الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصفة .. إلى باب المسجد .. إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحثون عن لقمة .. عن نصف لقمة عن أي شئ يسد جوعهم فلا يجدون سوى الجوع طعامًا وشرابًا .. ويخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته فتتعلق أعينهم به ويحدقون بيديه فيجدونها خالية كبطونهم .. فيدركون أنه ما من طعام .. يقول أحدهم: (والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع)(1) مثل هذا كيف سيصلى وقد حان وقت الصلاة؟!
ها هو صلى الله عليه وسلم يدخل المسجد فتقام الصلاة .. ويقوم أهل الصفة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة وهم يترنحون من الهزال والجوع .. ويصطفون بين إخوانهم المصلين .. ويكبر صلى الله عليه وسلم فيكبرون .. وفي لحظات الخشوع الهادئة مع الله يسمع المصلون دويًا وارتطامًا بين الصفوف .. ويسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه حركةً وأنينًا .. وتخفق القلوب القريبة من الحدث .. ويتألم الجميع بعد انقضاء الصلاة فماذا حدث ..
هذا هو فضالة بن عبيد الأنصاري .. أحد الصحابة رضي الله عنهم كان يصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم .. سألناه:
ماذا حدث يا فضالة
فيجيب فضالة وهو عالم من الشعور والألم فيقول:
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم لما بهم من الخصاصية (2) وهم أصحاب الصفة حتى يقول الأعراب: إن هؤلاء مجانين .. فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته انصرف إليهم فيقول:
(1) حديث صحيح. رواه البخاري (6452).
(2)
الجوع.
لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أنكم تزدادون حاجة وفاقة (1) .. قال فضالة: فأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ) (2) حيث كان يواسيهم ويدفع عنهم ما يؤلمهم بشىء يهون معه الجوع .. وتحلو معه المعاناة .. يعزيهم بشيء يحول الموت وما بعده إلى أمنية وحلم لا حدود له .. ومع هذا العزاء .. ومع هذه المواساة كان صلى الله عليه وسلم يتألم لتألمهم .. ويتألم مثل ألمهم ..
تقول حبيبته عائشة رضى الله عنها:
(كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل قال: هل عندكم طعام؟ فإذا قيل: لا .. قال: إني صائم)(3) لقد تحول الجوع إلى عبادة .. وتحول الشبع إلى عبادة .. قال صلى الله عليه وسلم مبشرًا إخوانه الموسرين: (الطاعم الشاكر له مثل أجر الصائم الصابر)(4) ويقول صلى الله عليه وسلم مندهشًا ومبشرًا:
(عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر وكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)(5)(عجبت للمؤمن إن الله تعالى لم يقض له قضاءً إلا كان خيرًا له)(6) .. يقول صلى الله عليه وسلم ذلك كله وهو يتمنى لو يدفع عنهم هذا الفقر وهذا الهزال لكنه لا يجد .. كانت تمر به لحظات لا يملك فيها سوى
(1) الفقر والحاجة.
(2)
سنده صحيح. رواه أبو نعيم في الحلية (2/ 17) من طريق حيوة وابن وهب: عن ابن هانئ أن أبا علي الجنبي حدثه أنه سمع فضالة بن عبيد وأبو هانئ اسمه حميد بن هانئ الخولاني وهو ثقة (التهذيب 3/ 51) وشيخه ثقة أيضًا واسمه: عمرو بن مالك الهمداني وهو أحد التابعين (التهذيب 8/ 95).
(3)
حديث صحيح. (صحيح الجامع الصغير 1/ 860).
(4)
حديث صحيح. (المصدر السابق 1/ 731).
(5)
حديث صحيح. (السابق 2/ 737).
(6)
حديث صحيح. (السابق 2/ 838).
المواساة .. يستمع إلى الشكوى تلو الشكوى في أجواء من الحرية والفاقة .. طلحة بن عمرو أحد أهل الصفة.
يروي لنا حوارًا جرى بعد إحدى الصلوات بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أحد الفقراء .. يقول طلحة:
(كان يجري علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم مدٍ من تمر بين رجلين .. ، فسلم صلى الله عليه وسلم ذات يوم من الصلاة، فناداه رجلٌ منا فقال. يا رسول الله .. قد أحرق التمر بطوننا .. وتخرقت عنا الخنف .. ، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منبره فصعده .. ، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر ما لقي من قومه .. فقال:
مكثت أنا وصاحبي بضعة عشر ليلة ما لنا طعام إلا البرير، فقدمنا على إخواننا من الأنصار وعظم طعامهم التمر، فواسونا فيه .. فوالله لو أجد لكم الخبز واللحم لأطعمتكم .. ولكن تدركون زمانًا -أو من أدركهم منكم- تلبسون فيه مثل أستار الكعبة، ويغدى (1) عليكم ويراح (2) بالجفان) (3) فرح أهل الصفة بهذا الوعد الصادق .. وتأثروا لما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه من أذى ومعاناة حيث يمر معظم الشهر ليس عندهما ما يأكلانه سوى ثمر الأراك .. ما تعرض له أهل الصفة شديد .. ولكن ما تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه كان أقسى وأشد .. وينصرف أهل الصفة إلى صفتهم .. وقد طواهم الجوع والرضى .. والاحتساب وانتظار الفرج .. ولم يكن صلى الله عليه وسلم يواسيهم بالماضي أو بالمستقبل
(1) يقدم لكم في الصباح.
(2)
يقدم لكم في المساء.
(3)
سنده صحيح. رواه أبو نعيم (1/ 374) من طريقين: عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب ابن أبى الأسود الدؤلي عن طلحة بن عمرو ورواه أحمد كذلك من الطريق نفسه وقد مر معنا تخريجه.