الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(كِتَابُ الشَّهَادَاتِ)
واحدها شهادة، مشتقة من المشاهدة؛ لإخبار الشاهد بما يشاهده، يقال: شهد الشيء، إذا رآه.
وأجمعوا على قبول الشهادة في الجملة؛ لقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} الآية [البقرة: 282]، وقوله:{وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2]، ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً:«شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» [البخاري 3515، ومسلم 138]، ولدعاء الحاجة إليها؛ لحصول التجاحد، قال شريح:«القضاء جَمْر، فنحِّه عنك بعودين» يعني: الشاهدين [ابن أبي شيبة 22981].
والشهادة حجة شرعية، تبين الحق المدعى به، ولا توجبه، بل القاضي يوجبه بها.
- مسألة: الشهادة شرعاً: الإخبار بما علمه بلفظ خاص، وهو: أشهد، أو: شهدت بكذا.
وعنه، واختاره شيخ الإسلام: تصح تأديتها بأي لفظ أو صيغة تفيد المعنى؛ لأن الغرض من الشهادة هو إخبار الشاهد عما علمه، ليتمكن القاضي من الحكم وإيصال الحق إلى أصحابه، وهذا يتحقق بأي لفظ يفيد
العلم، ولا دليل على اشتراط لفظ الشهادة.
- مسألة: تحمُّل الشهادة وأداؤها على قسمين:
القسم الأول: تحملها وأداؤها في حق الله تعالى:
أما الأداء: فيباح لمن عنده شهادة بحد الله تعالى؛ كزنىً وشرب خمر ونحوه؛ إقامتُها وتركُها من غير تقدم دعوى؛ لأن الجارود وأبا هريرة أقاما الشهادة على قدامة بن مظعون رضي الله عنهم بشرب الخمر [عبد الرزاق 17076].
ولا تستحب؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [البخاري 2442، ومسلم 2580]، ولأن حقوق الله مبنية على المسامحة، ولا ضرر في تركها على أحد، وقال القاضي والموفق: تركها أولى؛ للترغيب في الستر.
وقال في الفروع: (ويتوجه فيمن عرف بالشر والفساد ألا يستر عليه).
وأما في تحمُّل ذلك: فظاهر ما في الإقناع عدم الاستحباب (1) أيضاً لما تقدم.
وقال ابن عثيمين: (لا يتعين التحمل، فلو دعاك شخص وقال: تعال اشهد على فلان أنه يشرب الخمر، فإنه لا يجب عليك أن تتحمل الشهادة،
(1) قال في كشاف القناع (6/ 406): (ولا تستحب الشهادة بحق الله تعالى)، وذكر الفتوحي في المنتهى أن الشهادة تطلق على التحمل وعلى الأداء.
لأن هذا لا يضيع حق آدمي، إنما هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والستر على فاعل المحرم قد يكون أفضل من إظهاره وإعلانه، لكن لو فرض أن امتناعك يتضمن ضررًا على هذا الذي دعاك، فربما نقول: يجب؛ دفعًا للضرر، وهذا يختلف بحسب الحال).
القسم الثاني: (تَحَمُّلُهَا) أي: الشهادة (فِي غَيْرِ حَقِّ اللهِ) تعالى، مالًا كان حق الآدمي؛ كالبيع والغصب، أو غيره؛ كحد قذف:(فَرْضُ كِفَايَةٍ)؛ إذا قام به من يكفي سقط عن غيره؛ لقوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282]، قال ابن عباس رضي الله عنهما:«المراد به التحمل للشهادة، وإثباتها عند الحاكم» [تفسير الطبري 6/ 70]، ولدعاء الحاجة إلى ذلك في إثبات الحقوق والعقود؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(وَ) أما (أَدَاؤُهَا) أي: الشهادة في غير حق الله تعالى: فهو (فَرْضُ عَيْنٍ)(1)، واختاره ابن عثيمين؛ لقوله تعالى:{ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} [البقرة: 283].
(1) كذا في الإقناع (4/ 430)، والإنصاف (29/ 252)، وقال في المنتهى:(تحمل المشهود به في غير حق الله تعالى فرض كفاية، وتطلق الشهادة على التحمل وعلى الأداء)، قال البهوتي في شرحه (6/ 636):(فيكون الأداء أيضاً فرض كفاية، قدمه الموفق، وجزم به جمع).
- فرع: يشترط في وجوب التحمل ووجوب الأداء:
1 -
أن يُدْعى إليهما من تقبل شهادته لدون مسافة قصر، عند سلطان لا يَخاف تعديه؛ لقوله تعالى:{ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282]، ولأن مقصود الشهادة لا يحصل ممن ليس من أهلها.
2 -
أن يكون (مَعَ القُدْرَةِ) على التحمل والأداء (بِلَا ضَرَرٍ) يلحقه في بدنه، أو ماله، أو أهله، أو عرضه، وبلا ضرر يلحقه بتبذل نفسه إذا طلبت منه تزكيتها، فإن حصل له ضرر بشيء من ذلك؛ لم تجب؛ لقوله تعالى:{ولا يضار كاتب ولا شهيد} [البقرة: 282]، ولأنه لا يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره.
- مسألة: (وَحَرُمَ أَخْذُ أُجْرَةٍ) على الشهادة، (وَ) حرم أيضاً أخذ (جُعْلٍ عَلَيْهَا)، تحمُّلًا وأداء، ولو لم تتعين عليه؛ لأن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منه فرضًا، ولا يجوز أخذ الجعل عليه؛ كصلاة الجنازة.
وفي وجه، واختاره شيخ الإسلام: يجوز للمحتاج؛ لقول الله تعالى في ولي اليتيم: (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف).
- فرع: (لَا) يحرم أخذ (أُجْرَةِ مَرْكُوبٍ) من رب الشهادة (لِـ) شاهدٍ (مُتَأَذٍّ بِمَشْيٍ) إلى محل الشهادة، أو عاجز عن المشي.
- مسألة: (وَ) حرم (أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُهُ)؛ لقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]، ولقوله تعالى:(إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)، قال المفسرون:(وهو يعلم ما شهد به عن بصيرة ويقين)[تفسير الطبري 21/ 654].
- فرع: مَدْرَك العلم الذي تكون به الشهادة: إما (بِرُؤْيَةٍ، أَوْ) بـ (سَمَاعٍ) غالبًا؛ لجواز الشهادة ببقية الحواس؛ كالذوق واللمس، فيشهد من رأى زيدًا يقرض عمرًا ونحوه، أو سمعه يبيعه أو يقر له، وإن احتمل أنه أقاله البيع، أو وفَّاه القرض، أو وفاه ما أقر له به؛ فالمعتبر العلم في أصل المدرك لا في دوامه، وإلا لتعطلت منافع الناس.
- فرع: الرؤية تختص بالأفعال؛ كالقتل والسرقة والرضاع وعيوب المبيع، ونحو ذلك؛ لأنه يمكن الشهادة على ذلك قطعاً، فلا يرجع إلى غيره.
- فرع: السماع ضربان:
الضرب الأول: سماع من المشهود عليه؛ كالطلاق، والعتاق، والإبراء، والعقود من البيع والإجارة والشركة ونحوها، والإقرار بنسب أو مال أو قود، ونحوها، فيلزم الشاهد أن يشهد به على من سمعه منه؛ لأنه بسماعه ذلك حصل العلم بالمشهود به كما لو رآه.
الضرب الثاني: سماع من جهة الاستفاضة، وذلك فيما يتعذر علمه غالباً
بدونها، وأشار إليه بقوله:(أَوْ) سماع بـ (اسْتِفَاضَةٍ)؛ بأن يَشْتَهِر المشهود به بين الناس، فيتسامعوا به بإخبار بعضهم بعضًا.
ولا يجوز لأحد أن يشهد باستفاضة إلا إن سمع ما يشهد به (عَنْ عَدَدٍ يَقَعُ بِهِ) أي: بخبرهم (العِلْمُ)؛ لأن لفظ الاستفاضة مأخوذ من فيض الماء لكثرته، قال في شرح المنتهى: ويكون ذلك العدد عدد التواتر; لأنها شهادة، فلا يجوز أن يشهد بها من غير علم، وقال الخرقي: ما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه شهد به.
وقال شيخ الإسلام: يشهد بالاستفاضة، ولو عن واحد تسكن إليه النفس.
- فرع: لا تسمع شهادة بالاستفاضة إلا (فِيمَا يَتَعَذَّرُ عِلْمُهُ غَالِباً بِغَيْرِهَا) أي: بغير الاستفاضة؛ (كَـ):
1 -
(نَسَبٍ)، إجماعًا، وإلا لاستحالت معرفته به، إذ لا سبيل إلى معرفته قطعًا بغير الاستفاضة، ولا يمكن المشاهدة فيه.
2 -
وولادة (وَمَوْتٍ)، إذ الولادة قد لا يباشرها إلا المرأة الواحدة، والموت قد لا يباشره إلا الواحد والاثنان ممن يحضره، ويتولى غسله وتكفينه.
3 -
وملك مطلق؛ لأن الملك قد يتقادم سببه، فتوقُّف الشهادة في ذلك على المباشرة يؤدي إلى العسر، خصوصًا مع طول الزمن.
وخرج بالمطلق: ملكه بالشراء من فلان، أو الإرث، أو الهبة، فلا تكفي فيه الاستفاضة.
4 -
(وَنِكَاحٍ) عقداً ودواماً، (وَطَلَاقٍ)، وخلع؛ لأنه مما يشيع ويشتهر غالبًا، والحاجة داعية إليه.
5 -
(وَوَقْفٍ)؛ بأن يشهد بأن هذا وقفُ زيد، لا أن زيداً أوقفه، (وَمَصْرِفِهِ) أي: مصرف الوقف؛ لدعاء الحاجة إلى ذلك، خصوصًا مع طول المدة.
وكذلك: العتق، والولاء، والولاية، والعزل، وما أشبه ذلك؛ فيشهد بالاستفاضة في ذلك كله؛ لأن هذه الأشياء تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها ومشاهدة أسبابها، فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة؛ كالنسب.
- مسألة: (وَ) من شهد بعقدٍ من العقود (اعْتُبِرَ) في صحة شهادته به (ذِكْرُ شُرُوطِ مَشْهُودٍ بِهِ) أي: شروط العقد الذي شهد به؛ للاختلاف فيها، فربما اعتقد الشاهد صحة ما لا يصح عند القاضي.
فإن شهد برضاع -مثلاً-: فلا بد من ذكر عدد الرضعات، وأنه شرب من ثديها، أو من لبنٍ حُلِب منه؛ لأن الناس يختلفون في عدد الرضعات، وفي الرضاع المحرم، ولا بد أن يشهد أنه ارتضع في الحولين؛ لأن الرضاع بعدهما غير محرم، فلا يكفي أن يشهد الشاهد أنه ابنها من الرضاع؛ لاختلاف الناس فيما يصير به ابنها.