الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووجْهُه: أنه قد التزم ذلك القول بالفراغ من العمل به.
ومراده بالعاميِّ المعبَّر عنه بـ "من عمَّ" العامي الذي لم يلتزم مذهبًا معيَّنًا، أما ملتزمه فسيأتي. وإذا قلنا بوجوب تكرار سؤال المجتهد إذا عاد مثل الفتوى فتغيَّرَ اجتهادُ المفتي الأول لم يجب عليه العمل بقوله الثاني، لأنه لم يعمل به حتى يكون ملتزمًا له بل يجوز له العمل بقول غيره.
قلت: الذي يظهر أن العامِّي لا يمنع له تقليد من وُثِقَ بعلمه ودينه مطلقًا ولا دليل على المنع.
979 -
إلا فَهل يلزمُ أو لا يلزَمُ
…
إلّا الذي شرَعَ أو يَلْتَزِمُ
هذا مفهوم قوله: "قد عمل. . " في البيت قبله، أي وإذا لم يعمل العامي بفتوى المجتهد فهل يلزمه العمل بمجرد الإفتاء، أو يلزمه
(1)
إن شرع، أو يلزمه إِن التزمه، أو لا يلزمه مطلقًا؟ أربعة أقوال، وقد قدمنا أن الظاهر عدم اللزوم مطلقًا، وأنه لم ينعقد في ذلك إجماع ولو بعد العمل، ولو قيل بانعقاد الإجماع على أنه لا يلزم لكان أقرب للصواب.
980 -
رجوعُه لغيره في آخَرِ
…
يجوز للإجماعِ عند الأكثر
يعني أن
العامي إذا قلد مجتهدًا في مسألة، يجوز له أن يقلِّدَ غيره في مسألة أخرى
عند أكثر العلماء. وقوله: "للإجماع" يعني إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنه يسوغ للعامي أن يسأل من شاء من العلماء، فقد أجمعوا على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة
(1)
الأصل: لا يلزمه. وهو خطأ.
ومعاذَ بن جبل وغيرهما من غير نكير.
ومفهوم قوله: "عند الأكثر" أن بعضهم قال: "إن عمله بفتوى المجتهد الأول التزامٌ لمذهبه، ولا يخفى أن هذا القول بعيد، وفرَّق إمامُ الحرمين
(1)
بين عصر الصحابة والتابعين وبين الأعصار التي استقرَّت فيها المذاهب، فأجاز الرجوع للعامي في الأول دون الثاني.
981 -
وذو التزام مذهب هل ينتقِلْ
…
أو لا وتفصيلٌ أصحُّ ما نُقِلْ
يعني أنه على القول بوجوب التزام مذهب معيَّن إذا التزمه مقلِّد، فهل يجوز له أن يقلِّد غيرَه في بعض المسائل مع بقائه على التزام ذلك المذهب؟
قيل: لا يجوز له ذلك، وهو قول المازري والغزالي، ووجهه: أنه لما التزم ذلك المذهب لزمه.
وقيل: يجوز له ذلك مطلقًا لأنّ المذاهب كلها طرق إلى الجنة كما تقدم، فذلك المذهب بعينه ليس عليه التزامه، والتزام ما لا يلزم لا يلزم.
ثالثها -وذكر المؤلف أنه الأصح كما ذكره غيره-: هو التفصيل، فيجوز الانتقال فيما لم يَعْمَل به ويمتنع فيما عَمِل به.
982 -
ومن أجازَ للخروج قَيَّدا
…
بأنه لابدَّ أن يَعْتقدا
983 -
فضلًا له وأنه لم يبتَدِعْ
…
بخُلْفِ الاجماعِ وإلَّا يمتنِعْ
يعني أن من أجاز خروجَ مقلِّد مذهب إلى مذهب آخر في بعض
(1)
انظر "البرهان": (2/ 744 و 885).
المسائل قد قيَّد ذلك الجواز بثلاثة شروط:
الأول: أن يعتقد فضل المذهب الذي انتقل إليه.
الثاني: أن لا يكون المنتقل -بالكسر- مبتدِعًا بما يخالف الإجماع كالتلفيق بين المذاهب. وإيضاحه: أن من العلماء مثلًا من لا يشترط الولي في النكاح كأبي حنيفة، ومنهم من لا يشترط الشهود في صلب العقد كمالك، ومنهم من لا يشترط الصَّدَاق، فلا يجوز أن يتزوج رجلٌ بغير وليٍّ ولا شهود ولا صَداق ملفِّقًا بين المذاهب، فإنَّ هذه الصورة الملفَّقة لم يقل بجوازها أحد.
الثالث: أن لا يكون ما قلَّد فيه ينقضُ حكمَ المجتهد لو حكم به، وهو أربعة مجموعة في قوله:
إذا قضى حاكم يومًا بأربعة. . . إلخ البيتين
(1)
وهذا الشرط الثالث هو مراده بقوله:
984 -
وعدمِ التقليد فيما لو حَكَمْ
…
قاضٍ به بالنقضِ حُكْمُه يُؤمّ
تقدم بيانه، و"يُؤَمْ" مَبْني للمفعول بمعنى يُقْصد، وجر "عدم" بالعطف على المجرور المصدري في قوله:"بأنه"، و"حكمه" مبتدأ خبره "يؤم" و"بالنقض" متعلق بـ "يؤم".
985 -
أما التمذهُبُ بغيرِ الأولِ
…
فصنعُ غير واحد مبجِّلِ
(1)
والبيتان هما كما في "النشر": (2/ 343):
إذا قضى حاكم يومًا بأربعةٍ
…
فالحكم منتقضٌ من بعد إبرام
خلاف نصٍّ وإجماعِ وقاعدةٍ
…
كذا قياسٍ جليٍّ دون إيهام
986 -
كحجَّة الإسلام والطَّحاوي
…
وابنِ دقيق العيد ذي الفتاوي
987 -
إن ينتقل لغرضٍ صحيحِ
…
ككونِه سَهلًا أو الترجيحِ
يعني أن التمذهب أي التزام مذهب غير المذهب الأول، كالانتقال من مذهب الشافعي إلى مذهب مالك مثلًا، أو العكس = جائز لأنه فعَلَه كثير من العلماء المُبَجَّلين أي المُعَظَّمين عند الناس؛ لأن كل المذاهب على صواب.
وقوله: "كحجة الإسلام" يعني أبا حامد الغزالي انتقل في آخر عمره من مذهب الشافعي إلى مذهب مالك
(1)
لأنه رآه أكثرَ احتياطًا، وكذا أبو جعفر الطحاوي انتقل من مذهب الشافعي إلى مذهب أبي حنيفة لأنه صَعُبَ عليه مذهب الشافعي
(2)
، وانتقل تقيُّ الدين ابن دقيق العيد من مذهب مالك إلى مذهب الشافعي، وكان يفتي بالمذهبين
(3)
، وهو مراد المؤلف بقوله:"ذي الفتاوي" وأمثال هذا كثير. وقد انتقل ابن مالك النحويُّ من مذهب داود إلى مذهب الشافعي
(4)
.
وقوله: "إن ينتقل لغرض. . " إلخ يعني أنه يُشْترط في جواز
(1)
لم أر من نص على أن الغزالي انتقل إلى مذهب مالك في آخر عمره.
(2)
في سبب تحوله عدة أقوال، وما ذكره المؤلف انظره عند ابن حجر في "اللسان":(1/ 620 - 621)، و"اختلاف المذهب" للسيوطي.
(3)
ط: في المذهبين.
(4)
انظر رسالة السيوطي "اختلاف المذهب"، ورسالة شيخنا بكر أبو زيد "التحول المذهبي" ضمن "النظائر".
الانتقال من مذهبه الذي التزمه إلى مذهبٍ آخر لغرض صحيح يُجيزه الشرع، ككون المذهب المنتقَل إليه أسهلَ من المنتقَل عنه أو أرجح لوضوح أدلته وقوتها. وهل هذا الانتقال واجب أم لا؟ له احتمالان. وقوله:"الترجيحِ" بالخفض عطفًا على الكون.
988 -
وذُمَّ من نوى الدّنا بالقَيْسِ
…
على مهاجم لأمِّ قيسِ
هذا البيت مفهوم قوله: "إن ينتقل لغرض صحيح. . " إلخ أي وإن انتقل لقصد الدنيا وهو غير مضطر، ككون المذهب المنتقَل إليه له أوقاف تصرف على أهله، فإنه مذموم قياسًا على مهاجر أم قيس، وقصته مشهورة
(1)
.
وقوله: "ذُم" أمرٌ من الذم وميمه مثلثة. و"القَيْس" معناه: القياس.
989 -
وإن عنِ القَصْدَيْن قد تجرَّدا
…
من عمَّ فلتُبِحْ له ما قَصَدا
مراده بـ "من عمّ" العامي، ومراده بـ "القصدين" القصد الحسن
(1)
قال الحافظ في "فتح الباري": (1/ 16): (وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد بن منصور قال أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد اللَّه -هو ابن مسعود- قال: من هاجر يبتغي شيئًا فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له: مهاجر أم قيس. ورواه الطبراني رقم (8540) من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين) اهـ وصححَ إسنادَ الطبراني المزيُّ في "تهذيب الكمال": (4/ 285)، والذهبيُّ في "السير":(10/ 590).
المذكور في قول المؤلف: "إن ينتقل لغرض صحيح. . " إلخ، والقصد السَّيء المذكور في قوله:"وذُمَّ من نوى الدنا. . " إلخ. ومعنى البيت: أن العامِّي المنتقل من مذهب إلى مذهب إذا تجرَّد انتقاله عن القصْدَين بأن كان انتقاله لا لمقصدٍ حَسَن ولا لمقصدٍ قبيح بحيث لم يقصد دينًا ولا دنيا = فإن ذلك يجوز له.
ومفهوم قوله: "من عمَّ" الذي هو العامي أن الفقيه يُكْره له ذلك أو يمنع؛ لأنه قد حصَّل فقه المذهب الأول فيحتاج إلى زمن طويل لتحصيل المذهب الجديد، قاله السيوطي
(1)
. وقوله: "تُبِح" بضم التاء وكسر الباء مبني للفاعل مجزوم بلام الأمر، وقوله:"قصدَ" بالبناء للفاعل.
990 -
ثمَّ التزامُ مذهبٍ قد ذُكِرا
…
صحةُ فرضِه على من قَصُرا
يعني أن بعضَ العلماء ذكر صحة وجوب التزام مذهبٍ معين على من قَصُرَ باعُه عن بلوغ رتبة الاجتهاد المطلق، ومفهوم قوله:"ذُكِر" أن من العلماء من ينفي وجوبه.
قلت: الظاهر لي أنه لا يجب لانقضاء عصر الصحابة والتابعين والكلُّ متفق على أنه لا يلزمُ أحدًا أن يقلِّد فلانًا المعيّنَ إلى
(2)
قول غيره، ولأنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع، والأصل عدم الوجوب حتى يثبت بدليل محقَّق، وقوله:"قَصُر" بالتخفيف وضم الصاد مبنيًّا للفاعل، وقوله:"صحة" -بكسر الصاد- نائب فاعل "ذكر".
(1)
في رسالته المشار إليها.
(2)
كذا في الأصل، ولعل صوابها: دون. . .
991 -
والمُجْمَعُ اليومَ عليه الأربعه
…
وقَفْوُ غيرِها الجميعُ مَنَعه
يعني أنه وقع الإجماع على وجوب تقليد المذاهب الأربعة المعروفة، وأن الإجماع انعقد على منع اتباع مذهب مجتهد غيرهم من القرن الثامن الذي انقرض فيه مذهب داود إلى الآن وهلُمّ جرًّا، سواء كان اتباع التزام أو مجردَ تقليد في بعض المسائل؛ لأن المذاهب الأربعة انتشرت حتى ظهر تقييد مطلقها، وتخصيص عامها وشروط فروعها، فإذا أطلقوا حكمًا في موضع وُجد مكمَّلًا في موضع آخر، وأما غيرهم فتُنْقَل عنهم الفتاوى مجرَّدة، فلعَلَّ لها مكمِّلًا أو مقيِّدًا أو مخصِّصًا لو انضبط كلام قائله لظهر، فيصير في تقليده على غيره ثقة
(1)
. هذا مراد المؤلف.
والذي يظهر -واللَّه تعالى أعلم- أن هذه الاحتمالات التي عللوا بها تقليد غير الأربعة لا تصلح دليلًا على المنع مطلقًا؛ لجواز أن يحقق بعض الفتاوى تحقيقًا ظاهرًا لا لبس فيه، كما ذكر المؤلف نظيرَه في اتباع مذاهب الصحابة في قوله
(2)
:
ويقتدي من عمّ بالمجتهدِ
…
منهم لدى تحقُّق المعتمدِ
قال المؤلف في "الشرح"
(3)
: الظاهر أن مذهبَ مالك يتعين على جُلِّ أهل المغرب، إذ لا يكاد يوجد فيهم من يعرف فقه غيره من
(1)
انظر رسالة الحافظ ابن رجب الحنبلي (الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة).
(2)
البيت رقم (836).
(3)
(2/ 346) وما علل به المؤلف من عدم معرفة مذهب غير مالك، وانعدام كتب غيره -مع كونه غير مسلم- إلا أنه قد زال في أوقاتنا هذه.
المذاهب، وكذا أبي حنيفة في بلاد الروم.
992 -
حتى يجيءَ الفاطمي المُجَدِّدُ
…
دينَ الهدى لأنه مجتهِدُ
مراده بـ "الفاطمي" المهدي المنتظر لأنه من ذرية فاطمة رضي الله عنها وأخباره وسيرته وصفاته معروفة في الأحاديث النبوية
(1)
، ومعنى البيت: أن اتباع خصوص الأربعة دون غيرهم مستمر إلى مجيء المهدي المنتظر، فإذا جاء فلمن أدركه أن يترك مذاهبهم وينتقل إلى مذهبه لأنه مجتهد مجدِّد. هذا مراد المؤلف.
والذي يتبادر -واللَّه تعالى أعلم- أنه لا دليل من نقلٍ ولا عقل على امتناع وجود مجتهد قبل المهدي، لأن شروط الاجتهاد التي ذكرها المؤلف وغيره ليست مستحيلةَ التحصيل حتى يجزم بعدم حصولها بالفعل لاسيما وقد قال المؤلف:
والأرض لا عن قائمٍ مجتهد
…
تخلو إلى تزلزل القواعد
993 -
أنَهْيتُ ما جمَّعَه اجتهادي
…
وضَرْبي الأغوار مع الأنجد
994 -
مما أفادنيه درسُ البَرَرَه
…
مما انطوت عليه كُتْبُ المهَرَه
995 -
كالشرح للتنقيح والتنقيح
…
والجمعِ والآيات والتّلويح
996 -
مطالعًا لابن حُلُولُ الَّلامعا
…
مع حواشٍ تُعجبُ المُطالعا
"الأغوار" جمع غور وهو ما انخفض من الأرض، و"الأنجاد"
(1)
وقد جمع الأحاديث الواردة في "المهدي" مع بيان صحيحها من ضعيفها غير واحد، أوسعها:"موسوعة أحاديث المهدي" لعبد العليم البستوي، و"المهدي المنتظر" لعداب الحمش.
جمع نجد وهو ما ارتفع من الأرض، و"البَرَرَة" و"المَهَرَة" كلاهما بثلاث فَتَحات جمع بارٍّ وماهرٍ، و"التنقيح" و"شرحه" للقرافي، و"الجمع" يعني به "جمع الجوامع" لابن السبكي، و"الآيات" يعني البينات حاشية ابن قاسم العبَّادي على شرح المحلي لجمع الجوامع، و"التلويح" لسعد الدين التفتازاني شرح "التنقيح" لصدرالشريعة الحنفيّ، و"اللامع" هو "الضياء الّلامع" شرح "جمع الجوامع" لابن حلولو. ومراده بالحواشي التي تعجب المطالع حاشية ابن [أبي] شريف، وحاشية زكريا الأنصاري، وحاشية ناصر الدين الّلقاني، وحاشية شهاب الدين عُمَيرة على المحَلِّي.
997 -
فالحمد للَّه العليّ المُجْزِل
…
المانح الفضل لنا المُكَمِّلِ
998 -
لنعمٍ عنها يكِلِّ العَدُّ
…
لو كان ما في الأرض لي يَمُدُّ
999 -
ثمَّ صلاة اللَّه والسلامُ
…
على الذي انجلى به الظلامُ
1000 -
محمدِ الّذي سما فوق السَّما
…
وأهلِه من بعد ما الأرضَ سما
1001 -
أسأله الحُسْنى وزَيْدًا والرِّضا
…
واللطفَ بي فى كلِّ أمرٍ قد قَضَى
"المجزل" المكثر، و"المانح" المعطي، و"يكلّ" معناه يضعف ويعجز، و"يمُدّ" معناه يعين ويزيد، وقوله:"وزَيْدًا" يعني النظر إلى وجه اللَّه الكريم. و"الحسنى" يعني الجنة
(1)
.
(1)
جاء في خاتمة الأصل الذي اعتمدت عليه ما نصه: "تم بحمد اللَّه وحسن عونه كتابة ما أملاه العلامة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني شرحًا لمراقي السعود للعلامة سيد عبد اللَّه بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي على يد كابته لنفسه أحمد محمود عبد الوهاب ضحى يوم الاثنين الثالث عشر من رجب عام تسعين وثلاثمئة وألف هجرية، وصلى اللَّه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه".