الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما صنع أن سيكون ذلك) (1)(ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: اسمع -وهو جالس- يا عمر: فقال عمر: ألا يكون قد علمنا أنه رسول الله، والله إنك لرسول الله)(2).
وانصرف جابر إلى أخواته مبشّرًا بكرامة الله لوالدهن في حياته وبعد مماته .. فقضاء الدين بهذه الطريقة لا يمكن إلَّا أن يكون إكرامًا من الله لذلك الشيخ الراحل .. ذلك الشيخ الذي عانى الكثير .. الكثير من أجل لقاء الله .. وهو إكرام لهذا الشاب الذي رضي بقضاء الله وقدره .. وحمل وهو صغير أمانة ضخمة وثقيلة .. وهل هناك أثقل من إعالة أسرة كبيرة كهذه .. وهل هناك أثقل من دين يطالبك به يهودي .. ؟!
أجل هناك .. وفي بيت سعد بن الربيع الشهيد الكريم .. الذي ناصف عبد الرحمن بن عوف ماله وأهله .. في بيت هذا الربيع الممتد كالبصر حلَّ الجفاف والفقر .. لقد ذهب مال سعد بن الربيع وثروته مع الريح والجشع .. سعد بن الربيع رضي الله عنه لم يترك سوى زوجته وابنتيه وثروته .. ولا أدري هل طلّق زوجته الثانية أم توفّيت .. ؟ لكن الذي أعرفه أن ماله قد ذهب، فـ:
من أخذ مال سعد بن الربيع
؟
ها هي أم الفتاتين .. زوجة سعد بن الربيع وبعد مرور أيام وشهور تخرج حزينة على زوجها وبناتها .. تتجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم تسأله حلًّا .. تسأل الله فرجًا .. فلا سعد ولا بناته يستحقون كل هذه المعاناة .. تقف تلك الحزينة أمام الرحمة المهداة .. (جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد
(1) حديث صحيح رواه البخاري (2709).
(2)
حديث صحيح رواه البخاري (2601).
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أُحد "معك" شهيدًا وإن عمّهما أخذ مالهما، فاستفاءه (1)، فلم يعد لهما مالًا، والله لا تنكحان إلَّا ولهما مال (2)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقض الله في ذلك، فأنزل الله عليه آية الميراث) (3)، وهي ضمن قوله سبحانه وتعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)} (4).
(فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمّهما، فقال: أعطِ ابنتي سعد الثلثين، وأمّهما الثمن، وما بقي فهو لك)(5)، إنها قسمة الله .. لا قسمة الجاهلية والعادات والتقاليد .. آية تغسل قلب سامعها من الجشع .. تغسله بأنهار العطف والرأفة ..
(1) أخذه غنيمة له مثل المال الذي يؤخذ دون حرب ولا جهد.
(2)
أي انه لن يرغب أحد فيهما وهما معدمتان.
(3)
حديثٌ حسنٌ انظر: ما بعده فهو جزء منه.
(4)
سورة النساء: الآيات 9 - 11.
(5)
سنده حسن رواه ابن سعد (3/ 524) وأحمدُ (3/ 352) وأبو داود والترمذيُّ وابن ماجه (تفسير ابن كثير- سورة النساء) واللفظ لابن سعد عدا؛ "معك" من طرق عن عبد الله ابن محمَّد بن عقيل وهو تابعي حسن الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. والراوي عند أحمد وابن سعد عن ابن عقيل هو عبيد الله بن عمرو الرقي وهو: ثقة. انظر التقريب (1/ 537) حيث قال: ثقة ربما وهم .. وليس هناك من لا: يهم.
تجعله في مكان المفجوع بنفسه .. تجعله يشعر بمرارة اليتم .. بليل اليتم يخيّم على أبنائه .. فإذا لم يكن صاحب قلب رقيق ومرهف .. فالآية التي بعدها تصدع قلبه المتحجر .. وتملأ بطنه الجشع بالجمر والنار .. وتقذف به في الجحيم والسعير الذي لا ينطفئ .. أما الآية الثالثة .. فهي رحمة من الله الرحيم بالأولاد أكثر من رحمة الآباء بأولادهم .. والأبناء بآبائهم .. إن الله يوصي الآباء بأبنائهم .. والموصي أرحم من الموصى.
وقد جعل الله نصيب الذكر أكثر من نصيب الأنثى في الميراث مرتين .. لأن عليه مسؤوليات تجاه الأنثى عديدة .. فالرجل يجب عليه الإنفاق على أمه وأخته وزوجته وابنته .. وهو الذي يدفع المهر لزوجته .. بل يجب عليه أن يكسو زوجته .. وأن يقدم لها الطعام جاهزًا للأكل، كما قال صلى الله عليه وسلم:
(حق المرأة على الزوج أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى)(1) إنها فريضة من الله .. وهو الذي خلق هذا الإنسان- المعجزة .. وهو أعلم به وأحكم وأدرى بما يجعل حياته سعيدة مشرقةً دائمًا .. وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن الفتاتين لهما حكم ما فوق الاثنتين .. عندما خاطب شقيق سعد بن الربيع .. أخبرنا بذلك جابر بن عبد الله .. الذي تراكمت عليه المسؤوليات .. وربما كانت هي سبب مرضه الآن ..
إنه يعاني من وعكةٍ ألزمته الفراش بين أخواته يمرضنه ويخفن أن يغادرهن كوالدهن رضي الله عنه .. لقد اشتدّ به المرض فلم يعد يعقل شيئًا .. وانتقل خبر مرضه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتجه هو وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه إلى حي بني سلمة لزيارته .. يقول جابر رضي الله عنه:
(1) حديث صحيح -صحيح الجامع (1/ 602).
(مرضت فجاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان)(1)(في بني سلمة)(2)(فأتاني وقد أغمي علي)(3) (فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل، فدعا بماءٍ، فتوضأ منه ثم رشّ علي، فأفقت. فقلت:
ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟) (4)(يا رسول الله إنما لي أخوات)(5)(يا رسول الله لا يرثني إلَّا كلالة فكيف الميراث)(6)(كيف أقضي في مالي، كيف أصنع في مالي؟ فما أجابني بشيء حتى نزلت آية الميراث)(7)، وهي الآية التي بعد الآية السابقة .. وهي قوله تعالى:{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)} (8)، فهو أعلم بخلقه وأدرى بما يجعلهم سعداء في الدنيا والآخرة .. إنه يكرمهم بآيات الميراث ويحفظ حقوق الأيتام والورثة .. وفي ذلك تكريم للكريم سعد بن الربيع .. وتكريم لعبد الله بن حرام ..
(1) حديث صحيح رواه البخاري (7309).
(2)
حديث صحيح رواه البخاري (4577).
(3)
حديث صحيح رواه البخاري (7309).
(4)
حديث صحيح رواه البخاري (4577).
(5)
حديث صحيح رواه البخاري (6743).
(6)
حديث صحيح رواه البخاري (5676).
(7)
حديث صحيح رواه البخاري (7309).
(8)
سورة النساء: الآية 12.
وتمرّ أيام فينهض جابر من مرضه الذي ألمّ به .. ولئن كان المرض قد غادر جابر .. فإن هناك من تغلغل المرض في جسده ولم يغادره حتى الآن .. في المدينة رجل هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحيدًا بعد أن أرغم على مفارقة زوجته وهو في الطريق فقد أرغمه أهلها على تركها والرحيل دونها ودون ابنها .. إنه الصحابي الجليل أبو سلمة الذي يهاجمه المرض بضراوة الآن .. وتنقض على جسده جراحات أحُد .. وحوله أبناؤه وزوجته المجاهدة الصابرة .. ذات الهجرة العسيرة .. والذكريات المريرة .. إنها تبكي الآن وهي تعاني وداع زوجها الحبيب .. إنه لن يرى هذا الجنين الذي يسكن أحشاءها .. لن يداعبه ولن يتمتع بطفولته .. مات أبو سلمة رضي الله عنه .. فبكت أم سلمة وأبناؤها .. لكن مرارة الحزن لم تنس هذه المؤمنة الصابرة نفسها .. لقد صبرت في السابق وها هي الآن تتحامل على جراحها .. تنهض من بين آلامها .. تتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم تسأله ماذا تقول في مصابها الأليم هذا .. تسأله حتى لا تقع في ذنب النواح والاعتراض على قضاء الله وقدره .. تقول أم سلمة رضي الله عنها:
(سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا حضرتم الميت فقولوا خيرًا، فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون، فلما مات أبو سلمة قلت: يا رسول الله، كيف أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم:
قولي: اللهمّ اغفر لنا وله، وأعقبني منه عقبى حسنة).
فدعت أم سلمة بتلك الدعوة .. وارتفعت دعوتها إلى الباري فاستجاب الله .. فـ