الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- فرع: (وَإِنْ وَجَبَتْ) على غير البرزة، والمريض (يَمِينٌ؛ أَرْسَلَ) القاضي (مَنْ) أي: أمينًا معه شاهدان، (يُحَلِّفُهُمَا) بحضرتهما؛ لأن إحضارهما غير مشروع، واليمين لا بد منها، وهذا طريقه.
وإن أقرت بشيء شهدا عليها به؛ ليقضي الحاكم عليها بشهادتهما بطلب المدعي.
(فَصْلٌ) في طريق الحكم وصفته
طريق كل شيء: ما يُتوصَّل إليه.
والحكم: فصل الخصومات.
- مسألة: (وَشُرِطَ) لصحة الدعوى شروط:
الشرط الأول: (كَوْنُ مُدَّعٍ وَمُنْكِرٍ جَائِزَيِ التَّصَرُّفِ) وهو المكلف الرشيد؛ لأن قول غير جائز التصرف غير معتبر.
لكن تصح الدعوى على سفيه بما يؤخذ به حال سفهه، وبعد فك حجره؛ كطلاق، وقذف، ونحوه؛ لأن إقراره به معتبر؛ لعدم التُّهمة.
(وَ) الشرط الثاني: (تَحْرِيرُ الدَّعْوَى)؛ لترتب الحكم عليها، ولذلك قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها: «وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ» [البخاري: 6967، ومسلم: 1713]، ولا يُمكِن الحكم عليها مع عدم تحريرها، فلو كانت الدعوى بدَيْن على ميت مثلًا؛ ذكر موته، وحرَّر الدَّيْن، فإن كان أثمانًا؛ ذكر جنسه، ونوعه، وقدره، وهكذا.
واختار شيخ الإسلام وابن عثيمين: عدم اشتراط كون الدعوى محررة؛ لحديث وائل بن حُجْرٍ رضي الله عنه قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها، ليس له فيها حق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي:«أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ » قال: لا، قال:«فَلَكَ يَمِينُهُ» ، قال: يا رسول الله، إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، فقال:«لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ» ، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر:«أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا، لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» [مسلم: 139]، قال شيخ الإسلام:(ومسألة تحرير الدعوى وفروعها ضعيفة؛ لحديث الحضرمي في دعواه على الآخر أرضًا غير موصوفة)، وقال أيضًا:(إذا قيل: لا تسمع إلا محررة، فالواجب أن من ادعى مجملًا استفصله الحاكم).
(وَ) الشرط الثالث: (عِلْمُ مُدَّعىً بِهِ) أي: أن تكون الدعوى بشيء معلوم؛ ليتمكن الحاكم من الإلزام به إذا ثبت، (إِلَّا) أن تكون الدعوى (فِيمَا نُصَحِّحُهُ مَجْهُولاً؛ كَـ) ـأن تكون:
1 -
(وَصِيَّةً) بمجهول؛ بأن ادعى أنه وصى له بدابة، أو شيء، ونحو ذلك.
2 -
أو تكون إقرارًا بمجهول، بأن ادعى أنه أقر له بمجمل؛ فتصح، وإذا ثبت طولب مدعىً عليه بالبيان.
3 -
أو تكون في خلع أو طلاق على مجهول؛ كأن سألَتْه الخلع أو الطلاق على إحدى دوابها، فأجابها وتنازعا.
4 -
أو تكون جُعْلًا من مال حربي، إذا سُمي مجهولًا؛ كثُلُث مال فلان الحربي لمن يدل على قلعة؛ لصحته كما سبق في فصل الجعالة.
والشرط الرابع: كون الدعوى مصرحًا بها، فلا يكفي قول مدع: لي عنده كذا، حتى يقول: وأنا مطالِب به.
وقيل، واستظهره المرداوي: أنه يكفي الظاهر؛ لدلالة الحال عليه.
والشرط الخامس: أن تكون الدعوى متعلقة بالحال، فلا تصح الدعوى بدَيْن مؤجل لإثباته; لأنه لا يملك الطلب به قبل أجله.
إلا في دعوى تدبير وكتابة وإيلاد؛ لصحة الحكم به إذن وإن تأخر أثره.
والشرط السادس: أن تكون الدعوى مُنفكَّة عما يكذبها، فلا تصح الدعوى على شخص بأنه قتل أو سرق من عشرين سنة، وسِنُّهُ دونها؛ لأن الحس يكذبه.
- فرع: (فَإِنِ ادَّعَى) شخص (عَقْداً)، من نكاح، أو بيع، أو إجارة أو غيرها؛ (ذَكَرَ شُرُوطَهُ)؛ للاختلاف في الشروط، وقد لا يكون صحيحًا عند القاضي، فلا يتأتى له الحكم بصحته مع جهله بها.
وفي وجه، واختاره ابن عثيمين: لا يشترط ذلك، فتصح الدعوى بدون ذكر الشروط؛ لأن الأصل في عقود المسلمين الصحة.
- فرع: (أَوْ) أي: إن ادعى شخص على آخر (إرْثاً؛ ذَكَرَ سَبَبَهُ) وجوبًا؛ لاختلاف أسباب الإرث، فلا بد من تعيينه.
- فرع: (أَوِ) ادعى (مُحَلًّى بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ؛ قَوَّمَهُ بِـ) ـالنقد (الآخَرِ)، فإن ادعى محلًّى بذهب قومه بفضة وإن ادعى محلى بفضة قَومَّه بذهب؛ لئلا يفضي تقويمه بجنسه إلى الربا، (أَوِ) ادعى محلًّى (بِهِمَا) أي: مَصُوغًا منهما مباحًا، تزيد قيمته عن وزنه؛ (فَبِأَيِّهِمَا) أي: النقدين (شَاءَ) يُقوَّم؛ لحاجة انحصار الثمنية فيهما، فإذا ثبت ما ادعاه أعطى عُروضًا.
- مسألة: (وَإِذَا حَرَّرَهَا) أي: حرر المدعي الدعوى، (فَـ) ـلا يخلو حال المدعى عليه من أمرين:
الأولى: (إِنْ أَقَرَّ الخَصْمُ) أي: المدَّعى عليه بالدعوى: (حُكِمَ عَلَيْهِ) أي:
على المدعى عليه، ولا يُحكم عليه إلا (بِسُؤَالِ مُدَّعٍ)؛ لأن الحق له، فلا يستوفيه الحاكم إلا بسؤاله.
(وَ) الثانية: (إِنْ أَنْكَرَ) المدعى عليه الدعوى؛ كما لو قال مدعًى عليه لمدعٍ قرضًا: ما أقرضني، فلا يخلو ذلك من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون للمدعي بينة: فإن شهدت البينة عند القاضي سمعها، ويستحب له أن يقول لمدعىً عليه: ألك فيها دافعٌ أو مطعنٌ؟ فإن لم يأت بقادح، واتضح للقاضي الحكم، وسأله المدعي الحكم بها؛ لزم القاضيَ الحكم بها فورًا؛ لما فيه من تأخير الحق عن موضعه.
(وَ) الأمر الثاني: أن (لَا) يكون للمدعي (بَيِّنَةٌ: فَقَوْلُهُ) أي: قول منكِر (بِيَمِينِهِ)؛ لأن الأصل براءة ذمته، ولحديث وائل بن حجر رضي الله عنه السابق، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للحضرمي: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ » قال: لا، قال:«فَلَكَ يَمِينُهُ» ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم إذا ادعى أو ادُّعي عليه؛ فقوله بلا يمين؛ لعصمته.
- فرع: (فَإِنْ نَكَلَ) المدَّعى عليه عن اليمين فلم يحلف، قال له القاضي: إن حلفتَ وإلا قضيتُ عليك بالنكول؛ لأن النكول ضعيف، فوجب اعتضاده بذلك، فإن لم يحلف (حُكِمَ عَلَيْهِ) بالنكول؛ لما روى سالم بن عبد الله بن عمر قال: باع ابن عمر رضي الله عنهما عبدًا له بالبراءة، فوجد الذي اشتراه به عيبًا، فقال لابن عمر: لم تُسمِّه لي، فاختصما إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال الرجل: باعني عبدًا به داء لم يُسمِّه لي، فقال
ابن عمر: «بِعْتُ بِالْبَرَاءَةِ» ، فقضى عثمان: أن يحلف ابن عمر بالله: لقد باعه وما به داء علمه، فأبى ابن عمر أن يحلف، وقَبِل العبد [عبد الرزاق: 14721]، ولأنه نكوله عن اليمين قرينة ظاهرة دالة على صدق المدعي، فتُقدَّم على أصل براءة الذمة.
وإنما يحكم عليه القاضي بالنكول (بِـ) ـشرط (سُؤَالِ مُدَّعٍ) الحكمَ عليه؛ لما تقدم من أن الحق له، فلا يستوفيه الحاكم إلا بسؤاله.
- فرع: لا ترد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه؛ بل يُحكَم على المدعى عليه بنكوله؛ لما تقدم، ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» [البيهقي: 21201]، فحصرها في جانب المدعى عليه، فلم تشرع لغيره.
واختار أبو الخطاب، وحكاه بعضهم رواية عن أحمد: أنه ترد اليمين على المدعي؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ الْيَمِينَ عَلَى طَالِبِ الحَقِّ» [الدارقطني: 4490، وضعفه ابن حجر والألباني]، ولما روى الشعبي: أن المقداد استقرض من عثمان بن عفان رضي الله عنهما سبعة آلاف درهم ، فلما تقاضاه قال:«إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ» ، فخاصمه إلى عمر رضي الله عنه ، فقال:«إِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ الْمِقْدَادَ سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ» ، فقال المقداد:«إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ» ، فقال المقداد:«أَحْلِفْهُ أَنَّهَا سَبْعَةُ آلَافٍ» ، فقال عمر رضي الله عنه:«أَنْصَفَكَ» ، فأبى أن يحلف ، فقال عمر:«خُذْ مَا أَعْطَاكَ» [البيهقي: 20740].
واختار شيخ الإسلام: أن المسألة لا تخلو من ثلاث حالات:
1 -
أن يكون المدَّعى به مما يعلمه المدعى عليه فقط؛ مثل أن يدعي ورثة ميت على غريم له: فإنه يقضى عليه بالنكول، ولا ترد اليمين على المدعي؛ وعليه يحمل أثر عثمان وابن عمر رضي الله عنهم المتقدم.
2 -
أن يكون المدعى به مما يعلمه المدعي فقط؛ كالدعوى على ورثة ميت حقًّا على الميت يتعلق بتركته: فترد اليمين على المدعي؛ وعليه يحمل أثر عمر المتقدم.
3 -
أن يكون المدعى به كل منهما يدعي العلم به: فالقول بالرد أرجح (1)؛
لظاهر أثر ابن عمر رضي الله عنهما السابق.
(1) ذكر ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (15/ 322)، أن اختيار شيخ الإسلام عدم الرد فيما إذا كان كل منهما يحيط به علمًا، والمثبت موافق لما في الفتاوى الكبرى (5/ 562).
وذكر ابن عثيمين في المسألة احتمالًا، فقال:(ولو قال قائل بأن هذا يرجع إلى نظر الحاكم واجتهاده، لا إلى ما يحيط به المدعي أو المدعى عليه علماً، ولا إلى ما لا يحيطان به علماً، لكان له وجه قوي؛ لأن القاضي قد يعلم من قرائن الأحوال أن المدعي مبطل، فيرى أن رد اليمين عليه متأكد؛ والمدعى عليه رجل بريء)، ثم قال:(وهذا القول عندي هو الأرجح، وإن كنت لم أطلع على قائلٍ به، ولكن ما دام قولاً مفصلاً يأخذ بقول من يقول بالرد من وجه، وبقول من لا يقول بالرد من وجه، فيكون بعضَ قول هؤلاء، وبعضَ قولِ هؤلاء).
- مسألة: إنما يقضى على المدعى عليه بالنكول (فِي مَالٍ وَمَا يُقْصَدُ بِهِ)؛ كالبيع والأجل في البيع، والخيار، والرهن، والإجارة، والشركة، والمهر، والصلح، والهبة، ونحو ذلك؛ لما تقدم عن عثمان مع ابن عمر رضي الله عنهم.
وأما غير ذلك من الدعاوى؛ فلا يقضى عليه بالنكول، بل يخلى سبيل المدعى عليه فيه حيث لا بينة عليه؛ لأن النكول ليس بحجة قوية، لأنه سكوت مجرد، يحتمل أن يكون للخوف من اليمين، ويحتمل أن يكون للجهل بحقيقة الحال، ويحتمل أن يكون لعلمه بصدق المدعي، ومع هذه الاحتمالات لا ينبغى أن يقضى به فيما يحتاط له.
ويستثنى من ذلك: إذا لاعن الرجل، ونكلت؛ فإنها تحبس حتى تُقِرَّ أربعًا أو تلاعن.
- مسألة: الدعاوى من حيث الاستحلاف لا تخلو من قسمين:
القسم الأول: الدعاوى في حقوق الآدميين، ولا تخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن تكون في غير الأمانات، وأشار إليه بقوله:(وَيُسْتَحْلَفُ) منكر توجهت إليه اليمين في دعوى صحيحة (فِي كُلِّ حَقِّ آدَمِيٍّ)؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ اليَمِينَ عَلَى المُدَّعَى
عَلَيْهِ» [البخاري: 4552، ومسلم: 1711]، فجعل اليمين على المدعى عليه بعد ذكر الدماء، وذلك ظاهر في أن الدعوى بالدم تشرع فيها اليمين، وسائر الحقوق إما مثله أو دونه، فوجب مشروعية اليمين في ذلك كله؛ لعموم الأخبار؛ ولأنها دعوى صحيحة في حق آدمي كدعوى المال.
(سِوَى) عشر مسائل لا يستحلف فيها المنكر؛ لأن ذلك لا يثبت إلا بشاهدين فأشبه الحدود، وهذه العشرة هي:
1 -
(نِكَاحٌ)؛ بأن ادعت امرأة على رجل بأنه زوجها، وهو ينكر، وكذا العكس.
2 -
(وَرَجْعَةٌ)؛ بأن تدعي المرأة أن زوجها راجعها، وهو ينكر.
3 -
وطلاق؛ بأن يدعي أحد الزوجين وقوع الطلاق، وينكره الآخر.
4 -
وإيلاء؛ بأن ادعت المرأة على زوجها أنه آلى منها، وينكر الزوج ذلك، فلا يستحلف، إلا إذا أنكر مُولٍ مضي الأشهر الأربعة؛ فإنه يستحلف.
5 -
(وَنَسَبٌ)؛ بأن ادعى رجل على آخر أنه ولده مثلًا، فأنكر، فلا يستحلف.
6 -
وقذف؛ بأن ادعى شخص على آخر أنه قذفه، فأنكر، فلا يستحلف.
7 -
وقصاص في غير قَسَامة؛ بأن ادعى شخص على آخر أنه له عليه قصاصًا، في النفس أوفيما دون النفس، فأنكر المدعى عليه، فلا يستحلف.
وأما في القسامة، فتقدم في بابه.
8 -
(وَنَحْوُهَا)؛ كأصل رق؛ بأن يُدَّعى على لقيط ومجهول نسب بالرقِّ، فينكر، فلا يستحلف.
9 -
وولاء؛ كما لو ادعى شخص على إنسان حر، فقال: هذا ولاؤه لي، فأنكر الحر ذلك؛ فلا يستحلف على الإنكار.
10 -
ودعوى الاستيلاد، وفسره القاضي: بأن يدعي استيلاد أمة فتنكره، وقال شيخ الإسلام: بل هي المدعية؛ لأنها تريد أن تكون أم ولد لتَعْتِق بعد موته.
وعنه: يستحلف المنكر في جميع حقوق الآدميين؛ لما تقدم من الأدلة.
الأمر الثاني: أن تكون في الأمانات؛ كالوديعة، والمال في يد الولي والوصي والشريك ونحو ذلك: فإنه يستحلف فيها أيضًا؛ لما تقدم من الأدلة.
وعنه: لا يمين عليه إلا أن يُتهم؛ لأنه صدقه بائتمانه، ولا يمين مع التصديق، وأما إذا قامت قرينة تنافي حال الائتمان، فقد اختل معنى الائتمان.
القسم الثاني: الدعاوى في حقوق الله تعالى؛ وأشار إليه بقوله: (لَا) يُسْتَحلف منكِر (فِي حَقِّ اللهِ) تعالى، ولا تخلو من ثلاثة أقسام:
الأول: الحدود، وأشار إليه بقوله:(كَحَدِّ) زنىً، أو شرب، أو سرقة، أو محاربة، فلا تشرع فيها اليمين، قال في الشرح:(لا نعلم في هذا خلافًا)؛ لأنه لو أقرَّ بها ثم رجع؛ قُبِل منه وخُلِّي سبيله بلا يمين؛ فلأن لا يستحلف مع عدم الإقرار أولى، ولأنه يستحب ستره.
(وَ) الثاني: (عِبَادَةٌ) غير مالية؛ كصلاة ووضوء وغير ذلك؛ لأنه حق لله تعالى، كالحد.
والثالث: الحقوق المالية؛ كدعوى الساعي الزكاة على رب المال، وأن الحول قد كمل النصاب، أو ادعي عليه أن عليه كفارة يمين، أو ظهار، أو نذر، أو صدقة أو غيرها، فلا تسمع دعواه، ولا يستحلف في ذلك؛ لأنه حق لله تعالى أشبه الحد، ولأنه لا حق للمدعي فيه، ولا ولاية له عليه، فلا تسمع منه دعواه، كما لو ادعى حقًّا لغيره من غير إذنه ولا ولاية له عليه.
- مسألة: (وَاليَمِينُ المَشْرُوعَةُ) لا تنعقد إلا (بِاللهِ وَحْدَهُ، أَوْ) بـ (ـصِفَتِهِ) تعالى، وتقدم تفصيل ذلك في كتاب الأيمان.
- مسألة: (وَ) لو سأل المدعي إحلاف المدعى عليه ولا يقيم البينة، فحلف المدعى عليه؛ كان للمدعي إقامتها، وعلى هذا:(يُحْكَمُ بِالبَيِّنَةِ) التي أقامها المدعي (بَعْدَ التَّحْلِيفِ) أي: تحليف المدعى عليه؛ لأن البينة لا تبطل بالاستحلاف، كما لو كانت غائبة عن البلد.
- مسألة: (وَشُرِطَ فِي بَيِّنَةٍ: عَدَالَةٌ) وهي: الصلاح في الدين والمروءة، وسيأتي تفصيلها في كتاب الشهادات؛ لقوله تعالى:{وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2] وقوله: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282] وقوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات: 6]، والفاسق لا يؤمن كذبه.
- فرع: اشتراط العدالة في البينة على قسمين:
الأول: في عقد النكاح: فتكفي العدالة في البينة (ظَاهِراً) ولا تعتبر العدالة في الباطن، فلا يبطل عقد النكاح لو بانَا فاسقين؛ لما في اعتبارها من المشقة، وتقدم في كتاب النكاح.
(وَ) الثاني: (فِي غَيْرِ نِكَاحٍ): فتعتبر العدالة في البينة ظاهرًا و (بَاطِناً أَيْضاً)؛ لأن العدالة شرط، فيجب العلم بها؛ كالإسلام، ولأن الغالب الخروج عن العدالة، ولذا يقول شيخ الإسلام:(من قال: إن الأصل في الإنسان العدالة فقد أخطأ، وإنما الأصل الجهل والظلم؛ لقوله تعالى {إنه كان ظلومًا جهولًا} [الأحزاب: 72])، فاعتبر العلم بها باطنًا أيضًا.
- فرع: (وَ) يشترط (فِي مُزَكٍّ) ثلاثة شروط:
1 -
(مَعْرِفَةُ جَرْحٍ) أي: بم يكون الجرح، (وَ) معرفة (تَعْدِيلٍ) أي: بم يكون التعديل لمن يعدِّله. لأنه لا يتمكن من التزكية إلا بذلك.
2 -
خبرة المزكي الباطنة لمن يزكيه، بصحبة، أو معاملة، أو كونه جارًا له ونحو ذلك؛ لأن عادة الناس إظهار الطاعات وإسرار المعاصي، فإن لم يكن ذا خبرة باطنة؛ فربما اغتر بحسن ظاهره، وهو فاسق في الباطن.
3 -
أن يكون غير متهم بعصبية أو غيرها؛ لأنها كالشهادة يعتبر لها ما يعتبر فيها.
- فرع: (وَ) يشترط في قبول مُزكٍّ: (مَعْرِفَةُ حَاكِمٍ خِبْرَتَهُ) أي: خبرة المزكي (البَاطِنَةَ) بمن يزكيه، وذلك بألا يقبل تعديل المعدل حتى يعلم أو يظن أن له خبرة بالمعدل؛ لقول خَرَشَة بن الحُرِّ: شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بشهادة فقال له: «لَسْتُ أَعْرِفُكَ، وَلَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا أَعْرِفَكَ، ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ» ، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه ، قال:«بِأَيِّ شَيْءٍ تَعْرِفُهُ؟ » قال: بالعدالة والفضل ، فقال:«فَهُوَ جَارُكَ الْأَدْنَى الَّذِي تَعْرِفُ لَيْلَهَ وَنَهَارَهَ ، وَمَدْخَلَهُ وَمَخْرَجَهُ؟ » قال: لا، قال:«فَمُعَامِلُكَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الْوَرَعِ؟ » قال: لا، قال:«فَرَفيِقُكَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يُسْتَدَلُّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ؟ » قال: لا، قال:«لَسْتَ تَعْرِفُهُ» ، ثم قال للرَّجل:«ائْتِ بِمَنْ يَعْرِفُكَ» [البيهقي: 20400، وصححه الألباني].
- فرع: (وَتُقَدَّمُ بَيِّنَةُ جَرْحٍ) على بينة تعديل؛ لأن الجارح يخبر بأمر باطن خفي على العدل، وشاهد العدالة يخبر بأمر ظاهر، ولأن الجارح مثبت لجرح والمعدل نافٍ له، والمثبت مقدم على النافي.
- فرع: الشاهد لا يخلو من ثلاث حالات:
1 -
أن يعلم القاضي عدالته: فيعمل بعلمه ولا يحتاج إلى تزكية بغير خلاف قاله في المغني؛ لأن التهمة لا تلحقه في ذلك، ولأنه لو لم يكتف بذلك لتسلسل، لأن الحاكم يحتاج إلى معرفة عدالتهما، فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مُزكِّين، ثم كل واحد ممن يزكيهما إلى مزكين، فيتسلسل.
2 -
أن يعلم القاضي فِسْقه: فيعمل بعلمه بغير خلاف أيضًا؛ لما تقدم، قاله في المغني.
3 -
أن يجهل القاضي حاله، وأشار إليه بالمؤلف بقوله:(فَمَتَى جَهِلَ حَاكِمٌ حَالَ بَيِّنَةٍ) أي: حال الشاهد؛ (طَلَبَ) من المدعي (التَّزْكِيَةَ)؛ لتثبت عدالتهم فيحكم له؛ لما تقدم عن عمر رضي الله عنه، ولأن العدالة شرط، فالشك في وجودها كعدمها؛ كشرط الصلاة، (مُطْلَقاً) أي: سواء طلب الخصم ذلك أو سكت؛ لأنها حق للشرع، فطلبها للحاكم.
- فرع: الجرح والتعديل والترجمة والتعريف والرسالة: شهادة، تفتقر
إلى العدد والعدالة، ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة، (وَ) لذا (لَا يُقْبَلُ فِيهَا) أي: في تزكية الشاهد، (وَ) لا (فِي جَرْحِ) الشاهد، (وَ) لا في (نَحْوِهِمَا)؛ كترجمة، ومن يرسله الحاكم يبحث عن حال الشهود، وتعريف عند الحاكم (إِلَّا) العدد الذي يقبل في الشهادة على ما يأتي في كتاب الشهادات، وعليه:
- فإذا كان في حد زنىً ولواط: اشتُرط أربعة رجال عدول؛ كشهود الأصل.
- وإذا كان في مال: اشتُرط رجلان، أو رجل وامرأتان؛ لأنه نقل ما يخفى على الحاكم بما يستند الحاكم إليه، أشبه الشهادة.
- وإذا كان في غير مال؛ كنكاح ونسب وطلاق وقذف وقصاص: اشتُرط (رَجُلَانِ)؛ كشهود الأصل.
وعنه، واختاره شيخ الإسلام: أنه يقبل قول عدل واحد فيما تقدم؛ لما ورد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ اليَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُتُبَهُ، وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ» [علقه البخاري: 7195، ووصله في تاريخه: 1278]، وقال أبو جمرة:«كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما وَبَيْنَ النَّاسِ» [البخاري: 87]، ولأنه كالرواية وأخبار الديانات.
واختار شيخ الإسلام أيضًا: أنه يقبل التعديل والجرح بالاستفاضة؛ لأن المقصود فيها البيان والتعريف؛ فهي خبرٌ، وليست بشهادةٍ كما تقدم.
- مسألة: (وَمَنِ ادَّعَى) على إنسانٍ لم يَخلُ المدعى عليه من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون المدعى عليه غائبًا عن البلد، ولا يخلو ذلك من أمرين:
1 -
أن يدعي (عَلَى) إنسان (غَائِبٍ) عن البلد (مَسَافَةَ قَصْرٍ) فأكثرَ (1): حكم عليه القاضي إذا كانت له بينة بشرطه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قالت هند أمُّ معاوية رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي جناح أن آخذ من ماله سرًّا؟ قال:«خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالمَعْرُوفِ» [البخاري: 2211، ومسلم: 1714]، فقضى لها، ولم يكن أبو سفيان حاضرًا، ولأن المدعي هنا له بينة حاضرة، فجاز الحكم بها، كما لو كان الخصم حاضرًا، وأما التقييد بمسافة القصر؛ فلأن ما دونها في حكم الإقامة.
وقال شيخ الإسلام: إنْ أمكن القاضي أن يرسل إلى الغائب رسولًا، ويكتب إليه الكتاب والدعوى، ويجاب عن الدعوى بالكتاب والرسول؛ فهذا
(1) قيده في المنتهى بما إذا كان غاب إلى مكان ليس من عمل القاضي، فحينئذ تسمع الدعوى عليه، قال في شرحه:(لأنه إذا كان بعمله أحضره؛ ليكون الحكم عليه مع حضوره).
وهو خلاف ما في الإقناع حيث قال: (ولو في غير عمله) قال البهوتي: (مقتضاه: أنه إذا كان بعمله تسمع عليه بطريق الأولى، وهو كالصريح في كلام الاختيارات، وظاهر إطلاق غيره) كشاف القناع 15/ 159.
هو الذي ينبغي؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمكاتبة اليهود لما ادعى الأنصاري عليهم قتل صاحبهم، وكاتبهم ولم يحضروه [البخاري: 3173، ومسلم: 1669].
2 -
أن يدعي على إنسان غائب عن البلد دون مسافة قصر: فهو في حكم المقيم على ما يأتي.
الحالة الثانية: أن يكون المدعى عليه في حكم الغائب، ويدخل في ذلك:
1 -
المستتر، وأشار إليه بقوله:(أَوْ مُسْتَتِرٍ فِي البَلَدِ) أو دون مسافة قصر: فحكمه حكم الغائب؛ لتعذر حضوره كالغائب، بل أولى؛ لأن الغائب قد يكون له عذر، بخلاف المتواري، ولئلا يجعل الاستتار وسيلة إلى تضييع الحقوق.
2 -
الميت، وأشار إليه بقوله:(أَوْ مَيِّتٍ): فحكمه حكم الغائب؛ لأن الغائب قد يحضر بخلاف الميت.
3 -
الصغير والمجنون، وأشار إليه بقوله:(أَوْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ): فحكمه كالغائب؛ لأن كل واحد منهما لا يُعبِّر عن نفسه.
(وَ) على هذا؛ فإذا ادعي على الغائب مسافة قصر ومن في حكمه، وكان (لَهُ) أي: للمدعي (بَيِّنَةٌ؛ سُمِعَتْ) بينته، (وَحُكِمَ) أي: حكم القاضي له (بِهَا) بشرطه؛ لما تقدم، ثم إذا حضر الغائب، وبلغ الصغير ورشد، وأفاق
المجنون، وظهر المستتر؛ فهم على حججهم؛ لأن المانع إذا زال صاروا كالحاضرين المكلفين.
أما إذا لم تكن له بينة؛ فلا يسمع القاضي دعواه؛ لأنه لا فائدة فيها.
- فرع: يقضي القاضي على الغائب ومن في حكمه إذا كانت الدعوى (فِي غَيْرِ حَقِّ اللهِ تَعَالَى) أي: إذا كانت في حقوق الآدميين، أما إذا كانت في حقوق الله؛ كالزنى والسرقة؛ فلا يقضي علىه؛ لأن مبنى حق الله تعالى على المسامحة.
لكن يقضي في السرقة بالمال فقط، دون القطع؛ لأنه حق آدمي.
الحالة الثالثة: أن يكون المدعى عليه غائبًا عن مجلس الحكم، حاضرًا في البلد مكلفًا غير مستتر، وأشار إليه بقوله:(وَلَا تُسْمَعُ) البينة (عَلَى غَيْرِهِمْ) أي: ممن تقدم ذكرهم، (حَتَّى):
1 -
(يَحْضُرَ) المدعى عليه مجلس الحكم؛ لحديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ، فَلَا تَقْضِ لِلأَوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ، فَسَوْفَ تَدْرِي كَيْفَ تَقْضِي» [أحمد: 1211، والترمذي: 1331]، ولأنه أمكن سؤاله، فلم يجز الحكم عليه قبله، بخلاف الغائب البعيد.
وقيل: تسمع، ويحكم عليه؛ لأنه غائب؛ أشبه الغائب البعيد.
قال شيخ الإسلام: (وإن أقام بينة فمن الممكن أيضًا أن يقال: إذا كان
الخصم في البلد لم يجب عليه حضور مجلس الحاكم، بل يقول أرسلوا إلى من يعلمني بما يدعي به علي، وإذا كان لا بد للقاضي من رسول إلى الخصم يبلغه الدعوى بحضوره، فيجوز أن يقوم مقامه رسول، فإن المقصود من حضور الخصم سماع الدعوى ورد الجواب بإقرار أو إنكار)، واستدل بأن أنيسًا كان نائب النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الحد بعد سماع الاعتراف [البخاري: 2314، ومسلم: 1697].
2 -
(أَوْ) حتى (يَمْتَنِعَ) الحاضر بالبلد أو الغائب دون المسافة عن الحضور، وتسمع الدعوى والبينة؛ لتعذر حضوره كالغائب البعيد.
- مسألة: (وَلَو رُفِعَ إِلَيْهِ) أي: إلى الحاكم (حُكْمٌ) في مختلَفٍ فيه؛ كنكاح امرأة نفسها، وكان هذا الحكم (لَا يَلْزَمُهُ نَقْضُهُ)، بأن لم يخالف نص كتاب أو سنة صحيحة أو إجماعًا قطعيًّا، فرُفِع إليه (لِيُنَفِّذَهُ؛ لَزِمَهُ) أي: الحاكم (تَنْفِيذُهُ) وإن لم ير الحكم صحيحًا عنده; لأنه حُكْم بما ساغ الاجتهاد فيه، لا يجوز نقضه، فوجب تنفيذه لذلك.
وكذا إن كان نفس الحكم مختلفًا فيه؛ كحكمه بعلمه، وحكمه بشاهد ويمين، وتزويجه يتيمة، وحكمه على غائب، أو بالثبوت بطريق الشهادة على الخط، ونحوه.