الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخذت إحدى يديه تقلّبها ثم بكت .. هذه أنامل أخيها وحبيبها ورفيق طفولتها .. يقول أنس بن مالك رضي الله عنه عن عمّه: (قاتلهم حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة، وطعنة، ورمية، فقالت أخته عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفتُ أخي إلَّا ببنانه .. ونزلت هذه الآية: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}، قال: فكانوا يرون أمّا نزلت فيه وفي أصحابه)(1).
ومضى أنس بعد أن برّ بيمينه .. وتلقّى السيوف بكل جسده حتى تزيّن كله بها .. كان جسد أنس أرضًا ثانية للمعركة .. حتى أن وجهه لم يعرف من الجراح والشقوق وتشويه المشركين له .. فنزلت هذه الآيات العظيمة فيه وفي رفاقه .. فقرأها صلى الله عليه وسلم وبشّرهم وبشّر من بعدهم.
النبي يبشّر الشهداء
فرسول الله صلى الله عليه وسلم (مر على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف عليه، ودعا له، ثم قرأ هذه الآية:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة إلَّا ردوا عليه) (2).
(1) حديث صحيح رواه البخاري (2805) ومسلمٌ (1903) واللفظ له.
(2)
سنده صحيح رواه الحاكم (3/ 24) ومن طريقه البيهقي (3/ 284): أخبرنا أبو الحسين: عبيد الله بن محمَّد القطيعي ببغداد من أصل كتابه، حدثنا أبو إسماعيل محمَّد بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي، حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الأعلي بن عبد الله بن أبي فروة، عن قطن بن وهب، عن عبيد بن عمير، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: =
وقف صلى الله عليه وسلم أمام هؤلاء الأبرار وبشّرهم .. هؤلاء الأبرار الذين سافروا إلى جناتهم .. التي لا تعرف مللًا ولا شقاءً ولا رتابة .. جناتهم التي علت كل طموح وفاقت كل تصوّر .. أمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو بينهم وسيبدأ بعد قليل بدفنهم .. لكن امرأة مذهولة تركض نحو الشهداء .. يحملها الحزن والوجد وتحمل في يديها شيئًا .. أشفق صلى الله عليه وسلم عليها .. وخاف على مشاعرها فأمر الصحابة أن يحولوا بينها وبين فضائع التشويه التي فعلها الوثنيون بأجساد الشهداء .. يقول الزبير رضي الله عنه: (إنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت أن تشرف على القتلى، فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم، فقال: المرأة .. المرأة.
قال الزبير: فتوسمت أنها صفية، فخرجت أسعى إليها، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى. فلدمت في صدري -وكانت امرأة جلدة- قالت: إليك عني لا أرض لك.
فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك.
فوقفت، وأخرجت ثوبين معها فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله، فكفنوه فيهما. قال الزبير: فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل، فعل به كما فعل بحمزة، فوجدنا غضاضة وخنى أن يكفن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب، وللأنصاري ثوب، فقدرناهما، فكان أحدهما أكبر من
= وهذا السند صحيح. عبيد مجمع على ثقته، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم (التقريب- 1/ 544) وتلميذه صدوق (التقريب-2/ 127) وعبد الأعلى: ثقة فقيه (السابق- 1/ 464) وسليمان التيمي ثقة من رجال الشيخين (السابق-2/ 322) والأويسي ثقة أيضًا (السابق-1/ 510) وتلميذه ثقة حافظ (التهذيب- 9/ 62) والتقريب (2/ 145).
الآخر، فأقرعنا بينهما، فكفنّا كل واحد منهما في الثوب الذي طار له) (1) .. إذًا فقد حصل حمزة على كفن بعد أن كان ثوبه هو كفنه .. واقتسم المهاجرون والأنصار الأشجان والكفان .. وها هو أمير الاقتسام والكرام .. سعد بن الربيع مضرجًا بدمائه .. ينظر إليه عبد الرحمن بن عوف .. مودعًا أخًا لم تلده أمه .. محتفظًا بجميله .. محتفظًا بجماله الأنصاري .. في ذلك اليوم الذي قدم فيه عبد الرحمن بن عوف من مكة معدمًا لا يملك شيئًا .. في ذلك اليوم توهج سعد بن الربيع بدرًا في ليل ابن عوف وأحزانه ..
قدم المهاجرون من مكة و (لما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع فقال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالًا، فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلقها فإذا انقضت عدّتها فتزوّجها)(2) .. ها هو الكريم راقد رقدة الموت .. قد ترك خلفه زوجة واحدة وابنتين (3) يبكينه بحرقة .. وها هو حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أمام جسد والده الطاهر يبكي .. وفي مكان آخر يذرف هشام بن عامر بن أمية الأنصاري يذرف دموعًا على والده الحبيب .. كانت الساحة تغصّ بالأحزان والدموع .. كثر البكاء ..
(1) سنده قوي رواه أحمد (1/ 165) والبزار (3/ 195) والحارث زوائد (2/ 701) وأبو يعلى (2/ 45) من طريق سليمان بن داود الهاشمي أخبرني ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن عروة أخبرني أبي الزبير
…
وهذا السند رجاله ثقات لكن علته هو عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو صدوق لكنه تغير عند قدومه بغداد وكون سليمان بغدادي يعكر صفو هذا السند .. لكنه لم ينفرد فقد تابعه يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وهو ثقة متقن والراوي عنه ثقة إلا إذا روى عن علي بن مسهر، وهذه ليست منها وقد وثقه أبو حاتم وابن قانع ومدحه ابن معين التهذيب (1/ 169) وهذه المتابعة عند البيهقي في السنن (3/ 401).
(2)
حديث صحيح رواه البخاري (3780).
(3)
سيمر معنا الدليل لاحقًا.