الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالثة: أن ينبهم الأمر فلا يبين المعترض صلاحيته ولا المستدل عدمها، فالسَّبر منتقض بذلك الوصف المنبهم لأن السبر مبني على أصلَيْن؛ وهما الحصر والإبطال، وزيا دة الوصف المذكور تهدم أحدهما وهو الحصر، وهذا مراد المؤلف بالبيت.
699 -
أبطِلْ لِمَا طَرْدًا يُرَى. . . .
…
. . . . . . . . . . . .
تقدم في قول المؤلف: "ويبطل الذي لها لا يصلح" وبيّن هنا طرق الإبطال المذكور هناك فذكر أن منها كون الوصف طردًا
(1)
ويقال له: الطرديُّ أيضًا، والمراد به ما عُلِم من الشارع إلغاؤه وعدم إناطة الأحكام به، ويُعْلَم ذلك باستقراء موارد الشرع.
واعلم أن
الوصف الطردي قسمان:
الأول: ما هو طردي في جميع الأحكام كالطول والقِصَر فلا يعلل بهما شيء من أحكام الشرع.
الثاني: أن يكون طرديًّا في بعض الأحكام مع كونه معتبرًا في بعض آخر كالذكورة والأنوثة، فإنهما وصفان طرديَّان بالنسبة إلى العتق فلا يُعلل شيء من أحكام العتق بذكورة ولا أنوثة مع أنهما معتبران في بعض الأحكام كالميراث والشهادة ونحوِ ذلك، وقوله:"طردًا" مفعول ثان لـ "يُرَى" ومفعوله الأول هو الضمير النائب عن الفاعل.
. . . . . . . . . ويبطُلُ
…
غيرَ مناسبٍ له المُنْخَزِلُ
(1)
الأصل: طرديًّا، والمثبت من "النشر"، وهو الأنسب بدليل ما بعده.
يعني أن من طُرق الإبطال أيضًا -بعد ثبوت حصر الأوصاف- عدم ظهور مناسبة الوصف المنخزل أي المحذوف، وهو الوصف الذي يريد المستدل إسقاطه ليتعين غيره للعلة، والمراد بمناسبة الوصف مناسبته للحكم بأن يشتمل على حِكْمةٍ كما تقدم، وإنما كان عدمُ المناسبة من طرق الإبطال لانتفاء مثبت
(1)
العلية.
فإن قيل: تقدم في الإيماء أنه لا يُشترط فيه ظهور المناسبة عند الأكثر فما وجه اشتراطها في السبر دونه؟
فالجواب: أن السبر تعدَّدت فيه الأوصاف فاحتيج إلى بيان صلاحية بعضها للعلية بظهور المناسبة [فيه] فاشتراطه هنا لعارض
(2)
.
700 -
كذاكَ بالإلغا وإن قَدْ ناسَبا
…
وبتعَدّي وصفِهِ الذي اجتَبَى
ذكر في هذا البيت طريقين من طرق الإبطال أيضًا بعد ثبوت الحصر:
الأولى: هي أن يكون الوصفُ مُلغًى وإن كان مناسبًا للحكم المتنازع فيه، ويتحقق الإلغاء بأن يستقل بالحكم الوصفُ المستبقَى دون غيره في صورة مجمعٍ عليها كما قاله الفهري. ومثاله: استقلالُ الطَّعم بالحكم الذي هو حرمة ربا الفضل في مِلء كف من القمح دون الكيل والاقتيات مثلًا، فإنّ مِلء الكفِّ لا يكال وليس فيه اقتيات في الغالب، ولكنه فيه الطعمية فاستقلت الطعمية بالحكم في مِلءِ الكف وأُلغي غيرها
(1)
الأصل: مثبته.
(2)
انظر "النشر": (2/ 163).
كالكيل والاقتيات.
الثاني: تعدي وصف المستدل الذي اختاره للتعليل وكون غيره من أوصاف المحل غيرُ معتدٍّ، لأن تعدية الحكم محله أكثر فائدة من قَصْره عليه فالمتعدِّي أرجحُ من القاصر.
701 -
ثمَّ المناسبة والإخَاله
…
من المسالكِ بلا استحاله
702 -
ثم بتخريج المناطِ يشتهرْ
…
تخريجُها وبعضهم لا يَعتبِرْ
يعني أن المسلك الخامس من مسالك العلة هو المسمى بالمناسبة والإخالة، فالمناسبة في اللغة: الملاءمة والمقاربة، وسيأتي قريبًا تعريفها اصطلاحًا للمؤلف. وسُمِّي هذا المسلك مناسبةً لمناسبة الوصف المعلَّل به فيه للحكم كما يأتي، وسُمِّيت
(1)
إخالة لأن الناظر فيه يَخال -أي يظن- عِلِّيَّة الوصف.
وهذا المسلك الذي هو المناسبة سمَّاه بعضُهم: تخريج المناط، والمناطُ العلةُ أي تخريج العلة واستنباطها، ولا مخالفة لأن المناسبة هي دليل العلة، واستخراجُها هو إقامة الدليل، وإضافةُ الحكمِ إِلى كلٍّ من الدليل وإقامته لا بأس فيها، وظاهر المؤلِّف أن المسمَّى بتخريج المناط هو تخريج المناسبة بما يأْتي، وقد عرفتَ أنه لا مانع من تسمية هذا المسلك بالمناسبة وبتخريج المناط.
وقوله: "وبعضهم لا يعتبر" يعني به الظاهرية فإنهم أنكروا ثبوتَ
(1)
يعني: مناسبة الوصف.
العلة بمسلك المناسبة. وقوله: "تخريجها" فاعل "يَشْتهِر" وقوله: "يَعْتبر" مبني للفاعل.
703 -
وهو أن يُعَيِّنَ المجتهدُ
…
لعلَّةِ بذكر ما سَيَرِدُ
704 -
من التناسبِ الذي معْهُ اتضحْ
…
تقارُنٌ والأمْر
(1)
ممّا قد قدَحْ
يعني أن هذا المسلك الخامس الذي عبَّرَ عنه السبكي
(2)
بالمناسبة والإخالة، وعبر عنه ابن الحاجب بتخريج المناط
(3)
، هو تعيينُ المجتهد للعلة بالاستناد إلى ثلاثة أمور:
الأول: إبداء المناسبة بين العلة المعينة والحكم.
الثاني: الاقتران بين العلة والحكم في دليل الحكم، أعني ذكرهما فيه مُقْترنين.
الثالث: سلامة الوصف المعين من قوادح العلية، الآتية في القوادح من هذا الكتاب إن شاء اللَّه.
مثال المستوفي للشروط: الإسكار في قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام"
(4)
فإن الشارع لم يصرِّح بعلة هذا الحكم، والمجتهد يستخرج العلة بالمناسبة، لأن الإسكار وصفٌ مناسب للتحريم لأنه يزيل العقل، ودرء
(1)
في بعض المطبوعات: والأمن.
(2)
في "الجمع": (2/ 273) وذكر أيضًا فيه أن استخراج المناسبة يسمى: تخريج المناط.
(3)
"المختصر": (3/ 110).
(4)
أخرجه البخاري رقم (4343)، ومسلم رقم (1733) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
المفسدة متمَحِّض في منع ما يزيل العقل المطلوب حفظه، مع أن الإسكار الذي هو الوصف جاء في الحديث مقترنًا بالحكم الذي هو كونه حرامًا، وتعليل الحرمة بالإسكار سالم من جميع القوادح، فتمت فيه الأمور الثلاثة التي يُستخرج بها مسلك المناسبة.
فإن قيل: سلامة الوصف من القوادح في العلية
(1)
شرطٌ في كل مسلك فما وجه ذكرها في خصوص هذا المسلك؟
فالجواب: أن السلامة من القوادح قَيْد في تسمية هذا المسلك بتخريج المناط أو المناسبة فهي جزء من تعريف هذا المسلك بحسب الواقع. وإيضاحه: أن السلامة من القوادح جزء من مسمى هذا المسلك، وهي بالنسبة إلى غيره من المسالك شرط خارج عن المسمى.
واعلم أن الاقتران المذكورَ بين الوصف والحكم معتبر في كون الوصف المناسب علة لا في كونه مناسبًا، وقولنا فيما سبق بإبداء المناسبة للاحتراز من تعيين العلة بالطَّرْد أو الشَّبَه أو الدوران كما قاله ابن حلولو
(2)
في نظيره.
فإن قيل: الحديث الذي مثَّلْتم به للمناسبة من أمثلة الإيماء، لأن الحكم فيه بالتحريم مرتَّب على وصف الإسكار، وقد قال المؤلف في صُوَرِ الإيماء:"ترتيبه الحكم عليه" إلخ.
فالجواب: أن في الحديث المناسبة من الجهة التي ذكرنا، وفيه
(1)
ط: العلة.
(2)
في "الضياء اللامع": (2/ 355).