الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ القِيَاس
القياس في اللغة: التقدير، يقال: قاس الجرح بالميل إذا قدَّر عمقه، ومنه قول الشاعر يَصف طعنة.
إذا قاسها الآسِيْ النِّطاسِيُّ أدبرَتْ
…
غَثِيْثَتُها أَوْ زاد وهْيًا هُزُومُهَا
(1)
واصطلاحًا عرَّفه المؤلف بقوله:
631 -
بحملِ معلومٍ على ما قد عُلِم
…
للاستوا في عِلَّة الحُكْم وُسِم
يعني أن القياس في الاصطلاح وُسِمَ، أي مُيّز وعُرِف بأنه: حَمْل معلوم على معلوم -أي إلحاقه به- في حكمه لمساواته له في علته بأن توجد العلة بتمامها في الفرع المحمول، كتحريم النبيذ إلحاقًا بالخمر للعلة الجامعة التي هي الإسكار، وإنما عبَّر المؤلفُ بالمعلوم في قوله:"بحمل معلوم" إلخ دون "الشيء" ليتناول التعريفُ المعدومَ لأن المعدوم قد يُقاس على المعدوم بعلة، والمعدوم ليس بشيء، وبهذا يندفع ما يقال: إذا كان الفرع المحمول معلومًا فلا حاجة إلى القياس، وإيضاحُه: أن المراد بالمعلوم ما يتعلق به العلم من موجود ومعدوم، وفي حدِّ المؤلف مناقشات وأجْوِبَةٌ إن شئت الوقوف عليها فانظرها في شروح
(1)
البيت للبُعيث بن بشر، انظر "الجمهرة":(ص/ 838) لابن دريد وحاشيته، ط البعلبكي، ونسبه له الجاحظ في "الحيوان":(6/ 414). وروايته فيها بعض الاختلاف. وهو بلا نسبة في "تهذيب اللغة": (9/ 225) للأزهري.
"الجمع"، وانظر طرفًا منها في "نشر البنود"
(1)
.
632 -
وإن تُرِد شمولَه لما فَسَدْ
…
فَزِدْ لدى الحامِل والزيدُ أسَدّ
يعني أن الحدَّ المتقدمَ للقياس يشمل الصحيح فقط لانصراف المساواة المطلقة إلى المساواة في نفس الأمر دون المساواة في ظن المجتهد، وإن أردت الحدَّ الشامِلَ للفاسد مع الصحيح فزد على الحد المتقدم لفظتَيْ:(لدى الحامل) بأن تقول: هو حمل معلوم على معلوم لمساواته له في العلة عند الحامل، فيشمل إذًا المساواة في نفس الأمر والمساواة في ظن المجتهد، وبذلك يشمل الصحيح والفاسد معًا. وقوله:"أَسَدّ" أي أوفق للسَّدَاد وهو الصواب، وإنما ذكر المؤلف أن زيادة (لدى الحامل) أصوبُ لأن الحدَّ تعريف الماهية من حيثُ هي الشامل لصحيحها وفاسدها.
633 -
والحامل المُطْلق والمقيَّدُ
…
وهو قبلَ ما رواه الواحِدُ
يعني أن الحامل الذي هو المستدلُّ بالقياس هو المجتهد المطلق أو المجتهد المقيد، إلَّا أن المطلق يقيس في جميع الشريعة، والمقيد يقيس في أصول مذهبه، والمقيد هو مجتهد المذهب، وسيأتي إيضاح ذلك في كتاب الاجتهاد
(2)
.
وقوله: "وهو قبلَ ما رواه الواحد" يعني أن القياس مقدمٌ عند مالك
(1)
(2/ 98 - 100).
(2)
ص/ 645 وما بعدها).
على خبر الواحد، وقال القرافي في "التنقيح"
(1)
: إن هذا مذهب مالك، ووجَّهَه بأن الخبر إنما ورد لتحصيل الحكم، والقياس متضَمِّن للحكَمة فيُقَدَّم على الخبر
(2)
.
قلت: التحقيق خلاف ما ذهب إليه المؤلف والقرافيُّ، والرواية الصحيحة عن مالك رواية المدنيين أن خبر الواحد مقدَّم على القياس. وقال القاضي عياض: مشهور مذهبه أن الخبر مقدَّم، قاله المقَّري وهو رواية المدنيين. اهـ. ومسائل مذهبه تدل على ذلك كمسألة المُصَرَّاة، ومسألة النضح، ومسألة غسل اليدين لمن أحدث في أثناء الوضوء. وما زَعمه بعضهم من أنه قدَّم القياسَ على النص في مسألة وُلوغ الكلب غير صحيح؛ لأنه لم يترك فيها الخبرَ للقياس، وإنما حمل الأمر على الندب للجمع بين الأدلة، لأن اللَّه تعالى قال:{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة/ 4] ولم يأمر بغسل ما مسَّه لعاب الكلب، فدلَّ على أنه غير نجس، واعتضد ذلك بقاعدة هي: أن الحياة علة الطهارة
(3)
.
634 -
وقبلَه القطعيُّ من نصٍّ ومِنْ
…
إجماعِهم عندَ جميعِ من فَطِنْ
(1)
(ص/ 126).
(2)
ولهم تعليلات أخرى.
(3)
انظر كتاب "أصول فقه الإمام مالك": (2/ 799 - 840) للشعلان، فقد حقق فيه أن ما نقله ابن القاسم في "المدونة" يخالف ما حكاه عنه المالكية من تقديم القياس، وأن صنيعه في المسائل الفروعية يدل على تقديمه لخبر الواحد على القياس الاصطلاحي، أما القياس المراد به "القواعد والأصول" فقد جاء عنه تقديم الخبر حينًا وتقديم "القواعد والأصول" حينًا آخر بحسب القرائن.
يعني أن القياس الظنّي يقدَّم عليه القطعيّ من كتاب وسنة، والقياس القطعي لا تُمكن معارضته للنّصِّ القطعيّ إذ لا تعارض بين قطعيين، وسيأتي القطعي من القياس والظنيّ، وقوله:"فطن" مثلَّث الطاء، والأَوْلَى في البيت الكسر لمناسبته
(1)
للبيت قبله.
635 -
وما رُويَ من ذَمِّهِ فقد عُني
…
به الذي على الفساد قد بُني
يعني أن ما روي عن الصحابة رضي الله عنهم من ذم القياس والرأي، محمول على القياس الفاسد المخالف للنصوص ولا يريدون القياس الصحيح. وقوله:"رُوي" و"عُنِي" و"بُني" أفعال ماضية مبنية للمفعول.
636 -
والحدُّ والكفَّارةُ التقديرُ
…
جوازُه فيها هو المشهورُ
يعني أن مشهور مذهب مالك -كما نقله القرافي عن الباجيّ وابن القصَّار- جواز دخول القياس في الحدود والكفارات والتقادير
(2)
.
مثاله في الحدود: قياس اللَّائط على الزاني بجامع إيلاج فرجٍ في فرج مُشْتَهى طبعًا محرم شرعًا. وقياس النبَّاش على السارق في القطع بجامع أخذ مال الغير من حرز مِثْلِه خِفْية.
ومثال دخوله في الكفارات: اشتراط الإيمان في رقبة كفارة الظهار واليمين قياسًا على رقبة كفارة القتل خطأ.
ومثاله في التقديرات: تقدير أقل الصداق بربع دينار قياسًا على
(1)
ط: لمجانسته.
(2)
انظر "شرح التنقيح": (ص/ 415).
إباحة قطع اليد في السرقة بجامع أن كلًّا منهما فيه استباحة عضو
(1)
.
وحجة المانعين: أن هذه الأشياء لا يُدْرَك فيها المعنى، وأجيب بأنه يُدْرَك في بعضها فيجري فيه القياس.
وقوله: "التقدير" إلخ معطوف بحذف العاطف.
637 -
ورخصةٌ بعكسِها والسببُ
…
وغيرُها للاتفاقِ يُنْسَبُ
يعني أن الرخصة والسبب عكس المسائل المتقدمة فيمتنع فيها القياس على مشهور مذهب مالك.
مثالُ منعه في الرخصة: منع قياس غير التمر على التمر في بيع العرِيَّة، وكالمسح على خفٍّ فوقَ خفٍّ قياسًا على المسح على الخف الواحد.
ومثاله في السبب: قياس التسبمب إلى القتل بالإكراه على التسبب إليه بالشهادة.
وحجة منعه في الرخص: أن الرخصة لا تتعدى محلَّها لأنها مخالفة للنص، وتعديتها محلها تؤدي إلى كثرة مخالفة الدليل.
وأجاب القائلون بجواز القياس في الرخص بأن صاحب الشرع لم يخالف الدليل في الرخصة إلَّا لكون الرخصة أكثر مصلحة، فإذا وُجدَت تلك المصلحة في فرع ألحقناه بالأصل لتكثير
(2)
المصلحة.
وحجة المنع في السبب: أن جواز القياس عليه يقتضي نفي سَبَبِيَّتِهِ، وإيضاحه: أن يتسبب أمر عن أمر مثلًا فيلحق بذلك الأمر آخرُ في كونه
(1)
كل هذه الأمثلة ذكرها في "نشر البنود": (2/ 105).
(2)
ط: لتكثر.
سببًا لذلك الأمر أيضًا، فيؤل الأمر إلى أن السَّببَ أحدُ الأمرين، ويظهر بالقياس أن النصَّ على سَبَبِيَّته الأول أنه يصدق عليه اسم السبب لكونه فردًا من أفراده لوجود السبب الثاني بالقياس، فظهر أن القياس على السبب يلزمه أن يخرجه عن كونه سببًا مستقلًّا فامتنع لتضمُّن إثباته رفعه. ومثل هذا بعينه في الشرط والمانع، فالقياس فيهما ممنوع أيضًا لهذه العلة في مشهور مذهب مالك.
فمثاله في الشرط: قياس استقصاء الأوصاف في بيع الغائب على الرؤية.
ومثاله في المانع: قياس النسيان للماء في الرحل على المانع من استعماله حسًّا كالسبع واللص.
وقوله: "وغيرها للاتفاق يُنسب" يعني أن غير المسائل المذكورة
(1)
يجوز فيه القياس باتفاق المالكية، وهو قول جمهور العلماء خلافًا للظاهرية.
638 -
وإن نُمِي للعُرفِ ما كالطُّهْرِ
…
أو المحيض فهو فيه يَجْري
يعني أن القياس يجوز في الأمور العادية إذا كانت منضبطة لا تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والبقاع، كأكثر الحيض وأقله وأقل الطهر، فهذه يجوز القياس عليها لانضباطها، فيجوز قياس النفاس على الحيض في أن أقله قطرة عند المالكية أو يوم وليلة عند الشافعية، وإذا لم ينضبط لا يجوز القياس عليه، وهو مراد القرافي بقوله في "التنقيح"
(2)
:
(1)
قال في "النشر": (2/ 106 - 107): "ونعني بالغير الأمور الدنيوية والأحكام الشرعية".
(2)
(ص/ 133).
لا يدخل القياس فيما طريقه الخِلْقَةُ والعادةُ كالحيض، وبيَّنه في "شرح التنقيح"
(1)
بقوله: لا يمكن أن تقول: فلانة تحيض عشرة أيام وينقطع دمها فوجب أن تكون الأخرى كذلك قياسًا عليها، لأن هذه الأمور تتبع الطباع والأمزجة والعوائد في الأقاليم.
* * *
(1)
(ص/ 416).