الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتُشترط في المفتي العدالة وتقدَّم تعريفها في شرح قوله: "عدل الرواية"
(1)
إلخ.
960 -
من لم يكُنْ بالعلم والعدلِ اشتَهرْ
…
أو حَصَل القطعُ فالاستفتا انحَظَرْ
يعني أن من لم يشتهر بالعلم والدين الورع ولم يحصل لمن أراد أن يستفتيه قطعٌ بذلك، أي أو ظنٌّ، فإنه لا يجوز له أن يستفتيه، ولو استفتاه ما جاز له العمل بفتواه كما تقدم في البيت قبل هذا.
وقال بعضُ العلماء: لا يَكتفي بمجرَّد الاشتهار بل لابد من البحث عن علمه ودينه وورعه. وقال المؤلف في "الشرح"
(2)
: إنه الأصح، والأصحُّ أيضًا الاكتفاء بظاهر العدالة. وقيل: لابد من البحث عنها، كما أن الأصح هو الاكتفاء بخبر الواحد العدل عن علمه وعدالته. وقيل: لابد من الاثنين، فإن عُلِم علمه وجُهِلت عدالته ففي جواز استفتائه احتمالان وهما وجهان للشافعية، وعلى القول بالجواز فوَجْه الفرق بين العدالة والعلم: أن الناس كلَّهم عوام إلَّا القليل، والعلماء كلهم عدول إلَّا القليل.
و
هل يجوز الإفتاء في الخصومات التي شأنها الرفع إلى القاضي
؟ قيل: لا يجوز وهو الذي مشى عليه خليل في "المختصر"
(3)
حيث قال: "ولم يُفْتِ في خصومة". وابن عاصم في "التحفة" حيث قال:
ومُنِع الإفتاءُ للحكَّام
…
في كلِّ ما يَرْجِعُ للخِصامِ
(1)
البيت رقم (566).
(2)
(2/ 332 - 333).
(3)
(ص/ 234).
والمنع على القول به مقَيَّد بأمور مذكورة في بعض شروح المختصر
(1)
ورُوي عن ابن عبد الحكم جوازه وبه جَرَى عمل فاس، قال ناظم "العمل"
(2)
:
وشاع إفتاء القضاة في خصامْ
…
مما يُعَدُّ حكمهم له قوامْ
961 -
وواجبٌ تجديدُ ذي الرأي النَّظَرْ
…
إذا مماثِلٌ عَرا وما ذَكَرْ
962 -
للنَّصِّ مِثْل ما إذا تجدَّدا
…
مغيَّرٌ إلَّا فَلَن يُجَدِّدا
يعني أن "ذا الرأي" الذي هو المجتهد -مطلقًا كان أو مقيدًا- إذا أفتى في حادثة، ثم سُئل بعد ذلك عن تلك الحادثة لوقوعها مرة أخرى يجب عليه تجديد النظر فيها، بشرط أن يكون ناسيًا للدليل الذي اعتمد عليه في الفتوى الأولى، أو يكون غير ناس له ولكنه طرأ عليه ما يغيِّرُ اجتهادَه الأول. وأشار المؤلف للشرط الأول بقوله:"وما ذكر للنصِّ"، وللثاني بقوله:"مثلَ ما إذا تجدَّدَا مغيَّرٌ".
وقوله: "إلَّا فلن يجدّدَا" أي إلَّا يكن ناسيًا للديل الأول ولم يتجدد له مغيّرٌ فلن يجدِّد أي لم يلزمه تجديد النظر مرة أخرى، وإنما لزمه التجديد عند نسيان الدليل في الأولى لاحتمال أن يظهر له خطأ في الأول، وأما عند تجدُّد المغيّر فواضح، وإنما لم يلزمه التجديد في حالة عدم نسيان الأول وعدم طُرُوِّ مُغيِّر لعدم وجود ما يقتضي الرجوع لأن حاله الآن
(1)
انظر"شرح الخرشي": (5/ 150 - 151)، و"مواهب الجليل":(8/ 110 - 111).
(2)
تقدم التعريف به.
كحاله وقت إفتائه الأول. وقوله: "عرا" بمعنى طرأ، واللَّامُ في "للنصِّ" زائدة، وما ذكر النصَّ. وقوله:"مِثل" بكسر المِيم وهو منصوب على الحال.
963 -
وهل يكرِّرُ سؤالَ المجتهدْ
…
مَنْ عَمَّ إن مُمَاثِلُ الفتْوى يَعُدْ
يعني أن العامِّي إذا سأل مجتهدًا، أي وكذا لو سأل مقلِّدًا فأفتاه، ثم تجدد له مثل الحادثة الأولى، فهل عليه أن يكرِّر سؤال المجتهد مرةً أخرى أو له أن يكتفي بالجواب الأول؟
تردَّدَ في ذلك ابنُ القصَّار
(1)
من المالكية، وحكى ابنُ الصلاح
(2)
فيه خلافًا ثم قال: "الأصح لا يلزمه" وجعل إمام الحرمين
(3)
الخلافَ فيما إذا كان المُقلَّد -بالفتح- حيًّا، أما لو كانت الفتوى الأولى بتقليد ميت بناءً على جوازه فلا تلزم إعادة السؤال لتيقُّن عدم رجوع
(4)
الميت، فإن كانت الفتوى الأولى مستندة لنص أو إجماع فلا تجب إعادة السؤال إجماعًا. واسم الموصول في قوله:"من عمَّ" فاعل "يكرر" ومفعوله "سؤالَ"، و"يَعُدْ" بضم العين من عاد يعود بمعنى رجع.
964 -
وثانيًا ذا النقْلِ صِرفًا أهْمِلِ
…
وخَيِّرنْ لدى استواء السُّبُلِ
يعني أن المفتي الذي أجاب أولًا إذا كان صاحب نقلٍ صِرْفٍ أي
(1)
انظر "المقدمة في الأصول": (ص/ 32 - 33) لابن القصار.
(2)
في "أدب المفتي والمستفتي": (ص/ 167).
(3)
في كتابه "الشامل" كما نقله صاحب "النشر": (2/ 334). أما في "البرهان": (2/ 878) فليس فيه لمسألة تقليد الميت.
(4)
الأصل: روج، ثم كتب فوقها علامة (X).
خالص من الاجتهاد فلا تجب إعادة سؤاله لعدم احتمال تغيُّر ما عنده، وبهذا تعرف أن قولنا في شرح البيت قبله:"أي وكذا لو سأل مقلِّدًا" نعني به المقلد الذي هو مجتهد مقيَّد المشار إليه بقوله: "وإن مقيدًا إذا لم يُطِق".
وقوله: "وخَيِّرن. . " إلخ، يعني أن العالم إذا استفتاه العامِّيُّ وكان في المسألة أقوال مستوية، فإنه يخيِّرُ العامّيَّ في العمل بأي تلك الأقوال شاء، هذا إذا لم يكن فيها تفاوت، وإذا كان فيها تفاوت من جهة فسيأتي في البيت الذي بعد هذا. وقوله:"ذا النقل" مفعول "أهمِل" وهو أمرٌ من الإهمال والترك. و"صرفًا" حال، والظاهر أنه حال من "النقل" لا من "ذا" كما ظنه المؤلف
(1)
؛ لأن المضاف هنا كجزء من المضاف إليه، أي أَهْمِلْ صاحبَ النقل فلا تسْأله ثانيًا، أي مرة أخرى.
965 -
وزائدًا في العلم بعضٌ قَدَّما
…
وقَدَّمَ الأوْرَعَ كلُّ القُدَما
يعني أنه إذا وقع التفاوت في العلم مع الاستواء في الدين والورع، فإنَّ بعض العلماء يوجب الأخذ بقول الأعلمِ؛ ولذا قُدِّم في إمامة الصلاة زائد الفقه، قاله الرازي
(2)
، لأنه ينبغي أن يُقدَّم في كل موطن من مواطن الشرع من هو أقوم بمصالح ذلك الموطن. وقال بعض العلماء: يخير بين الأخذ بقول الأعلم وقول العالم؛ لأن كلَّ مذهب طريقٌ إلى الجنة، فعلى القول الأول يُقدَّم ابن رشد على اللخمي لأنه أعلم منه، وعلى الثاني يُخَيَّر
(1)
كما قال في "الشرح": (2/ 334).
(2)
في "المحصول": (2/ 533).
بينهما
(1)
.
وقوله: "وقَدَّم الأورعَ" إلخ يعني أنهما إذا استويا في العلم وكان أحدهما أورع من الآخر قَدَّم الأورع، لأن فتياه أبعد من الخطأ لشدة تحفظه، فإن كان أحدهما أرجح في دينه والثاني أرجح في علمه فقيل: يقدم الأدْيَن، وقيل: يقدَّم الأعلم، ورجَّحه القرافيُّ
(2)
.
واعلم أن مراد المؤلف بقوله: "وخَيِّرَنْ لدى استواء السبل"، وقوله:"وزائدًا في العلم. . . " البيت، إنما هو حالة أخذ العاميّ بأحد أقوال مذهبه في مسألة اختلف فيها أصحاب مالك ومن بعدهم مثلًا. ومن قوله:"وجائز تقليد ذي اجتهاد. . " إلى قوله: "وموجب تقليد الأرجح" إنما هو في تقليد غير المجتهد المطلق له، قاله المؤلف في "الشرح"
(3)
، وقوله:"زائدًا" مفعول "قدَّم" مُقدَّم عليه.
966 -
وجائزٌ تقليدُ ذي اجتهادِ
…
وهو مفضولٌ بلا استبعادِ
يعني أنه يجوز للعامِّي أن يقلِّد المجتهد المفضول في الدين أو العلم مع وجود الفاضل فيهما، وهذا مذهب الجمهور، وصححه الفهري من المالكية ورجحه ابن الحاجب
(4)
-منهم أيضًا- لوقوعه في زمن الصحابة وغيرهم منتشرًا من غير نكير. وقيل: لا يجوز تقليد المفضول
(1)
ذكره في "النشر": (2/ 335).
(2)
"التنقيح": (ص/ 148).
(3)
(2/ 335).
(4)
"المختصر - مع شرحه": (3/ 367).
مع وجود الفاضل لأنه تقصير في تحرِّي الصواب، وعلة مذهب الجمهور أشار لها المؤلف بقوله:
967 -
فكلُّ مَذْهب وسيلةَ إلى
…
دارِ الحبُور والقصور جُعِلا
يعني أن كل "مذهب" من مذاهب المجتهدين "وسيلة" أي طريق يتوصل بها إلى الجنة التي هي "دار الحبور" وهو النعيم، "والقصور" العالية جمع قصر؛ لأن الكل على هدى من ربهم وإن تفاوتوا في العلم والورع.
قلت: ومما يدل على أن المجتهدين على هدًى وإن إختلفوا تقريرُ النبي صلى الله عليه وسلم كلًّا من
(1)
الطائفتين المختلفتين في صلاة العصر في قصة بني قريظة، فقوم صلوها وقوم لم يصلوها إلى الشفق، فقرَّر النبي الجميعَ، وصوَّب ما فعله كلٌّ مع أنهم مختلفون
(2)
، ومما يدل على ذلك أيضًا أن داود وسليمان من أنبياء سورة الأنعام الذين قال اللَّه لنبينا بعد ذكرهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام/ 90] وثبت في "صحيح البخاري"
(3)
أن مجاهدًا سأل ابن عباس: من أين أخذتَ السجدة في ص فقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إلى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} فسجدها داود فسجدها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فإذا عرفتَ ذلك فاعلم أن داود وسليمان اختلفا في حكم الغنم النافشة
(1)
الأصل: كلام.
(2)
أخرجه البخاري رقم (946)، ومسلم رقم (1770) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
رقم (4807).
في حَرْث القوم وهما مجتهدان قطعًا، إذ لو كان هناك وحي لما اختلفا، وقد صرَّح تعالى بأن سليمان أصاب الصواب بقوله:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء/ 79] فعلم أن داود اجتهد فيها ولم يُصِب بدليل قوله: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء/ 78]، ومع هذا قال تعالى:{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء/ 79]. وقوله: "وسيلة" بالنصب مفعول ثان لـ "جُعِل" مقدَّم عليه ومفعوله الأول ضمير المذهب، وهو نائب الفاعل المستتر.
968 -
وموجِبُ تقليدَ الأَرْجَح وَجَبْ
…
لدَيْه بحثٌ عن إمامٍ منتخَبْ
يعني أن الذين لا يجيزون تقليد المفضول مع وجود الفاضل قالوا: يجب على العامِّيّ البحث عن إمامٍ أي مجتهدٍ منتَخَب -بفتح الخاء- أي راجح في العلم والدين، وعليه فيجب على العامي أو غيره من المقلدين تقديم أروع العالِمَيْن وأعلم الوَرِعَيْن، والأصح تقديم الأعلم على الأورع كما تقدم، وأهل هذا القول منهم: الإمام أحمد، وابن القصَّار من المالكية، والغزالي، وابن سُريج من الشافعية.
فإن قيل: من أين للعامي أن يميز الفاضل من المفضول؟
فالجواب: أنه يميزه بسؤال الناس وبقرائن الأحوال، كرجوع العلماء إلى قوله دون غيره، وكثرة المستفتين له دون غيره.
ووجه منع تقليد المفضول مع وجود الفاضل: أن أقوال المجتهدين في حق المقلد كالأدلة في حق المجتهد؛ فكما يجب على المجتهد الأخذ بالأرجح من الأدلة = فكذلك يجب على المقلد تقليد الأرجح من العلماء.
والحاصل أن في تقليد المفضول مع وجود الفاضل ثلاثة أقوال: الجواز والمنع وقد عرفت وجْهَ كلٍّ منهما. الثالث -واختاره السبكي
(1)
-: وهو جوازه إن اعتقد العاميُّ أنه هو الفاضل أو المساوي. والفرق بينه وبين ما قبله أنه على هذا القول يكتفي بمجرد اعتقاده أرجحيته أو مساواته ولا يجب عليه البحث عن ذلك على الأرجح، بخلاف ما قبله فلابد من البحث على الأرجح ولو كان معتقدًا أفضليته، قاله في "الآيات البينات"
(2)
.
969 -
إذا سمعتَ فالإمامُ مالكُ
…
صحَّ له الشأوُ الذي لا يُدْركُ
970 -
للأثر الصحيح مع حُسْن النظَرْ
…
في كلِ فَنٍّ كالكتابِ الأثرْ
أي إذا سمعتَ يا طالب العلم هذا القول بوجوب تقليد الأرجح من المجتهدين = فاعلم أن مالكًا رحمه الله ثبت له "الشأو" أي الغاية التي لا يدركها غيره من المجتهدين من التابعين فمن بعدهم من السَّبق في العلم، وقوله:"للأثر الصحيح" يعني للحديث المرفوع الصحيح الذي: هو قوله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يضربَ الناسُ أكبادَ الإبلِ في طلبِ العلمِ ولا يجدون عالمًا أعلمَ من عالمِ المدينة"
(3)
. مع ما ثبت له رحمه الله من حُسن النظر
(1)
"الجمع": (2/ 395).
(2)
(4/ 268).
(3)
أخرجه أحمد: (13/ 358 رقم 7980)، والترمذي رقم (2680)، وابن حبان "الإحسان" رقم (3736)، والحاكم:(1/ 90)، والبيهقي:(1/ 386) وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط =
في كلِّ فنٍّ من الفنون ككتاب اللَّه وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مراد المؤلف "بالأثر" كالعربية والأصول والمعرفة بأقوال الصحابة ومسائل الاتفاق والاختلاف. ومما يدل على أن المراد بالحديث الإمام مالك أنه إذا أُطْلِق "عالم المدينة" أو "إمام دار الهجرة" عُلِم أن المراد مالكٌ دون غيره من علماء المدينة
(1)
.
= مسلم ولم يخرجاه. ولم يتعقبه الذهبي، وصححه ابن حبان. وضعفه ابن حزم في "الإحكام":(6/ 135). بعنعنة أبي الزبير. والحديث تردد ابن عيينة في رفعه ووقفه فيما رواه عنه الأمام أحمد، كما في "منتخب العلل":(ص/ 136) لابن قدامة.
(1)
كل أصحاب مذهب يذكرون من مناقب إمامهم ومزايا مذهبهم ما يقتضي ترجيحه على غيره، بل الإلزام باتباعه والطعن في المذاهب الأخرى، كما وقع لغير واحد ممن صنف في الأصول والفقه، والشأن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه قال في "مجموع الفتاوى":(20/ 291 - 293):
(أما ترجيح بعض الأئمة والمشايخ على بعض، مثل من يرجح إمامه الذي تفقه على مذهبه أو يرجح شيخه الذي اقتدى به على غيره. . . فهذا الباب أكثر الناس يتكلمون فيه بالظن وما تهوى الأنفس، فإنهم لا يعلمون حقيقة مراتب الأئمة والمشايخ ولا يقصدون اتباع الحق المطلق، بل كل إنسان تهوى نفسه أن يرجح متبوعه فيرجحه بظن يظنه وإن لم يكن معه برهان على ذلك وقد يفضي ذلك إلى تحاجهم وقتالهم وتفرقهم وهذا مما حرم اللَّه ورسوله. . .
قال: فما دخل في هذا الباب مما نهى اللَّه عنه ورسوله من التعصب والتفرق والاختلاف والتكلم بغير علم فإنه يجب النهي عنه، فليس لأحد أن يدخل فيما نهى اللَّه عنه ورسوله، وأما من ترجح عنده فضل إمام على إمام أو شيخ على شيخ بحسب اجتهاده (وذكر بعض المسائل الفروعية) ثم قال: فمن ترجَّح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك، ومن ترجح عنده تقليد أحمد لم =
971 -
والخُلْفُ في تقليد من ماتَ وفي
…
بيْع طُرُوس الفقه الآن قد نُفِي
يعني أنَّ الخلافَ الذي كان واقعًا في تقليد المجتهد الميت وفي بيع كتب الفقه = منفيٌّ الآن أي في هذه الأزمان الأخيرة، لانعقاد الإجماع من جميع المسلمين على ذلك. أما فى تقليد الميت فلعدم وجود المجتهدين
(1)
، فلو لم يُقَلَّد الميت لتعطَّلَ كثير من الأحكام، وأما في كتب الفقه فلأنها لو لم يوصَل إلى اكتسابها بالبيع لتعطلت الأحكام أيضًا، وانعقاد الإجماع على ما ذكر ظاهر. و"الطروس" جمع طِرْس -بالكسر- وهو الكتاب.
972 -
ولكَ أن تسأل للتثبُّتِ
…
عن مأْخَذِ المسؤول لا التعَنُّتِ
= ينكر على من ترجح عنده تقليد الشافعي ونحو ذلك.
ولا أحد في الإسلام يجيب المسلمين كلهم بجواب عام: أن فلانًا أفضل من فلان، فيقبل منه هذا الجواب؛ لأنه من المعلوم أن كل طائفة ترجِّح متوعها فلا تقبل جواب من يجيب بما يخالفها فيه، كما أن من يرجح قولًا أو عملًا لا يقبل قول من يفتى بخلاف ذلك. لكن إن كان الرجل مقلدًا فليكن مقلدًا لمن يترجح عنده أنه أولى بالحق، فإن كان مجتهدًا اجتهد واتبع ما يترجح عنده أنه الحق ولا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها) اهـ بتصرف.
(1)
انظر ما سبق نقله عن الشيخ في تفسير {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (ص/577 وما بعدها) ففيه الرد على من زعم تعذر الاجتهاد في الأعصار المتأخرة، وأن العصر يمكن خلوه من المجتهدين، ورجح أنه لابد من قائم للَّه بحجة في كل عصر، وانظر أيضًا كتاب الجلال السيوطي "الرد على من أخلد إلى الأرض وجَهِل أن الاجتهاد في كل عصرٍ فرض":(ص/ 97 - 116)، و"الروض الباسم":(1/ 71)، و"البحر المحيط":(6/ 207)، و"إرشاد الفحول":(2/ 1035 - 1042).
973 -
ثُمَّ عليه غايةُ البيان
…
إن لم يكن عذرٌ بالاكتنان
يعني أنه يجوز لك أيها المستفتي سؤالَ العالم عن بيان مأْخَذه أي دليله فيما أفتاك به، بشرط أن يكون السؤال "للتثبت" أي زيادة الثبوت حتى تذعن نفسُه للقبول بسبب إيضاح الدليل، لا إن كان السؤال "للتعنت" أي قصد إظهار عجزه أو خطئه.
ثم إنه يجب على العالم المسؤول بيان الدليل للسَّائل لإرشاده، "إن لم يكن" له "عذر بالاكتنان" أي خفاء الدليل على السائل، بأن كان فهمه يَقْصُر عن إداركه عادة فلا يلزمه البيان صونًا لنفسه عن التعب فيما لا فائدة فيه، ويتعذَّرُ له بخفاء المُدْرك، ومحلُّ وجوبِ البيان ما لم يشق مشقة لا يتحمل مثلها عادة.
974 -
يُنْدَبُ للمفتي اطِّراحُه النظَرْ
…
إلى الحطام جاعِلَ الرِّضا الوَطَرْ
975 -
متصفًا بحليةِ الوقارِ
…
محاشيًا مجالسَ الأشرارِ
يعني أنه يستحب للمفتي أن يطَّرِح النظر إلى الدنيا فيكتفي بما في يده عما في أيدي الناس، ويجعل وطره أي حاجته بفتياه رضا اللَّه تعالى بهداية الجاهلين، لا حُطامًا يأخذه منهم، ويستحب أن يكون متَّصفًا بالسكينة والوقار، متباعدًا عن مجالس الأشرار أي السفهاء، فإن ألجأته الضرورة إلى مجالستهم فلا بأس مع كفهم عما لا يليق بحضرته.
وقوله: "اطراحه" افتعال من الطرح بمعنى الإلغاء والترك وهو مصدر مضاف إلى فاعله، ومفعوله "النظر". و"جاعل" حال من الضمير المضاف إليه الاطراح. و"الوطر" مفعول "جاعل" الثاني، ومفعوله الأول
أضيف له اسم الفاعل، و"متصفًا" و"محاشيًا" حالان من صاحب الحال الأولى بناءً على جواز ترادف الحال، أما على القول بمنعه كما ذهب إليه أبو الحسن بن عصفور ومن وافقه فالأحوال متداخلة، فقوله:"متصفًا" حال من الضمير المستكنّ في "جاعل" و"محاشيًا" حال من الضمير المستكن في قوله: "متصفًا". و"الحطام" أصله ما تحطَّم وتكسَّر من النبات، والمراد به هنا الدنيا.
976 -
والأرضُ لا عنْ قائمٍ مُجْتهدِ
…
تخلو إلى تَزَلْزلِ القواعدِ
977 -
وهو جائز بحكمِ العقلِ
…
مع احتمال كونِهِ بالنقل
يعني أنه لم يقع في الأرض خُلُوُّ الزمان عن مجتهد مطلق أو مقيد يقوم للَّه بالحجة على الخلق وينصرُ السنة بأن يُعَلِّمَها ويأمرَ باتباعها ويُنكر البدعة ويحذِّر
(1)
منها، وممن قال بهذا ولي الدين مستدلًا بحديث:"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. . . "
(2)
الحديث، وهذا ما لم تتزلزل القواعد أي أركان الدنيا أي يَخْتلَّ انتظامها بطلوع الشمس من مغربها. ويُحتمل أن يراد بالقواعد قواعُد الدين وأحكام الشرع، وبتزلزلها: تعطلها والإعراض عنها، والأول هو الظاهر، فإن تزلزلت القواعد أي أركان الدنيا أو الدين كما تقدم فإن الزمان يخلو من المجتهد المذكور لحديث: "إن اللَّه لا يقبضُ هذا العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد
(1)
تحرفت في الأصل.
(2)
أخرجه البخاري رقم (3640)، ومسلم رقم (1920) من حديث المغيرة رضي الله عنه.
ولكن يقبض العلم بقبض العلماء. . . "
(1)
الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ بين يدي الساعة أيامًا يُرْفَع فيها العلم وينزل فيها الجهل. . "
(2)
.
وقوله: "قائم" يعني قائم أي بحجة اللَّه على الخلق. وقوله: "وهو جائز" إلخ يعني أن خلو الزمان عن مجتهد قبل تزلزل القواعد جائز عقلًا إذ لا مانع عقلًا منه، ويحتمل أن يكون الجواز شرعيًّا كما عزاه المؤلف لسعد الدين التفتازاني
(3)
، ولكن احتمال الجواز الشرعي لا يثبت به حكم شرعي.
والذي يظهر وقوعُ الخلو عن المجتهد المذكور في هذه الأزمان الأخيرة
(4)
. ولا ينافي عدم المجتهد بقاء طائفة ظاهرين على الحق؛ لأن الشريعة دُوِّنت، وبُينت أحكام الكتاب والسنة ومعانيهما، فلا خفاء في الدين ولو على غير المجتهدين من المتعلمين.
978 -
وإن بقولِ ذي اجتهادٍ قد عَمِلْ
…
منْ عمَّ فالرجوعُ عنه مُنْحَظِل
يعني أن العاميَّ إذا عمل بقول مجتهد في مسألة لا يجوز له الرجوع عنه إلى قول غيره في مثلها، وحكى المؤلف عليه الاتفاق في "الشرح"
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري رقم (100)، ومسلم رقم (2673) من حديث ابن عمرو رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري رقم (7062)، ومسلم رقم (2672) من حديث ابن مسعود وأبي موسى رضي الله عنهما.
(3)
"النشر": (2/ 341).
(4)
سبق التعلبق على هذا القول قريبًا.
(5)
(2/ 341).