المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ المصيب من المختلفين في العقليات واحد - نثر الورود شرح مراقي السعود - جـ ٢

[محمد الأمين الشنقيطي]

فهرس الكتاب

- ‌كتابُ القِيَاس

- ‌أركانه

- ‌مركب الوصف" له صورتان:

- ‌ القياس المركب بنوعَيه

- ‌الفرع

- ‌ يُشترط في الفرع المقيس وجودُ علة الأصل بتمامها

- ‌ المعارضة بمقتضى خلاف الحكم

- ‌العِلَّة

- ‌ التعليل بالحكمة

- ‌ الوصف المعلل به أربعة أقسام:

- ‌ العدميَّ عند الفقهاء

- ‌تنبيهان

- ‌ إذا كان للمعنى [الواحد] عبارتان إحداهما نفي والأخرى إثبات

- ‌ إذا قُطِع بانتفاء الحكمة في صورة هل يثبت الحكم فيها مع تخلف الحكمة

- ‌ ثلاثَ صور من صور العلة القاصرة:

- ‌ جزء محل الحكم إذا كان غير خاصٍّ به لا يكون من صور القاصرة

- ‌ يجوز أن يكون لحكم واحد علتان فأكثر عند الجمهور

- ‌ تعدد الحكم لعلة واحدة

- ‌مَسَالك العِلَّة

- ‌ المسلك الثاني هو النَّصُّ

- ‌ من أمثلة الإيماء تفريق الشارع بين حكمين بواحد من أربعة أمور:

- ‌الأصلُ تقديم التقسيم

- ‌ المرادَ بهذا المسلك وأنه متركِّب من أمرين:

- ‌ لا يمتنع أن يكون حصر الأوصاف ظنيًّا

- ‌ الوصف الطردي قسمان:

- ‌ يعْسُر جدًّا حقيقة الفرق بين الوصف الذي تعين للعلية بمسلك المناسبة وبين الوصف المستبقَى بالسبر

- ‌ الضروريات التي هي أصول المصالح:

- ‌ التتميمىَّ قسمان:

- ‌ربما قيل للغريب: طَرْدٌ وطَرْديٌّ

- ‌ الشبه فوق الطَّرْد ودون المناسب

- ‌ إسماعيل بن عُلَية يرى جواز العمل بقياس الشبه الصوري

- ‌تنقِيح المنَاط

- ‌إلغاء الفارق أربعة أقسام

- ‌ من تنقيح المناط ما هو بغير إلغاء الفارق

- ‌القَوادح

- ‌ العلة المستنبطة لا يُقْدَح فيها بالنقض بل يكون تخصيصًا لها

- ‌ الثاني من القوادح: الكسر

- ‌لهذا النوع من الكسر صورتان:

- ‌ القدح بعدم التأثير ثلاثة أقسام:

- ‌ القلب مبطل للقياس بإبطاله العلة

- ‌ قلب القياس قسمان:

- ‌الأول: النفي

- ‌الثاني: الثبوت

- ‌الثالث: أن يَرِد القول بالموجَب لشمول لفظ المستدل صورةً متفقًا عليها

- ‌ من القوادح الفرق بين الفرع والأصل

- ‌ بعض أهل الأصول فصَّل في الخلاف المذكور

- ‌ من القوادح فسادُ الوضعِ

- ‌ من فساد الوضع كون الوصف الجامع ثبت اعتباره بإجماع أو نصٍّ

- ‌ اختلف في النسبة بين فساد الوضع وفساد الاعتبار على قولين:

- ‌جواب الاعتراض بفساد الاعتبار

- ‌خاتِمَة

- ‌ الحكم الثابت بالقياس لا يُنسب إلى اللَّه ولا إلى الرسول

- ‌ تقسيم آخرُ للقياس باعتبار علته

- ‌كتابُ الاسْتِدلَال

- ‌ من الاستدلال قياس العكس

- ‌ من أنواع الاستدلال: الاستقراء

- ‌ الاستقراء ينقسم إلى تام وغير تام

- ‌ محل استصحاب العدم الأصليّ ما لم يعارض الغالبُ ذلك الأصل

- ‌ فروع هذا الأصل منها ما اخْتُلِف فيه بناءً على الاختلاف في هذا الأصل

- ‌ في معنى الاستحسان المعمول به عند المالكية أربعة أقوال:

- ‌ الإلهام ليس بحجة

- ‌الأولى: الضررُ يُزال

- ‌الثانية: المشقة تجلب التيسير

- ‌الرابعة: العادة مُحَكَّمة

- ‌كتاب التعَادل والتَّراجِيح

- ‌ ذكر الأقوال الضعيفة في كتب الفقه ليس للعمل بها

- ‌أوجه الجمع كثيرة

- ‌التَّرْجيح باعتبار حَال الرَّاوي

- ‌ العلوَّ في السند مرجح على مقابله

- ‌ عدم التدليس‌‌ من المرجِّحات

- ‌ من المرجِّحات

- ‌ رواية الذَّكَر تُرَجَّح على رواية الأنثى

- ‌ يقدَّم خبر من له اسم واحد على من له اسمان

- ‌ الراوي باللفظ يقدَّم على الراوي بالمعنى

- ‌التّرجيح باعتبار حَال المرويّ

- ‌ كثرة الأدلة على أحد المتعارضين مرجِّحة

- ‌ تقديم القول على الفعل أغلبي، وربما قُدِّم الفعل

- ‌ الخبر المدني مرجَّح على المكي لأنه بعده

- ‌ الخبر الذي جمع العلة والحكم معًا مقدَّم على ما أفاد الحكم دون العلة

- ‌ العام الذي هو نكرة في سياق النفي مقدَّم على غيره من أدوات العام

- ‌ الدال بالاقتضاء مقدم على الدال بالإشارة

- ‌ مفهوم الموافقة مقدَّم على مفهوم المخالفة

- ‌الترجيح باعتبار المدْلُول

- ‌ الخبر المتضمِّنَ للتكليف مقدَّم على النهي وعلى الأمر

- ‌ الخبر الدالَّ على نفي الحدِّ مقدَّم على الدال على الحد

- ‌ترجيح الإجماعات

- ‌ الإجماعَ يرجَّح على النصِّ

- ‌ترجيح الأَقْيسَة والحدُود

- ‌ يرجح أحد القياسين بكون وجود العلة في الأصل مقطوعًا به

- ‌ العلة المنصوصة مرجَّحَة على المستنبطة

- ‌ اختلفوا في العلتين المتعديتين إذا كانت إحداهما أكثر فروعًا

- ‌القياس الذي علته ذاتية مقدم على الذي علته حكمية

- ‌ ترجيح الحدود

- ‌يقدم الحدُّ الأوضح على الواضح

- ‌يقدَّم الحدُّ الأعم نفعًا على حدٍ أخصَّ منه

- ‌كتابُ الاجتهَاد في الفُروع

- ‌ شروط المجتهد

- ‌ من شروط المجتهد أن يكون عارفًا بأنه مكلَّف بالتمسُّك بالدليل العقلي

- ‌ أن يكون عارفًا بمواضع الأحكام من المُصْحَف والأحاديث

- ‌ مجتهد المذهب أعلى رتبة من مجتهد الفُتيا

- ‌ الصحيحَ الذي عليه الأكثر جوازُ تجزُّؤ الاجتهاد بأنواعه

- ‌ المصيب من المختلفين في العقليات واحد

- ‌فصل التقليد في الفُروع

- ‌ التقليد لا يجوز في الفروع لمن بلغَ رتبةَ الاجتهاد

- ‌هل يجوز الإفتاء في الخصومات التي شأنها الرفع إلى القاضي

- ‌ العامي إذا قلد مجتهدًا في مسألة، يجوز له أن يقلِّدَ غيره في مسألة أخرى

- ‌فهرس المراجع

الفصل: ‌ المصيب من المختلفين في العقليات واحد

عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: لا يجوز الاجتهاد لأحد في عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأنه عصر الوحي، وقيل: لا يجوز للحاضر في قُطْر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره.

ودليلُ وقوع الاجتهاد من غيره صلى الله عليه وسلم في عصره صلى الله عليه وسلم: حكمُ سعد بن معاذ في بني قريظة بأن تُقْتَل مقاتِلَتُهم وتُسْبَي ذَرارِيْهِم، وقال صلى الله عليه وسلم:"لقد حكمتَ فيهم بما حَكَم تعالى به"

(1)

. وقول أبي بكر يوم حُنين: "لاها اللَّه إذا. . . " الحديث، مع قوله صلى الله عليه وسلم:"صدق"

(2)

. وأمثال هذا كثيرة جدًّا يفيد مجموعها التواتر المعنوي. وقوله: "عصره" منصوب على الظرفية.

938 -

ووحِّد المُصيب في العقلِيِّ

ومالِكٌ رآه في الفَرْعِيّ

يعني أن‌

‌ المصيب من المختلفين في العقليات واحد

، والمراد عنده بالعقليات: ما لا يتوقف على السمع كوجود اللَّه وصفاته التي يتوقف عليها وجود الخلق

(3)

، وكحدوث العالم، وذلك الواحد المصيب هو من

(1)

أخرجه البخاري رقم (3043)، ومسلم رقم (1768) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري رقم (4321)، ومسلم رقم (1751) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(3)

هذه طريقة متأخري المتكلمين كالرازي ومن تبعه في إثبات الصفات العقلية أو المعنوية، وهي: العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة. فهم يثبتونها بالعقل فقط. وهي طريقة باطلة مخالفة لطريقة السلف والأئمة الذين يثبتونها بالعقل كما ثبتت بالسمع. انظر "شرح الأصبهانية":(ص/ 18 - 24 - ت السعوي)، و"مجموع الفتاوى":(12/ 32) كلاهما لابن تيمية، و"موقف ابن تيمية من الأشاعرة":(3/ 1049 - 1053) للمحمود، و"منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة":(2/ 502 - وما بعدها) لخالد نور.

ص: 652

صادف الحق، ومعنى كونه واحدًا: أنهم لا يصيبون جميعًا بل إما أن يخطئوا كلهم أو يصيب منهم واحد فقط، فمن أداه اجتهاده مثلًا إلى أن العالم قديمٌ لا أول لوجوده كالفلاسفة فهو غيرُ مصيب.

وقوله: "ومالك" إلخ يعني أن الإمام مالكًا رحمه الله ذهب إلى أن المصيب من المجتهدين المختلفين في الفرعيات واحد أيضًا، والمراد بالفرعيات: مسائل الفقه التي لا قاطع فيها، وكون المصيب فيها واحدًا هو الأصح من مذهب مالك هو مذهب الجمهور محتجِّين بأنه تعالى شرَعَ الشرائع لجلب المصالح ودرء المفاسد، ووجود المصلحة أو درء المفسدة في النقيضين محال؛ فيتعيَّن اتحاد الحكم فيكون المصيب واحدًا. وقوله:"ووحِّدِ" فعل أمر مفعولُه المصيب.

939 -

فالحُكْم في مَذْهَبِه معيَّنُ

له على الصحيح ما يبيِّنُ

يعني أن حكم اللَّه تعالى في الواقعة في مذهب مالك مُعَينٌ قبل حصول الاجتهاد فيها لكنه غيرُ معلوم لنا، فمن أصاب ذلك الحكم المعيَّن فهو المصيب ومن أخطأه فهو المخطئ. ولابد -على الصحيح- أن يكون لذلك الحكم المعيَّن ما يبينه -أي يُظهره- للمجتهد من دليل ظنِّيٍّ أو قطعيٍّ، فإن أخطأ

(1)

المجتهد لم يأثم، ولم يقل بأنه يأثم إلا بشر المَرِيسي من المعتزلة.

ومفهوم قوله: "على الصحيح" أن بعضهم قال: لا دليل على ذلك

(1)

ط: أخطأه.

ص: 653

الحكم المعيَّن قطعيًّا ولا ظنيًّا، أي ليس بينه وبين شيء ارتباط حتى يدل عليه بل هو كدَفِيْنٍ يُعْثَر عليه، والنصوص أسباب عادية للمصادفة كالمشي إلى محل الدفين، ولا يخفى سقوط هذا القول. والضمير في "مذهبه" عائد إلى "مالك"، و"معيَّن" بصيغة اسم المفعول، و"يبيِّن" بالبناء للفاعل.

940 -

مخطِئه وإن عليه انحَتَما

إصابةٌ له الثواب ارْتَسَما

يعني أن المجتهد إذا أخطأ ذلك الحكم المعيَّن يثبت له الثواب الذي هو الأجر لبذله الوُسْع في طلبه، وقد نصَّ على هذا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"إذا اجتهد الحاكمُ فأصابَ فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد"

(1)

.

وقوله: "وإن عليه انحتما إصابة" يعني أن الأجرَ ثابتٌ للمجتهد المخطئ ولو على القول القائل بأنه تجب عليه إصابة الحكم المعيَّن لإمكانها بالدليل المشار إليه بقوله: "له على الصحيح ما يبيِّن"، وأحرى في ثبوت الأجر له إذا مشينا على القول بأن المجتهد لا تجب عليه إصابة الحكم لغموضه.

فإن قيل: لِمَ كان المجتهد المخطئ في الفروع لا يأثم والمجتهد المخطئ في العقليات يأثم

(2)

؟

(1)

أخرجه البخاري رقم (7352)، ومسلم رقم (1716) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

(2)

إن قصد بالأمور العقلية مسائل الأصول -المقابلة للفروع- فالصحيح أنه لا فرق بينها إذا استفرغ المجتهد وسعه في إصابة الحق. انظر "مجموع الفتاوى": (21/ 33 - 36، 12/ 492 - 493).

ص: 654

فالجواب: ما ذكره القرافي من أن المخطئ في الفروع لم يُضِفْ إلى اللَّه شيئًا مستحيلًا في حقه بخلاف المخطئ في العقليات.

وقول المؤلف: "مخطئه" مبتدأ والضمير عائد إلى "الحكم" وخبر المبتدأ جملة: "له الثواب ارتسما"، و"إصابة" فاعل "انحتم" وضمير "عليه" للمجتهد، و"ارتسم" بالبناء للفاعل بمعنى ثَبَت.

941 -

ومن رأى كلًّا مُصيبًا يعتقدْ

لأنَه يَتْبعُ ظنَّ المجتهدْ

942 -

أو ثَمَّ ما لو عُيَّن الحُكْمُ حَكَمْ

به لدَرْءٍ أوْ لجلبٍ قد أَلمْ

943 -

لذا يُصَوِّبون في ابتداءِ

والاجتهادِ دونَ الانتهاءَ

944 -

والحكم. . . . .

. . . . . . . . . . .

لما ذكر في الأبيات المتقدمة قول المخطِّئة -بتشديد الطاء بصيغة اسم الفاعل- وهم الذين يقولون: المصيب واحد، ذكر في هذه الأبيات قول المصوِّبة -بصيغة اسم الفاعل أيضًا- وهم الذين يقولون: كل مجتهد مصيب. ومعنى الأبيات: أن الأشعري والباقلاني من المصوبة قالوا: إن كل مجتهد في المسألة التي لا قاطع فيها مصيب ولم يزيدوا على ذلك، وهذا مراده بالبيت الأول.

وقال من المصوبة أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وابن سُرَيج من الشافعية زيادة على ما قاله الأولان: إن في المسألة شيئًا لو حكم اللَّه فيها على التعيين لحكم به، لأن فيه من جَلْب المصلحة أو درء المفسدة ما ليس في غيره، لكنَّ اللَّه لمَّا لم يحكم فيها بمعين كان حكمه فيها ما يظنه المجتهد، وإيضاح قولهم: أنه ما من مسألة إلا ولها مناسبة خاصة ببعض

ص: 655

الأحكام بعينه، بحيث لو حكم اللَّه فيها على التعيين لكان حكمه بذلك البعض بعينه لكونه راجحًا في درء المفسدة أو جلب المصلحة، وهذا القول حكمٌ بالفرض والتقدير لا بالتحقيق. ونظيره ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر:"لو كان بعدي نبيٌّ لكنتَ"

(1)

.

فحاصل هذه المسألة أن الأشعري والباقلاني قالا بمجرَّد تبعية الحكم لظن المجتهد من غير أن يكون هناك ما لو حكم اللَّه لكان به، وصاحبا أبي حنيفة وابن سريج زادوا على التبعية لظن المجتهد أن هناك ما لو حكم اللَّه لكان به، وهذا مراده بقوله:"أو ثمَّ ما لو عين الحكم حكم". والقائلون بهذه الزيادة يقولون: إنْ لم يصادف ذلك الشيء الذي لو حكم اللَّه بالتعيين لحكم به أصاب ابتداءً لا انتهاءً، وبعبارة أخرى: أصاب اجتهادًا لا حكمًا، فهو مخطئ حكمًا وانتهاءً، وإنما أصاب عندهم اجتهادًا لأن اللّازم في الاجتهاد بذل الوُسع لأنه غاية المقدور، وقد فعله، وإنما خطؤه في الحكم لأنه لم يصادف الشيءَ الذي لو حكم اللَّه لكان. ومعنى قولهم: أصاب ابتداءً، أنه بذل وُسْعه على الوجه المعتبر عنده. وقالوا: أخطأ انتهاءً، لأن اجتهاده لم يؤدِّه إلى ما لو حكم اللَّه لكان به.

واعلم أن الخطأ في الحكم عند هؤلاء الثلاثة غيرُ الخطأ فيه عند الجمهور، لأن الخطأ عند الثلاثة عدم مصادفة ما لو حكم اللَّه لكان به وإن

(1)

أخرجه أحمد: (28/ 624 رقم 17405)، والترمذي رقم (3686)، والحاكم:(3/ 85)، والطبراني:(17/ 298) وغيرهم من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ص: 656

لم يحكم به، فجُعِل مخطئًا لعدم مصادفة ماله المناسبة الخاصة وإن لم يحكم به. ومعنى الخطأ عند الجمهور: عدم مصادفة ما لو حَكَم اللَّه به بعينه في نفس الأمر. فالحاصل أن عند الجمهور حكمًا معينًا قبل الاجتهاد، وعند الثلاثة ما لو حكم اللَّه لكان به ولا حكم معينًا قبل الاجتهاد.

وواو الفاعل في قوله: "يصوِّبون" عائدة إلى الثلاثة المذكورين، والتصويب في الابتداء، والاجتهاد والتخطئة في الانتهاء والحكم عبارتان معناهما واحد كما تبيَّن.

. . . . . . . وهو واحدٌ متى عُقِلْ

في الفرعِ قاطعٌ ولكنْ قد جُهِلْ

يعني أن المصيب واحد في المسألة الفرعية التي لها دليل قاطع من نصٍّ أو إجماع واخْتَلَفَ فيها المجتهدون لعدم علمهم بذلك القاطع، والمصيب في ذلك هو من وافق ذلك القاطع، وقيل: تُبْني

(1)

المسألة على الخلاف المتقدم، هل كل مجتهد مصيب أو

(2)

المصيب واحدٌ لا بعينه؟

والدليل لا يكون قاطعًا إلَّا إذا كان قطعي المتن والدِّلالة بأن يكون صريحًا متواترًا. وقوله: "عُقِل" و"جُهِل" بالبناء للمفعول، ومعنى جُهِل: أن المجتهدين المختلفين جهلوا ذلك الدليل القاطع في المسألة، وضمير "وهو" عائد إلى "المصيب".

945 -

وهو آثمٌ متى ما قَصَّرا

في نظرٍ وَفْقًا لدى منْ قد دَرَى

(1)

ط: تبقى.

(2)

الأصل: و، والتصحيح من ط.

ص: 657

يعني أن المجتهد متى قصَّر في نظره في مسألة أَثِمَ "وفقًا" أي اتفاقًا بتركه الواجب من بذل الوُسْع، وعبَّر المؤلف بقوله:"في نظر" بدل تعبير غيره بقوله: "في اجتهاد" لأن النظر المقصِّر فيه ليْسَ اجتهادًا؛ لأن الاجتهاد استفراغ الوُسع، ولا استفراغ مع التقصير، ومراده بمن دَرَى علماء الأصول.

946 -

والحكمُ من مجتهدٍ كيفَ وَقَعْ

دون شذوذٍ نقضُه قَدِ امتنَعْ

يعني أن حكمَ المجتهد لا يُنْقَض لأنه يرفع الخلاف، سواء كان مجتهدًا مطلقًا أو مجتهدَ مذهب أو فُتيا، وذلك هو مراده بقوله:"كيف وقع" أي كيف كان المجتهد من الأقسام الثلاثة. ولو ظهر أن غيره أصوب فلا ينقض حَسْمًا لمادة التَّسَلْسُلِ في النقض، وذكر خليل في "المختصر"

(1)

أن القاضي ينقض حكم نفسه إن ظهر أن غيره أصوب. ومحلُّ عدم نقضه في المستثنيات الآتية في قوله: "إلَّا إذا النصَّ. . " إلخ، فإن لم يظهر أن غيره أصوب لم ينقض إجماعًا، ومفهوم قوله:"مجتهد" سيأتي في قوله: "أو بغير المعتلي"، ومفهوم قوله:"دون شذوذ" أنه إذا حكم بشاذٍّ جدًّا وصار إليه من غير ترجيح يجوز نقض حكمه.

947 -

إلَّا إذا النصَّ أو الإجماعَ أوْ

قاعدةً خالفَ فيما قد رأَوْا

يعني أن محلَّ ما ذكر في البيت قبل هذا من منع نقض حكم المجتهد محلُّه ما لم يخالف نصًّا أو إجماعًا أو قاعدة، فإن خالف واحدًا منها نُقض

(1)

(ص/ 236).

ص: 658

فينقضه هو وغيرُه.

مثال مخالفة الكتاب: ما لو حَكَم بأن بعض الورثة المذكورين في القرآن لا يرث. ومثال مخالفة السنة: ما لو حَكَم بفساد السَّلَم في الحيوانات

(1)

. ومثال مخالفة الإجماع: ما لو حكم بأن الأخ يحجب الجدَّ في الميراث

(2)

. ومثال مخالفة القاعدة:

(3)

ما لو حَكَم بتقرير النكاح في المسألة المعروفة بالسُّرَيْجيَّة -منسوبة إلى ابن سُريج من الشافعيَّة القائل بها- وهي: أن من قال لزوجته: إن طلقتكِ فأنتِ طالق قبلَه ثلاثًا ثم طلقها، لا يلزم؛ لأن الثلاث المعلقة على الطلاق يقدر مجيئها، فتكون الطلقة المعلَّق عليها رابعة فتَرْتَفِع الثلاث قبلها لعدم وجود ما عُلِّقت عليه. ووجه مخالفة هذا للقواعد أنه يؤدي إلى وجود المشروط في وقت ينعدم فيه الشرط، والقاعدة: أن المشروط لا يوجد إلَّا عند وجود الشرط فيوجدان في وقت واحد ضرورة. وقول المؤلف: "النصَّ" مفعول "خالفَ" مقدَّم عليه وما بعده معطوف عليه، وتقريره: إلَّا إذا خالف النصَّ أو الإجماع أو القواعد،

(1)

ثبت في "صحيح مسلم" رقم (1600) عن أبي رافع أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرًا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبا رافع فقال: لم أجد بها إلا خيارًا رباعيًا فقال: "أعطه إياه إن خيار الناس أحسنهم قضاء".

(2)

تقدم في الإجماع (ص/ 399) أن السلف اختلفوا في توريث الجد مع الإخوة، فمنهم من قال الجد يحجب الإخوة، ومنهم من قال يشتركون. فلا يجوز إحداث قول ثالث كحجب الإخوة للجد.

(3)

ط: القواعد.

ص: 659

وضمير "رأوا" لأهل الأصول.

948 -

أو اجتهادَه أو القَيْسَ الجلي

على الأصح. . . . .

يعني أن حكم المجتهد يُنْقَض أيضًا إذا ظهر أنه خرج فيه عن رأيه وما يؤدِّي إليه اجتهاده بأنه قلَّدَ غيره وترك اجتهادَ نفسِه، سواء كان تقليده للغير بالتزامٍ أو بدونه، فقوله:"أو اجتهاده" معطوف على ما قبله أي أو خالف اجتهاده فإن حكمه يُنْقَض، ولكن في هذه المسألة ينقضه هو فقط لا غيره.

وقوله: "أو القيس الجليّ" يعني أن حكمَ المجتهد يُنْقَض مطلقًا إذا خالف القياس الجليّ، وهو الذي لا شك في صحته، ومثاله: ما لو حكم بشهادة الكافر، فإن اللَّه تعالى قال في الفاسق:{وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور/ 4]، فيقضي القياسُ الجليُّ ردَّ شهادة الكافر قياسًا أحْرَويًّا على الفاسق.

وقوله: "على الأصح" راجع لجميع المسائل التي ذكر أنه ينقض فيها حكم المجتهد في قوله: "إلَّا إذا النصَّ" إلخ، ومقابل الأصح قول ابن عبد الحكم: أنه لا يُنقض ولو خالف نَصًّا أو إجماعًا

(1)

إلخ.

. . . . . . . . . . .

. . . . أو بغير المُعْتلي

949 -

حَكَمَ في مذهبه وإن وَصَلْ

لرتبةِ الترجيحِ فالنقضُ انحظَلْ

يعني أن حكمَ المقلِّدِ باسم الفاعل "بغير المعتلي" أي المشهور من مذهبه يُنقض لأنه لا يعدل عن المشهور إلَّا لغرض فاسد، ومحلُّ هذا فيما

(1)

انظر "النشر": (2/ 326).

ص: 660

إذا لم يبلغ رتبة مجتهد الترجيح، فإن بَلَغها فلا يُنقض حكمُه بغير المشهور لأنه هو يرجِّحه باجتهاده. وقال الطرطوشي: لا يلزم المقلِّدُ لمذهب تقليد ذلك المذهب في الحكم والفتوى، وهو قريب من قول اللَّخميّ بالتخريج على غير أصول إمامه كما تقدم

(1)

.

950 -

وقدِّم الضعيفَ إن جرى عَمَلْ

به لأجلِ سَبَب قد اتَّصَلْ

يعني أن الضعيف إذا جرى به العمل يُقَدَّم على المشهور ولكنَّ لذلك شروط، منها: أن يكون السبب الذي عُدِل عن المشهور من أجله متصلًا بنا أي موجودًا، وبشرط

(2)

أن يكون العمل موافقًا لقولٍ، وأن يثبت العمل بالبينة، وأن يكون مُجْريه الأولُ أهلًا للترجيح، ذَكَر هذه الشروط صاحبُ "نور البصر"

(3)

.

فالمتأخرون من أهل المذهب لهم تصحيحات وترجيحات لبعض الروايات والأقوال عدلوا فيها عن المشهور لجلب المصلحة أو دَرْءِ المفسدة وجرى بها عمل الحكَّام والمفتين، ومن ذلك أن علماءَ فاس لما رأوا كثرة كذب النساء في دعوى انقضاء العدة صاروا لا يقبلون من المرأة دعوى انقضائها في أقلِّ من ثلاثة أشهر، مع أن القول بعدم تصديقها

(1)

(ص/ 647).

(2)

ط: ويشترط.

(3)

لعله يقصد كتاب "نور البصر شرح المختصر" المعروف باسم "إتحاف المقتنع بالقليل في شرح مختصر خليل" لأبي العباس سيدي أحمد بن عبد العزيز الهلالي (ت: 1175) وهو مطبوع بفاس عام 1292.

ص: 661

ضعيفٌ جدًّا

(1)

.

951 -

وهل يقيسُ ذو الأصول إن عُدِمْ

نصُّ إمامِه الذي له لزِمْ

952 -

مع التزامِ ما لَهُ أو مطلقا

وبعضهم بنصِّه تعلَّقا

يعني أن المقلِّد العارف بعلم الأصول إذا عدم نصَّ إمامه في مسألة، اختَلَف فيه المالكية على ثلاثة أقوال:

الأول: أنه يجوز له القياس مع التزام ما لإمامه من الأصول فلا يقيس المالكي على أصول الشافعي مثلًا إذا خالفت أصول مالك، وهذا قول ابن رشد والمازري والتونُسي

(2)

وأكثر المالكية.

الثاني: يجوز القياسُ مطلقًا ولو على غير أصول مذهبه مع وجود أصول مذهبه، وهذا قول اللّخميّ وفعله كما تقدم

(3)

.

الثالث: أنه يلزمه التعلق بنصوص إمامه فلا يفتي ولا يحكم إلَّا بشيءٍ سمعه منه، وهو نصُّ ابن العربيّ، وظاهرُ كلام الباجيّ، فإن لم يجد نصًّا ولا أصلًا في مذهبه وجبَ عليه اتباع نصِّ غيرِ إمامه، ثم أصل غير إمامه، إذ لا يجوز له الخروج على الأدلة. فتحصَّل أن الأول نصّ إمامه، ثم أصل إمامه، ثم نصّ غير إمامه، ثم أصل غير إمامه.

(1)

انظر "نشر البنود": (2/ 327).

(2)

ط: التونسيين! والتونسي هو: إبراهيم بن حسن بن يحيي أبو إسحاق المعافري (ت: 434 هـ) قال عياض: له شروح حسنة وتعاليق مستعملة متنافس فيها على كتاب ابن الموَّاز والمدونة. انظر "جمهرة تراجم المالكية - وحاشيته": (1/ 154 - 155).

(3)

(ص/ 647).

ص: 662

واختلف المالكية في المالكي الذي لم يجد نصًّا في مذهبه في المسألة ووجدها منصوصة للشافعيّ وأبي حنيفة معًا أيهما يقدَّم؟ فقيل: الشافعي لأنه تلميذ مالك، وقيل: أبو حنيفة لأنه أقل خلافًا مع مالك

(1)

.

953 -

ولم يُضَمَّن ذو اجْتهادٍ ضَيَّعا

إن يكُ لا لِقاطعٍ قد رَجَعا

يعني أن المجتهد إذا أتلف شيئًا بفتواه أوْ حكمه ثم رجع عن ذلك، لا ضمان عليه لأنه بذل وُسْعه الواجب عليه، إلَّا إذا كان رجوعه لدليل قاطع في المسألة من نصَّ قرآن، أو سنة متواترة، أو إجماع فإنه يضمن، لأن حكمه أو فتواه بخلاف القاطع دليل على تقصيره في النظر. ذكر هذه المسألة الحطاب

(2)

عند قول خليل: "مبينًا لِمَا به الفتوى"

(3)

.

(1)

انظر "النشر": (2/ 328).

(2)

في "مواهب الجليل": (1/ 33) ونصه: (فرع: من أفتي رجلًا فأتلف بفتواه مالًا، فإن كان مجتهدًا فلا شيء عليه، وإلا فقال المازري: يضمن ما تلف ويجب على الحاكم التغليظ عليه، وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال بالعلم فيسقط عنه الأدب ويُنهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلًا. ونقل البرزلي عن ابن رشد في أوائل النكاح أنه لا ضمان عليه لأنه غرور بالقول إلا أن يتولى فعل ما أفتى به فيضمن. وذكر في أوائل كتابه عن الشعبي أنه يضمن قال: وهذا عندي في المفتي الذي يجب تقليده المنتصب لذلك وأما غيره فكالغرور بالقول ويجري على أحكامه. فتحصَّل أن المفتي المنتصب لذلك يضمن، ولعل ابن رشد لا يخالف فيه؛ لأن هذا يُحْكَم بفتواه فهو كالشاهد يرجع عن الشهادة، وأما غير المنتصب ففيه قولان لابن رشد والمازري واللَّه أعلم) اهـ.

(3)

(ص/ 9).

ص: 663

954 -

إلَّا فهَلْ يضمَنُ أو لا يضمَنُ

إن لم يَكُن منه تَولٍ بَيِّنُ

يعني أن المتلِف شيئًا بفتواه أو حكمه إن لم يكن مجتهدًا بأن كان مقلِّدًا ولم يتولَّ التنفيذَ بنفسه اختلف في ضمانه، فقيل: يضمنه، وهو قول المازري لأنه أتلفه بغير حق، وإن لم يتقدم له اشتغالٌ بالعلم أُدِّبَ أيضًا، وقيل: لا يضمن لأنه غرور بالقول وهو قول ابن رشد، فإن تولى التنفيذ بنفسه ضمن بلا خلاف، فقول المؤلف:"إلَّا" أي إلَّا يكن الحاكم المتلف مجتهدًا، وهذا في غير المنتصب لدليل قوله:

955 -

وإن يكنْ منتصِبًا فالنظَرُ

ذاك وِفاقا عِنْدَ من يُحَرِّرُ

يعني أن غير المجتهد إذا كان منتصبًا للقضاء أو الفتوى وأتلف شيئًا بواحد منهما ثم رجع، فالذي يقتضيه النظر ذاك -يعني التضمين- "وفاقًا عند من يحرِّرُ" أي يحقق المسائل، يعني به الحطاب شارحِ خليل

(1)

فإنه نصَّ على ذلك عند قول خليل: "مبينًا لما به الفتوى" وإنما ضمِن المنتصب لأنه يَحكم بفتواه ويُنفذ حكمه فهو كالشاهد يرجع عن

(2)

شهادته.

(1)

تقدم نقل كلامه بحروفه.

(2)

ط: يرجح عند!

ص: 664