم لضيدان بن فهد شيخ قبيلة حجام، على صورة (خاوه) نقدية
سنوية لحشم سابق، وغرامات مفروضة عرفيًا لرجال من حجام على نفر من الحضر، وتم الاتفاق على ذلك وانسحبت عشائر المجرة من مدينة السوق.
وسبب هذه (الخاوه) أنه قد كانت زمر من دهماء السوق يرفعون أنعلتهم بوجوه أبناء العشائر عند أضعف الأسباب في الشجار والمنازعات، ويتناصرون كل يحمل نعاله بكفه اليمني تحت شعار (كاز كاز) وهي كناية عن النعال عندهم فأهين الكثير من العشائر لضرب النعال في السوق على هذه الكيفية من الهوج والرعونة وسفاهة العقول، فأريقت لذلك الدماء، وقتل عدة أشخاص في الرد على هذا السلوك البشع.
هذا هو الدافع الأصلي لاجتياح السوق في تلك الليلة الحمراء باللهب والشرار والدخان المضطرم.
كل ذلك الهول والرعب والخصومات المؤججة بالبارود والهدر في الدماء والمال والعلاقات الاجتماعية قد نجمت عن الخطل في الفكر المتسرع، ولكن الشيخ عبد العزيز أبو الخيل لم يُرد غير الإصلاح ولم ينو في نفسه شرًّا لأحد، فإنه قد اجتهد ولكنه أخطأ في الاجتهاد.
ولابد من ذكر ما لا يجوز إهماله عند تحرير هذه الصفحات الخالصة في التوكيد والتصديق القائمة على التثبت والتقرير الموثق بقوة الدراية وصحة الرواية ليعلم القارئ أن النجديين الذين كانوا في سوق الشيوخ كانوا دائبين في ذلك الزمن على الميل نحو الوجهة الرسمية التركية مخالفين علماء الحنابلة الذين كانوا يكافحون الحكم العثماني، ويناصبون بالسيف والقلم السلطان العثماني رافضين وصفه بالخلافة.
غير أن النجديين في سوق الشيوخ قد كان شيوخهم في ذلك الزمان يتقربون إلى العشائر الضالعة في خدمة الحكومة التركية ويتنكرون للقبائل
المعادية للحكم العثماني الذي كان يخوض المعارك في نجد ضد مذهب الحنابلة، وكانت قبيلة حجام وحلفاؤها قبائل المجرة ثائرةٌ ماردةٌ بوجه السلطان التركي أما بنو خيقان وحلفاؤهم قد كانوا مسالمين ومطيعين للأتراك وشاهرين سلاحهم معهم في زحوفهم على قبائل المجرة.
لذلك فقد وجدنا الشيخ عبد العزيز أبا الخيل من أنشط النجديين في الطاعة للحكومة العثمانية، ولقد وجدناه ينفق المال الكثير في تسليم بحض عشائر بني خيفان، ولقد كان تنصبُّ عطاياه وهباته على قبيلة آل شميس بخاصة فلقد كان يمول هذه العشيرة، ويساعدها على اقتناء السلاح والذخيرة في طول نزاعها المسلح بينها وبين قبيلة حجام، وكان آل شميس مثل الحرس الخاص في ديوان أبي الخيل يقيمون عنده، ويشتري لهم بكفالته السلاح والعتاد ويساعدهم في الدوائر التركية.
وفي كانون الثاني من عام 1910، بينما كان نايف بن وكظ كبير آل شميس راقدًا في ديوان أبي الخيل، وقد لبس الكيس الذي يقيه من البرغوث وشده من فوق رأسه، وعقد أزراره من كل جهة كما يفعل الناس في ذلك الزمان للحفاظ على جلودهم من لدغ البراغيث، وبينما كان نايف بن وكظ نائمًا على تلك الهيئة من تلبّسه بالكيس كأنه مُكّفن فوق فراشه حدث ما لم يخطر على البال، ولم يك في حسبان الشيخ عبد العزيز أبا الخيل فلقد كان لأبا الخيل أخ اسمه على قيل إنه كان مختل العقل وقد استيقظ فجرًا فرأى الخادم يعد الحطب للقهوة، وكان الحطب من شجر الغضا فالتفت فرأى ضيفهم نايف بن وكظ على تلك الصورة في سباته العميق في الكيس الأبيض، فأخذ بيده الفأس على غفلة من خادم القهوة، وظن أن هذا الهيكل الذي أمامه هو قطعة من خشب الغضا، فأقبل يضربه بالفأس حتى قطّعه تقطيعًا.
وذهل الشيخ عبد العزيز أبا الخيل لهذا الحادث اللمم المفجع في هذه المأساة العظيمة، وحمل أبو الخيل جنازة ضيفه في إحدى السفن معتذرًا خجلًا، واستصحب ولده وتوجه لأهل القتيل فعفا آل وكظ عن هذا القتل وقدم أبا الخيل دية بل ديات مضاعفة إرضاء لهذه العائلة.
ومنذ تلك الحادثة كان الشيخ عبد العزيز أبا الخيل يوالي الإغداق على هذه العشيرة بالأموال التي كانوا يحتاجون إليها في عصيانهم على حجام، واستئثارهم بالأرض التي يزرعونها (1).
انتهى كلام معن بن شناع العجلي.
(1) الخميسية وما حولها، ص 50 - 51.