الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حبيباته الصغيرات .. اللواتي طالما انتظرنه في البيت وعلى عتبة الباب .. فإذا ما رأينه مقبلًا تراكضن نحوه كالزهرات .. أيهنّ تحظى بقبلة قبل أخواتها .. يتزاحمن على ما يحمله بيديه .. كلهنّ يردن التخفيف عنه ورؤية ما أحضر لهنّ .. كلهنّ يردن خدمته .. طالما أعددن شرابه وطعامه .. وغسلن ثيابه .. وغطّينه وهو نائم .. ولطالما مرّضنه من حمى المدينة القاسية .. تسع زهرات .. كم حملهن على ظهره .. ولاعبهن وضاحكهن وقصّ عليهن .. كم ألححن عليه ليشتري الملابس والحلي .. فيستجيب مهزومًا بالحب ..
ذكريات وهموم تثقل الشيخ العطوف وتملأ قلبه .. فتخرج الكلمات منه بصوت متهدّج بالحزن .. ويقول لابنه جابر: (ما أراني إلَّا مقتولًا في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإني لا أترك بعدي أعزّ عليّ منك غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن عليّ دينًا فاقضِ، واستوصِ بأخواتك خيرًا)(1).
لكن الكلمات لا تطفئ هذه النار المستعرة بين أضلاع هذا الشيخ .. لا تكفي لمقاومة ألم الفراق واليتم القادم .. فيتّجه به الحزن إلى شيء لا يزال حلالًا حتى الآن .. يتجه به الحزن إلى شيء قد ينسيه بعض الحزن .. قد ينسيه ذلك الشوق المنبعث من تلك العيون البريئة التي لا تُنسى.
والد جابر يشرب خمرًا قبل المعركة
يتجه رضي الله عنه إلى الخمر فيحتسي شيئًا منها علّها تخرجه مما هو فيه .. علّها تسليه حتى تحين ساعة العراك حيث تذوب الخمر ويشتدّ
(1) حديث صحيح رواه البخاري (1351).
الأمر .. ويذهل عبد الله عن كل شيء سوى الشهادة .. يقول جابر رضي الله عنه: (اصطبح -والله - أبي يوم أحد الخمر ثم غدا فقاتل)(1)، ولم يكن والد جابر هو الوحيد الذي شرب خمرًا ذلك الصباح .. فلقد (صبح أناس غداة أحد الخمر) (2) .. فهل كانت أحزانهم كأحزان عبد الله الذي يغادر بيته وبناته .. ويترك لابنه جابر من الهموم والمسؤوليات الشيء الكثير .. لكن جابرًا أهلٌ لتحمّلها .. لأن الإِسلام جعل من جابر بن عبد الله إحساسًا مرهفًا .. غيمة تهمي حنانًا وربيعًا على أخواته المسكينات .. يقول جابر رضي الله عنه إن والده (ترك عليه دينًا) (3) و (ترك تسع بنات كن لي تسع أخوات) (4) مسؤولية جسيمة لا تنقضي. يقول صلى الله عليه وسلم:(من عالَ جاريتين حتى يدركا، دخلت أنا وهو الجنّة كهاتين)(5)، أي كالأصبعين المتجاورين .. هذا إذا عال الرجل فتاتين .. فكيف إذا كان تحت رعايته تسع بنات .. ؟
كم يحب الإِسلام البنات ويعتني بهن .. ويطالب بحبهنّ والعناية بهنّ .. هنيئًا لجابر .. وهنيئًا له موقعه بين نظاري المدينة الذين يحرسون ثغورها .. ويسهرون حمايةً لها .. بشَّرهم صلى الله عليه وسلم وبشَّر غيرهم عندما قال: (عينان لا تصيبهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)(6).
(1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/ 202): حدثني وهب بن كيسان عن جابر، ووهب تابعي ثقة سمع من جابر انظر: التهذيب (11/ 166).
(2)
حديث صحيح رواه البخاري (4618).
(3)
حديث صحيح رواه البخاري (4052).
(4)
حديث صحيح رواه البخاري (4053).
(5)
حديث صحيح: صحيح الجامع (2/ 1092).
(6)
حديث صحيح
…
صحيح الجامع (2/ 756).