الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في آداب القاضي
وهي أخلاقه التي ينبغي له ولغيره التخلق بها.
والمقصود من هذا الباب: بيان ما يجب على القاضي، أو يسن له أن يأخذ به نفسه وأعوانه، من الآداب والقوانين التي تنضبط بها أمور القضاء، وتحفظهم من الميل والزيغ.
- مسألة: (وَسُنَّ كَوْنُهُ) أي: القاضي:
1 -
(قَوِيًّا بِلَا عُنْفٍ)؛ لئلا يطمع فيه الظالم، والعنف ضد الرفق.
2 -
(لَيِّنًا بِلَا ضُعْفٍ)؛ لئلا يهابه صاحب الحق.
3 -
(حَلِيماً)؛ لئلا يغضب من كلام الخصم، فيمنعه ذلك من الحكم بينهم.
4 -
(مُتَأَنِّياً)؛ من التأني، وهو ضد العجلة؛ لئلا تؤدي عجلته إلى ما لا ينبغي.
5 -
(فَطِناً)؛ لئلا يخدع من بعض الخصوم على غرة.
6 -
(عَفِيفاً)؛ أي: كافًّا نفسه عن الحرام؛ لئلا يطمع في ميله بأطماعه.
وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا حَتَّى تَجْتَمِعَ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ: عَفِيفٌ، حَلِيمٌ، عَالِمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ، مُسْتَشِيرٌ لِذَوِي الأَلْبَابِ، لَا يَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ» [الاستذكار معلقًا: 7/ 299]
- مسألة: (وَ) يجب (عَلِيْهِ العَدْلُ بَيْنَ مُتَحَاكِمَيْنِ) ترافعا إليه (فِي لَفْظِهِ) أي: كلامه لهما، (وَ) في (لَحْظِهِ) أي: ملاحظته، (وَ) في (مَجْلِسِهِ، وَ) في (دُخُولٍ عَلَيْهِ)؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنِ ابْتُلِيَ بِالقَضَاءِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ، وَإِشَارَتِهِ، وَمَقْعَدِهِ» [البيهقي: 20457، وضعفه]، ولأنه إذا ميَّز أحدهما حَصِرَ الآخر وانكسر، وربما لم تقم حجته، فيؤدي ذلك إلى ظلمه.
ويستثنى من ذلك ثلاث حالات:
1 -
إذا سلَّم أحدهما عليه، فيرد عليه ولا ينتظر سلام الثاني؛ لوجوب الرد فورًا.
2 -
المسلم إذا ترافع إليه مع كافر؛ فيُقدَّم المسلم عليه في الدخول،
ويرفعه في الجلوس؛ لحرمة الإسلام، قال تعالى:{أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون} [السجدة: 18]، ولما ورد عن علي رضي الله عنه أنه لما اختصم هو ورجل نصراني عند شريح؛ أجلس شريحٌ عليًّا رضي الله عنه في مجلسه، وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني، فقال له علي رضي الله عنه:«أَمَا يَا شُرَيْحُ لَوْ كَانَ خَصْمِي مُسْلِمًا لَقَعَدْتُ مَعَهُ مَجْلِسَ الخَصْمِ» [البيهقي: 20465، وضعفه].
3 -
أن يأذن أحد المتخاصمين للقاضي في أن يرفع الخصم الآخر في المجلس؛ لأن الحق له وقد أسقطه.
- مسألة: (وَحَرُمَ القَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ)، والغضب لا يخلو من حالين:
1 -
أن يكون الغضب (كَثِيراً): فيحرم؛ لخبر أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» [البخاري: 7158، ومسلم: 1717]، ولأنه ربما حمله الغضب على الجور في الحكم.
2 -
أن يكون الغضب يسيرًا لا يمنع فهم الحكم: فلا يحرم؛ لعدم تحقق علة المنع (1).
(1) استدل ابن عثيمين على جواز القضاء حال الغضب اليسير بحديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في قصة الأنصاري الذي اختصم مع الزبير، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: «أَسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أَرْسِلِ المَاءَ إِلَى جَارِكَ» ، فغضب الأنصاري، فقال: أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:«أسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الجَدْرِ» [البخاري: 2359، ومسلم: 2357]، والأصحاب يستدلون به فيما إذا خالف القاضي وحكم وهو غضبان، فوافق الحق، أن حكمه ينفذ، ويقولون: إن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، أن له القضاء مع الغضب الكثير؛ لأنه لا يجوز عليه غلط يقر عليه لا قولًا ولا فعلًا في حكم. ينظر: الشرح الكبير 11/ 401، كشاف القناع 6/ 316.
- مسألة: (أَوْ) أي: ويحرم القضاء وهو (حَاقِنٌ، أَوْ فِي) حالة (شِدَّةِ جُوعٍ، أَوْ) في شدة (عَطَشٍ، أَوْ هَمٍّ، أَوْ مَلَلٍ، أَوْ كَسَلٍ، أَوْ نُعَاسٍ، أَوْ بَرْدٍ مُؤْلِمٍ، أَوْ حَرٍّ مُزْعِجِ)؛ لأن ذلك كله في معنى الغضب؛ لأنه يشغل الفكر الموصل إلى إصابة الحق غالبًا.
- فرع: إن خالف وحكم وهو غضبان ونحوه، فلا يخلو من حالين:
1 -
إن أصاب الحق: نفذ حكمه؛ لانتفاء العلة التي من أجلها حرم، وهي الخوف من عدم إصابة الحق.
2 -
إن لم يصب الحق: لم ينفذ حكمه؛ لأنه على غير حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
- مسألة: (وَ) يحرم على القاضي (قَبُولُ رِشْوَةٍ) بتثليث الراء؛ لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ وَالمُرْتَشِيَ» [أحمد: 6532، وأبو داود: 3580، والترمذي: 1337، وابن ماجه: 2313]، ولأنه إنما يرتشي ليحكم بغير الحق، وهو من أعظم الظلم.
- فرع: (وَ) يحرم على القاضي قبول (هَدِيَّةٍ)؛ لحديث أبي حُميد الساعدي رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا على صدقات بني سليم، يُدعى ابن اللُّتْبِيَّة، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم وهذا هدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فَهَلَّا جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا» ثم خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلَّانِي اللهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ: هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أَفَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، وَاللهِ لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلَّا لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ» ، ثم رفع يده حتى رُئي بياضُ إبْطِه، يقول:«اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» [البخاري: 6979، ومسلم: 1832]، ولأن القصد بها غالبًا استمالة الحاكم ليعتني به في الحكم، فتشبه الرشوة.
- فرع: تحرم الهدية للقاضي، إلا إذا توفر شرطان:
الشرط الأول: إذا كانت الهدية ممن يهادي القاضي قبل ولايته؛ لأنها لم تكن من أجل الولاية؛ لوجود سببها قبلها، بدليل وجودها قبل الولاية.
أما إذا كانت (مِنْ غَيْرِ مَنْ كَانَ يُهَادِيهِ) أي: القاضي (قَبْلَ وِلَايَتِهِ)؛ لم يجز له أخذها؛ لأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها؛ ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه، فلم يجز قبولها؛ كالرشوة.
(وَ) الشرط الثاني: أن (لَا) تكون ثَمَّ (حُكُومَةٌ لَهُ) أي: للمهدي؛ لأن التُّهمة حينئذ منتفية.
فأما إن كان للمُهْدي حكومة عند القاضي، أو أحسَّ أنه يقدمها بين يدي خصومة؛ لم يجز للقاضي أخذ الهدية، ولو كان ممن يهاديه قبل الولاية؛ لما فيها من استمالة القاضي في الحكم.
واختار ابن عثيمين: أن الهدية تحرم إذا كانت ممن له حكومة، فإن لم تكن له حكومة فهي جائزة وإن كانت ممن لم يهاده من قبل؛ لأن الأصل الجواز، ولانتفاء التُّهمة.
- فرع: حكم القاضي في إجابة دعوات الولائم كغيره؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يحضرها ويأمر بحضورها.
- مسألة: (وَلَا) يصح ولا (يَنْفُذُ حُكْمُهُ) في مواطن:
1 -
(عَلَى عَدُوِّهِ)؛ كالشهادة عليه.
2 -
(وَلَا) يصح ولا ينفذ حكمه (لِنَفْسِهِ)؛ لأنه لا يجوز له أن يشهد لها.
3 -
(وَلَا) يصح ولا ينفذ حكمه (لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ)؛ كزوجته
وعمودي نسبه؛ كشهادته لهم، وحكاه القاضي عياض إجماعًا، وله الحكم عليه؛ لزوال التهمة.
ويأتي في الشهادات حكم الشهادة على عدوه، ومن لا تقبل شهادته لهم.
- مسألة: (وَمَنِ اسْتَعْدَاهُ) أي: القاضيَ أحدٌ (عَلَى خَصْمٍ فِي البَلَدِ) الذي به القاضي، أي: طلب من القاضي أن يُحضره له، (بِمَا تَتْبَعُهُ الهِمَّةُ؛ لَزِمَهُ) أي: القاضي (إِحْضَارُهُ) أي: الخصم، ولو لم يُحرِّر المستعدي الدعوى؛ لأن ضرر فوات الحق أعظم من حضور مجلس الحكم، وقد حضر عمر وأُبَيٌّ عند زيد بن ثابت رضي الله عنهم كما تقدم، فأما ما لا تتبعه الهمة؛ فلا يستعدى الحاكم في مثل هذا؛ لما فيه من ضرر الحضور إلى مجلس الحكم بالشيء التافه.
(إِلَّا) في حالتين لا يحضر القاضي الخصم:
1 -
(غَيْرَ بَرْزَةٍ)، وهي: المرأة المخدَّرة التي لا تبرز لقضاء حوائجها، إذا استعدي عليها؛ (فَتُوَكِّلُ)؛ لأن الوكيل يقوم مقامها، ولا يُحضرها؛ لما فيه من المشقة والضرر.
فإن كانت برزة أُحضرتْ؛ لعدم العذر.
2 -
المعذور عن حضور مجلس القاضي؛ (كَمَرِيضٍ وَنَحْوِهِ) ممن له عذر؛ فلا يحضره ويؤمر بالتوكيل؛ لما فيه من المشقة.