الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(كِتَابُ القَضَاءِ)
القضاء لغة: إحكام الشيء، والفراغ منه، ومنه قوله تعالى:{فقضاهن سبع سموات في يومين} [فصلت: 12].
واصطلاحًا: تبين الحكم الشرعي، والإلزام به، وفصل الخصومات.
والأصل فيه: قوله تعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض)، وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» [البخاري: 7352، ومسلم: 1716]، وأجمع المسلمون على نصب القضاة للفصل بين الناس.
- مسألة: (وَهُوَ) أي: القضاء (فَرْضُ كِفَايَةٍ)؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه؛ (كَالإِمَامَةِ) العظمى والجهاد، قال شيخ الإسلام:(وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، فهو تنبيه على أنواع الاجتماع).
- مسألة: (فَـ) يجب أن (يَنْصِبَ الإِمَامُ بِكُلِّ إِقْلِيمٍ قَاضِياً)؛ لأن الإمام
لا يمكنه تولي الخصومات والنظر فيها في جميع البلاد، ولئلا تضيع الحقوق بتوقف فصل الخصومات على الإمام مع اتساع الأرض، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه القضاةَ للأمصار، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا إلى اليمن قاضيًا [أبو داود: 3582، والترمذي: 1331]، وبعث معاذًا قاضيًا أيضًا [البخاري: 1458، ومسلم: 19]، وولَّى عمرُ شُريحًا قضاء الكوفة، وولى كعب بن سُور قضاء البصرة [ابن أبي شيبة: 35796].
- فرع: (وَ) يجب على الإمام أن (يَخْتَارَ لِذَلِكَ) أي: لمنصب القضاء (أَفْضَلَ مَنْ يَجِدُ عِلْماً وَوَرَعاً)؛ لأن الإمام ناظر للمسلمين، فوجب عليه اختيار الأصلح.
(وَيَأْمُرُهُ) الإمام إذا ولاه (بِالتَّقْوَى)؛ لأنها رأس الدين، (وَ) يأمره بـ (ـتَحَرِّي العَدْلِ) أي: إعطاء الحق لمستحقه من غير ميل؛ لأنه المقصود من القضاء.
- مسألة: (وَتُفِيدُ وِلَايَةُ حُكْمٍ عَامَّةٌ) أي: لم تُخَصَّ بحال دون أخرى، النظرَ في أشياء والإلزام بها، وهي:
1 -
(فَصْلُ الحُكُومَةِ، وَأَخْذَ الحَقِّ) ممن هي عليه (وَدَفْعُهُ إِلَى رَبِّهِ)؛ لأن المقصود من القضاء ذلك.
2 -
(وَالنَّظَرُ فِي مَالِ يَتِيمٍ، وَ) مال (مَجْنُونٍ، وَ) مال (سَفِيهٍ) لا ولي لهم غيره، (وَ) مال (غَائِبٍ)؛ لأن ترك ذلك يؤدي إلى ضياع أموالهم.
3 -
والحجر لسفه، والحجر لفلس؛ لأن الحجر يفتقر إلى نظر واجتهاد، فلذلك كان مختصًّا به.
4 -
(وَ) النظرُ في (وَقْفِ عَمَلِهِ) أي: الأوقاف التي في ولايته؛ (لِيُجْرَى عَلَى شَرْطِهِ) أي: شرط الواقف؛ لأن الضرورة تدعو إلى إجرائها على شروطه.
5 -
(وَغَيْرُ ذَلِكَ) من نحو تنفيذ الوصايا، وتزويج من لا ولي لها من النساء، وتصفح حال شهوده وأمنائه.
قال ابن عثيمين: (موجَب ولاية القضاء ليس أمراً شرعيًّا متلقًّى من الشرع، بحيث نُلزم القاضي به، لكنه أمر عرفي حسب ما تقتضيه الولاية في العرف، فالنظر في وقوف عمله ليس له، فالآن هناك وزارة الأوقاف هي التي تتولى هذا، وإقامة الحدود الآن ليس له، فهو يحكم ويقيم غيره، وإمامة الجمعة والعيد ليس له الآن).
- مسألة: (وَيَجُوزُ) للإمام (أَنْ يُوَلِّيَهُ) أي: القاضيَ:
1 -
(عُمُومَ النَّظَرِ فِي عُمُومِ العَمَلِ)، بأن يوليَه القضاء في سائر الأحكام بسائر البلاد.
2 -
(وَ) يجوز أن يوليَه (خَاصًّا فِي أَحَدِهِمَا) أي: في النظر أو في العمل، فيوليه عموم النظر بمكان خاصٍّ، أو يوليه خاصًّا؛ كعقود الأنكحة في سائر البلاد.
3 -
(وَفِيهِمَا) أي: يوليه خاصًّا بمكان خاص، فينفذ حكمه في تلك المنطقة.
- مسألة: (وَشُرِطَ) في القاضي عشر صفات، وهي (كَوْنُ قَاضٍ):
1 -
(بَالِغاً)؛ لأن غير البالغ تحت ولاية غيره، فلا يكون واليًا على غيره.
2 -
(عَاقِلاً)؛ لما تقدم.
3 -
(ذَكَراً)؛ لحديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» [البخاري: 4425]، ولأنها ضعيفة الرأي، ناقصة العقل، ليست أهلًا للحضور في محافل الرجال، ولم يولِّ صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه
امرأةً قضاءً.
4 -
(حُرًّا) كله؛ لأن غيره منقوص بالرق، مشغول بحقوق سيده.
وقيل، واختاره شيخ الإسلام وابن عثيمين: لا تشترط الحرية، فيجوز أن يكون عبدًا؛ لعدم الدليل على اشتراط الحرية، وأما كونه مشغول بحقوق سيده، فإن السيد إذا أذن له في تولي القضاء فقد زال المانع.
5 -
(مُسْلِماً)؛ لأن الكفر يقتضي إذلال صاحبه، والقضاء يقتضي احترامه، وبينهما منافاة، ولأنه يشترط في الشهادة، ففي القضاء أولى.
قال ابن عثيمين: (وظاهر كلام المؤلف: أنه لا يجوز أن يولى القضاء ولو على أمَّة كافرة، فمثلًا: إذا كان أهل الذمة تحت ولاية المسلمين، فإنه لا يجوز لولي الأمر أن ينصب فيهم قاضيًا منهم، بل ينصب قاضيًا من المسلمين، أما إذا تحاكموا هم إلى واحد منهم، ونصبوا حَكَمًا بينهم فإننا لا نتعرض لهم).
6 -
(عَدْلاً)، فلا تجوز تولية فاسق، ولا من فيه نقص يمنع قبول الشهادة؛ لقوله تعالى:{إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا} [الحجرات: 6]، ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله ويجب التبيين عند حكمه، وقياسًا على الشهادة.
7 -
(سَمِيعاً)؛ لأن الأصم لا يسمع كلام الخصمين.
واختار ابن عثيمين: إذا أمكن أن تصل حجة الخصمين إلى القاضي بأي وسيلة؛ زالت العلة، وإذا زالت العلة زال الحكم، ولعموم الأدلة.
8 -
(بَصِيراً)؛ لأن الأعمى لا يميز المدَّعي من المدَّعى عليه، ولا المقِرَّ من المقَرِّ له.
واختار ابن عثيمين: أنه لا يشترط أن يكون بصيرًا، وأن الأعمى يصح أن يكون قاضيًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ولّى ابن أم مكتوم على المدينة، وكان رجلًا أعمى [عبد الرزاق: 3829]، ولأن الواقع يشهد بقوة إدراك الأعمى وصلاحيته للقضاء.
وقال شيخ الإسلام في كون الأعمى قاضيًا: (ويتوجه: أن يصح مطلقًا، ويعرف بأعيان الشهود والخصوم، كما يعرف بمعاني كلامهم في الترجمة، إذ معرفة كلامه وعينه سواء).
9 -
(مُتَكَلِّماً)؛ لأن الأخرس لا يُمكِنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته.
واختار ابن عثيمين: أنه يجوز أن يُولَّى الأخرس، بشرط أن تكون إشارته معلومة، أو كتابته مقروءة؛ لعدم الدليل على اشتراط كونه متكلمًا.
10 -
(مُجْتَهِداً)، ذكره ابن حزم إجماعًا؛ لقوله تعالى:{لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105]، ولأن المفتي لا يجوز أن يكون عامِّيًّا مقلِّدًا، فالحاكم أولى، (وَلَوْ) كان اجتهاده (فِي مَذْهَبِ إِمَامِهِ) إذا لم يوجد
غيره؛ للضرورة.
وقيل: يصح أن يكون القاضي مقلِّدًا؛ للضرورة، قال في الإنصاف:(وعليه العمل من مدة طويلة، وإلا لتعطلت أحكام الناس).
قال شيخ الإسلام: (هذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، وتجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولَّى لعدمٍ أنفعُ الفاسقَيْنِ وأقلهما شرًّا، وأعدلُ المقلدَيْن وأعرفهما بالتقليد)؛ وإلا لتعطلت الأحكام واختل النظام، والله تعالى يقول:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} [البقرة: 286]، وقال الله تعالى:{فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16].
وقال شيخ الإسلام: (الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل وتنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله)؛ ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26].
- مسألة: (وَإِنْ حَكَّمَ اثْنَانِ) فأكثرُ (بَيْنَهُمَا رَجُلاً يَصْلُحُ للْقَضَاءِ)، بأن اتصف بما تقدم من شروط القاضي، - وقال شيخ الإسلام: الصفات العشر لا تشترط فيمن يحكمه الخصمان (1) -؛ فيحكم بينهما؛ (نَفَذَ حُكْمُهُ) أي:
(1) قال ابن عثيمين: (الفرق أن الحاكم منصوب من قبل ولي الأمر، فحكومته ولاية، وأما هذا فهو محكم من قبل خصم معين بقضية معينة، فهو يشبه المصلح بين الخصمين).
الحَكَم (فِي كُلِّ مَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُ مَنْ وَلَّاهُ إِمَامٌ أَوْ نَائِبُهُ)، في المال، والقصاص، والحد، والنكاح، واللعان وغيرها، حتى مع وجود قاضٍ فهو كحاكم الإمام؛ لحديث شريح بن هانئ، عن أبيه هانئ رضي الله عنه: أنه لما وَفَد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وهم يكنون هانئًا أبا الحكم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:«إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الحَكَمِ؟ » فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، قال:«مَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الوَلَدِ؟ » قال: لي شريح، وعبد الله، ومسلم، قال:«فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ » قال: شريح، قال:«فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ» فدعا له ولولده [أبو داود: 4955، والنسائي: 5387]، وتحاكم عمر وأُبَيٌّ إلى زيد بن ثابت رضي الله عنهم [البيهقي: 20463]، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم رضي الله عنهم [البيهقي: 10424]، ولم يكن أحد منهم قاضيًا.
وعنه: لا ينفذ في قود وقذف ولعان ونكاح؛ لأنها مبنية على الاحتياط، فلابد من عرضها على القضاء للحكم (1).
(1) قال في الفروع: (واختار شيخنا - يعني: شيخ الإسلام -: نفوذ حكمه بعد حكم حاكم لا إمام)، وقال ابن قندس عند هذه العبارة:(فلعله نفوذ حكمه لعدم حاكم، لكن الموجود في النسخ كما في الأصل، وقد تقدم أنه لم يذكر هذا في الاختيارات، فإن كان اللفظ نفوذ حكمه لعدم حاكم؛ فهو واضح، وإن كان ما في الأصل صحيحًا، فالمعنى الظاهر منه: أنه لا ينفذ إلا بعد حكم حاكم يحكم أنه نافذ، ويكون ذلك من باب ما إذا كان نفس الحكم مختلفًا فيه؛ لا يلزم تنفيذه إلا أن يحكم به حاكم؛ كالحكم على الغائب، والحكم بالشاهد واليمين على ما ذكره صاحب المحرر، والظاهر: أن الأول أولى، وأن اللفظ حصل به تغيير، والله أعلم)[حاشية ابن قندس على الفروع 11/ 130].