الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيضًا الإيماءُ من جهة ترتيب الحكم على الوصف، ويظهر الفرق بأنا لو فرضنا أنه لم تظهر فيه مناسبة لقيل فيه: مسلك الإيماء، لأن المناسبة فيه لا تُشترط عند الأكثر ولم يُقَلْ
(1)
فيه: مسلك المناسبة لعدم مناسبة الوصف للحكم.
705 -
وواجبٌ تحقيقُ الاستقلالِ
…
بنَفْي غيرِه من الأحوالِ
يعني أنه لابد في مسلك المناسبة أن يحقق استقلال الوصف المناسب بالعلية، وتحقق ذلك إنما يكون بنفي غيره من الأحوال أي الأوصاف، وطريقة ذلك هي السَّبر بأن لا يوجد مثلُه ولا ما هو أولى منه، ولا يكفي هنا:"بحثتُ فلم أجد" أو "انفقاد ما سواه هو الأصل" بخلاف السبر كما تقدم؛ لأن المقصود في مسلك المناسبة هو إثبات الوصف الصَّالح للعلية، وفي السبر نفي ما لا يصلح للعلية من الأوصاف فظهر الفرق.
قلت:
يعْسُر جدًّا حقيقة الفرق بين الوصف الذي تعين للعلية بمسلك المناسبة وبين الوصف المستبقَى بالسبر
لاسيما وقد قدَّمنا أن من طرق الإبطال عدم ظهور المناسبة كما في قول المؤلف: "ويبطل غير مناسب له المنخزل"، وفرَّق بينهما الأصفهاني شارح "المختصر"
(2)
لابن الحاجب، والزركشيُّ
(3)
، وزكريا الأنصاريُّ
(4)
بأن الوصفَ المستبقَى في السبر لا
(1)
غير محررة في الأصل.
(2)
"بيان المختصر": (3/ 112).
(3)
"البحر المحيط": (5/ 207).
(4)
لعله في حاشيته على شرح المحلي.
يُدْرِك العقلُ من ترتيب الحكم عليه المصلحةَ الباعثةَ، بخلاف المناسبة، فإن العقلَ يُدْرِك فيها ذلك. قالوا: وعدم إدراك العقل لذلك لا يلزم منه خلوُّ تلك الأوصاف عن حكمة.
وبحَثَ في هذا الجواب صاحب "الآيات البينات"
(1)
، ولا يظهر عندي هذا الجواب كلَّ الظهور لِمَا تقدم من أن عدم ظهور المناسبة من طرق الإبطال في السَّبْر.
706 -
ثم المناسبُ الذي تَضَمَّنا
…
تَرتُّبُ الحكم عليه ما اعْتَنى
707 -
به الذي شَرَعَ من إبعادِ
…
مفسدةٍ او جَلْبِ ذي سَدادِ
يعني أن المناسب هو "الذي تضمن" أي استلزم ترتب الحكم عليه ما اعتنى به الشارع في شرع الأحكام من جلب المصلحة ودفع المفسدة، فمثال جلب المصلحة: وجوب الزكاة فإن علته سدُّ خلة الفقير، وهو جلب مصلحة. ومثال درء المفسدة: الإسكار فإنه علة لتحريم الخمر، والمنع منها يدرء مفسدةَ فساد العقل. والمصلحة هي المنافع واللذَّات ووسائلها، والمفسدة هي المضار والمشقَّات ووسائلها.
وقول المؤلف: "ترتُّبُ" بالرفع فاعل "تضمَّن" ومفعول "تضمَّن" هو "ما" الموصولة في قوله: "ما اعتنى" و"الذي شَرَع" يعني به الشارع، والمراد "جلب ذي سداد" جلب المصلحة، وفي المناسبة أقوال أُخر غير هذا ذكرها صاحب "جمع الجوامع"
(2)
.
(1)
(4/ 127 - ط. دار الكتب).
(2)
(2/ 276 - 274).
708 -
ويحصل القصدُ بشَرْع الحكمِ
…
شكًّا وظنًّا وكذا بالجزمِ
709 -
وقد يكونُ النفيُ فيه أرْجَحا
…
كآيسٍ لقصدِ نسلٍ نَكَحا
مرداه بـ "القصد" المقصود أي الحكمة التي هي المقصود من شرع الحكم، يعني أن الحكمة التي اشتملت عليها العلة بالنظر إلى حصولها بالفعل وعدم حصولها لها أربع حالات:
الأولى: أن يجزم بحصولها كالملك لجواز التصرف.
الثانية: أن يُظنَّ حصولها كالقصاص فإنه يحصل به غلبة الظن على وجود حكمته التي هي الانزجار عن القتل، إذ يغلب على الظن أن من عَرَف بأنه إذا قَتَل قُتِل لا يُقْدِم على القتل خوفًا من الموت.
الثالثة: أن يكون حصول الحكمة مشكوكًا فيه كحد الخمر، فإنه يحتمل أن يحصل به الانزجار عنها خوفًا من الضرب والإقدام عليها، وهذا أمر تقريبيُّ لأن الإقدام عليها والإحجام عنها كلاهما يقع من غير ضبط لأكثرية أحدهما.
الرابعة: أن يكون انتفاء الحكمة أرجح وأغلب على الظن، وهذا الأخير مَثَّل له المؤلف بقوله:"كآيسٍ لقصد نسلٍ نكحا" والمعنى أن من حصل له اليأس عادة من الولد جاز أن يتزوج بقصد حصول الولد مع أن عدم وجوده أرجح. وقوله: "كآيس" فيه القَلْب الصرفيُّ فصار الفاء مكان العين والعين مكان الفاء. وقوله: "النفي" يعني الانتفاءَ فهو مصدر نفى اللَّازمة بمعنى انتفى.
710 -
بالطرفيْنِ في الأصَحِّ علَّلُوا
…
فقصرُ مترفٍ عليه يُنْقَلُ
مراده بالطرفين: الأول من الأقسام الأربعة في النظم، والأخير والأول منها هو الشك المذكور في قوله:"شكًّا" والآخر منهما هو الوهم المذكور في قوله: "وقد يكون النفي فيه أرجحا" إلخ يعني أن الأصح عند أهل الأصول جواز التعليل بالوصف المناسب المشتمل على حكمة حاصلة من ترتيب الحكم عليه شكًّا أو وهمًا، وأما التعليل بالمظنون حصولها فيه والمجزوم به فجائز اتفاقًا.
فإن قيل: إذا جاز التعليل بالأمور الأربعة المذكورة لم يبق شيء ألبتة، لأن كل وصف لابد أن تكون حكمته مجزومًا بها أو مظنونة أو مشكوكًا فيها أو موهومة.
فالجواب: أن هذه الأربعة أقسامُ المناسب أي ما ظهرت مناسبته والعلةُ لا تنحصر فيه، وقد تكون فيما لم تظهر مناسبته كما تقدم في الإيماء وفيما لم يُطلع على حكمته.
وقوله: "فقصر مترف" إلخ يعني أن قصر المترفِّه بسفره ينبني جوازه الذي هو المشهور على جواز التعليل بالطرفين، فعلى الأصح يجوز له القصر مع أن انتفاء الحكمة مظنون ووجودها مَوْهُوم، لأن الحكمة رفع المشقة وسَفَر الترفُّه لا مشقَّة فيه غالبًا، وقد تكون فيه احتمالًا، وإن قطع بنفي المشقة فقد تقدم في قوله:"وفي ثبوت الحكم عند الانتفا" إلخ. ومقابل الأصح هو القول بأنه لا يجوز التعليل بالأول لأن المقصود فيه الذي هو الحكمة مشكوك فيها، ولا بالرابع لرجحان عدمها فيه، وعليه فلا يجوز قَصْر المُتَرَفِّه بسفره.