الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في استيفاء القصاص
وهو: فعل مجنيٍّ عليه إن كانت الجناية على ما دون النفس، أو فعل وليِّه إن كانت في النفس، بجانٍ عامدٍ مثلَ ما فعل الجاني أو شبهَ فعل الجاني.
- مسألة: (وَلِاسْتِيفَائِهِ) أي: القصاص (ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ):
الشرط الأول: (تَكْلِيفُ مُسْتَحِقٍّ لَهُ)؛ لأن غير المكلف ليس أهلًا للاستيفاء لعدم تكليفه، بدليل: أنه لا يصح إقراره ولا تصرفه.
فإن كان مستحِق القصاص أو بعض مستحقِيه صغيرًا أو مجنونًا؛ لم يستوفه لهما أب ولا وصي ولا حاكم؛ لأن القصد التشفي والانتقام، ولا يحصل ذلك لمستحِقِّه باستيفاء غيره، بخلاف الدية فإن الغرض يحصل باستيفائه.
ويحبس القاتل حتى يبلغ الصغير ويعقل المجنون؛ لأن فيه حظًّا للقاتل بتأخير قتله، وحظًّا للمستحِقِّ بإيصاله إلى حقه، إذ لا يؤمن هربه، وقد حبس معاوية هدبة بن خشرم في قَوَد حتى بلغ ابن القتيل، وكان ذلك في عصر الصحابة فلم ينكر ذلك [تاريخ دمشق 34/ 374].
(وَ) الشرط الثاني: (اتِّفَاقُهُمْ) أي: الأولياء المشتركين في القصاص (عَلَيْهِ) أي: على استيفائه، فليس لبعض الأولياء استيفاء القصاص دون البقية؛ لأن الاستيفاء حق مشترك لا يمكن تبعيضه، فلم يجز لأحد التصرف
فيه بغير إذن شريكه.
وعنه: إن كان بعضهم صغيرًا أو مجنونًا؛ فللبالغ العاقل الاستيفاء؛ لأن الحسن بن علي قتل ابن مُلْجِم قاتل علي، وكان لعلي رضي الله عنه أولاد صغار [ابن أبي شيبة 27777]، ولأن ولاية القصاص هي استحقاق استيفائه، وليس للصغير هذه الولاية.
- فرع: إن عفا بعض الورثة - ولو زوجة- عن القصاص، وكان ممن يصح عفوه؛ بأن كان مكلفًا، ولو كان العفو إلى الدية؛ سقط القصاص؛ لقوله تعالى:(فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف)، و (شيء) نكرة في سياق الشرط فتعم، فتشمل كل ولي، سواء كان رجلاً أو امرأة، ولما صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه رُفع إليه رجل قتل رجلًا، فأراد أولياء المقتول قتله، فقالت أخت المقتول، وهي امرأة القاتل: قد عفوت عن حصتي من زوجي، فقال عمر رضي الله عنه:«عَتَقَ الرَّجُلُ مِنَ الْقَتْلِ» [عبد الرزاق 18188]، ولأن القصاص حق مشترك بين الورثة لا يتبعض، مبناه على الدرء والإسقاط، فإذا أسقط بعضهم حقه؛ سرى إلى الباقي؛ كالعتق.
(وَ) الشرط الثالث: (أَنْ يُؤْمَنَ فِي اسْتِيفَائِهِ) أي: القصاص (تَعَدِّيِهِ) أي: الاستيفاء (إِلَى غَيْرِ جَانٍ)؛ لقوله تعالى: {فلا يسرف في القتل} [الإسراء: 33]، وإذا أفضى إلى التعدي ففيه إسراف، فلو وجب القود أو الرجم على حامل، أو على حائل وحملت بعد وجوبه؛ لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه
اللبأ، قال في المبدع:(بغير خلاف)؛ وقد أخر النبي صلى الله عليه وسلم إقامة الرجم على الغامدية حتى وضعت الحمل وفطمته [مسلم 1695].
- مسألة: (وَ) إذا قُتل وله وليان أو أكثر وأحدهم غائب؛ فإنه (يُحْبَسُ) الجاني (لِقُدُومِ غَائِبٍ) من الورثة، وجوباً؛ لأنه حق مشترك، أشبه ما لو كان المقتول عبدًا مشتركًا، قال ابن قدامة:(بغير خلاف علمناه).
(وَ) إن كان أحد الأولياء غير بالغ أو مجنون؛ فإنه يحبس جانٍ إلى (بُلُوغِ) الصبي، (وَإِفَاقَةِ) المجنون، وتقدم.
- مسألة: (وَيَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ) أي: القصاص (بِحَضْرَةِ سُلْطَانٍ أَوْ نَائِبِهِ)؛ لما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد: «أَلَّا تُقْتَلَ نَفْسٌ دُونِي» [ابن أبي شيبة 27910]، ولأنه يفتقر إلى اجتهاده، ولا يؤمن فيه الحَيْف مع قصد التشفي، فلو خالف الولي واقتص بغير حضرة السلطان أو نائبه؛ وقع فعله الموقعَ؛ لأنه استوفى حقه، وللإمام أو نائبه تعزيره؛ لافتئاته على السلطان.
واختار شيخ الإسلام: جواز الاستيفاء بغير حضور السلطان إذا كان القصاص في النفس؛ لحديث وائل بن حجر رضي الله عنه: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يقوده، فقال: يا رسول الله إن هذا قتل أخي، فاعترف الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«دُونَكَ صَاحِبَكَ» [مسلم 1680].
- مسألة: (وَ) يجب استيفاء القصاص (بِآلَةٍ مَاضِيَةٍ)؛ لحديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» [مسلم 1955].
- مسألة: (وَ) يجب استيفاء القصاص (فِي النَّفْسِ بِضَرْبِ العُنُقِ بِسَيْفٍ)، ولو كان الجاني قتله بغير السيف؛ لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما مرفوعاً:«لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ» [ابن ماجه 2667، قال أحمد: ليس إسناده بجيد]، ولأن القصد من القود إتلاف جملته، وقد أمكن بضرب عنقه فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه؛ كقتله بسيف كالٍّ.
ولا يفعل بالمقتص منه كما فعل، إذا كان القتل بغير السيف؛ للنهي عن المثلة، ولأن فيه زيادة تعذيب.
وعنه، واختاره شيخ الإسلام: يفعل به كما فعل، إلا إذا كان القتل بشيء محرم؛ كاللواط أو تشريبه الخمر، فيقتل بالسيف رواية واحدة؛ لأن قتله بنفس فعله لا يجوز، لكونه محرماً في نفسه، فإن قتله بحجر، أو أغرقه، أو غير ذلك؛ فعل به مثل فعله؛ لقوله تعالى:(وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)، ولحديث أنس رضي الله عنه: «أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَّ رَأْسَ جَارِيَةٍ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، قِيلَ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِكِ، أَفُلانٌ، أَفُلانٌ؟ حَتَّى سُمِّيَ اليَهُودِيُّ، فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ اليَهُودِيُّ، فَاعْتَرَفَ، فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَرُضَّ