الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكره أن ينجو من سيف علي .. فدخول عقبة في دار الإيمان يكفل حمايته من السيف .. ومن سيوف المؤمنين جميعًا .. ها هو أحد فرسان بدر .. المقداد بن عمرو .. يبعث برسالة إلى العالم .. من أقصاه إلى أقصاه .. من خلال حوار متحضر جدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. قال المقداد لنبيه صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله .. أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله.
أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله. فقال: يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي ثم قال ذلك بعد ما قطعها؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال) (1).
هذا هو الإِسلام .. وهذا هو خطابه لأتباعه والعالم: لا شأن لكم بالنوايا .. لا شأن لكم .. ولا يعرف ما في القلوب إلا من خلقها ..
وقد رفض عقبة هذا الخطاب الجميل .. فغادر إلى الجحيم غير مأسوف عليه ..
بقية الأسري في نعيم
بقية الأسرى لم يسحبوا إلى قليب .. ولم يُقتادوا إلى معسكرات تجويع وتعذيب .. ولم يؤمروا بالقيام بأعمال شاقة .. فمنذ أغمد الصحابة سيوفهم تحولت الساحة من أنهار دم إلى واحات سلام .. شرب فيها الأسرى وأكلوا وناموا أكثر من الصحابة وأكثر من نبيهم عليه الصلاة
(1) حديث صحيح رواه البخاري (4019).
والسلام .. شيء لا يصدق لأنه لم يحدث من قبل .. شيء لا يصدق .. أيعقل أن يعامل المسلمون هؤلاء المشركين الذين حملوا السيوف وطردوا الرسول صلى الله عليه وسلم واغتصبوا المال والدار .. أيعقل أن يعاملوا معاملة المسكين .. والطفل اليتيم .. أجل يعقل إذا كان القائد هو محمَّد صلى الله عليه وسلم وكان الجيش من الصحابة .. ها هم يقدمون طعامًا للأسرى أفضل من طعامهم رغم جوعهم ورغبتهم الملحة فيه .. ليس لأنهم أبناء العمومة والعشيرة .. ولا لطمعهم بفدية أكثر فإن من المشركين من لا يملك إلا سيفه .. السبب ببساطة هو وعد نزل كالمطر من السماء .. فأنبت في قلوب المؤمنين تلك الرياض وتلك الرعاية وذلك الفيض من العطاء .. وحي من الله يقول: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (1).
هذه هي معسكرات الأسر في الإِسلام مهما كان الأسير مجرمًا أو مشركًا أو حتى ملحدًا .. هذا هو مفهوم الحبس في الإِسلام إن كان في الإِسلام حبس .. أسير مشرك خرج لسفك الدماء يخجل من كرم آسره .. وآسر يستحي أن يقدم لأسيره طعامًا أقل من طعامه أو مساويًا له .. يكتفي الصحابة بالتمر والماء .. ويقدمون الخبز واللحم -إن وجد- لأسراهم .. أخلاق زرعها صلى الله عليه وسلم في أعماق أصحابه .. أخلاق تعادل درجات من الصلاة والصيام لا يطيقها الإنسان .. بشرهم صلى الله عليه وسلم بذلك عندما قال لهم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار)(2) .. ومن هو الذي يصلي ليله كله لا يفتر .. ويصوم كل يوم ولا يفطر .. قال
(1) سورة الإنسان: الآيات 5 - 9.
(2)
حديث صحيح. صحيح الجامع (1/ 334).
لهم صلى الله عليه وسلم: (إن أقربكم مني مزلًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا في الدنيا)(1)(إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقًا)(2) و (من كان سهلًا هينًا لينًا حرمه الله على النار)(3) غرس صلى الله عليه وسلم تلك الأخلاق عندما قال لهم: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنة .. والساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)(4) و (أنا زعيم ببيت في .. أعلى الجنة لمن حسن خلقه)(5).
سحابة عطر كان محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه .. بعد أن كانوا قبل قليل عاصفة من السلاح والموت .. سحابةٌ شعر الأسرى تحتها بالارتياح .. شعروا بنسيم الإِسلام البارد يغمرهم ويلطف لفح الصحراء من حولهم .. وانتشى الأنصار من جديد وتوهج كرمهم وحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيثار من جديد .. يقول أحد أبنائهم: (إن رجالًا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إيذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه، فقال: لا والله .. لا تذرون منه درهمًا)(6) وطالب رسول الله عمه العباس بالفداء .. بل كان فداء العباس أكثر من فداء غيره ..
مكث صلى الله عليه وسلم على أرض المعركة ثلاثة أيام كان فيها مشغولًا بأصحابه .. يعالج قضاياهم وجرحاهم ويتلقى الوحي من الله سبحانه في علاجه ذلك .. لم يكن صلى الله عليه وسلم مشغولًا. بمن معه فقط بل كان يعيش بقلبه وشعوره مع أحباب لا يراهم حوله .. كان بقلبه وشعوره بين حرات المدينة .. يتذكر
(1) حديثٌ حسنٌ. صحيح الجامع (1/ 327).
(2)
حديث صحيح. صحيح الجامع (1/ 438).
(3)
حديث صحيح. صحيح الجامع (2/ 1105).
(4)
حديث صحيح. صحيح الجامع (1/ 310).
(5)
حديثٌ حسنٌ. صحيح الجامع (1/ 306).
(6)
حديث صحيح. رواه البخاري (4018).
أصحابه .. وأهله .. وحبيبته التي لا يدري ما فعل المرض بها .. لا يدري أي حالة تعيشها ابنته رقية .. ترى هل تعافت من مرضها أم أن الأوجاع تداعت على شبابها .. تذكر صلى الله عليه وسلم المدينة ومن فيها فأرسل ابنه زيد -زيد بن حارثة (1) - ليبشر المدينة بنصر الله .. والقضاء على طواغيت قريش .. يبشر بأسر أشرافهم في يوم الإِسلام العظيم .. يوم الفرقان .. وقد كان ابنه أسامة ابن زيد ملازمًا لعثمان ورقية في مرضها .. وكان مع أول من استقبل والده وأخباره ..
أسامة يحدثنا عن ذلك فيقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم خلف عثمان بن عفان، وأسامة بن زيد على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام بدر، فجاء زيد بن حارثة على العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبشارة، قال أسامة: فسمعت الهيعة، فخرجت فإذا زيد قد جاء بالبشارة، فوالله ما صدقت حتى رأيت الأسارى، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان بسهمه)(2) وهذا يعني أن عثمان كان يريد الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالبقاء لتمريض زوجته رقية .. قال عبد الله بن عمر بن الخطاب إن عثمان بن عفان (كانت تحته
(1) كان يسمى في ذلك الوقت زيد بن محمَّد.
(2)
سنده حسن. رواه البيهقي (3/ 130) أخبرنا أبو الحسن المقرئ وهو إمام حافظ ناقد. انظر السير للذهبي (17/ 305) وشيخه الحسن الدقاق صحيح السماع من أهل القرآن والصلاح. المصدر السابق (15/ 535) وتاريخ بغداد (7/ 422) وشيخه هو الثقة يوسف ابن يعقوب القاضي. تاريخ بغداد (14/ 310) وشيخه أحد رجال الشيخين: الثقة محمَّد ابن أبي بكر المقدمي. التقريب (2/ 148) وشيخه حسن الحديث فهو صدوق في حفظه شيء. التهذيب (8/ 58) والتقريب (2/ 72) وهو من رجال الستة واسمه عمرو بن عاصم الكلابي وشيخه ومن فوقه أئمة ثقات: حماد عن هشام عن عروة عن أسامة بن زيد. وللحديث شاهد يأتي ص 196.
ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنها مرضت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممّن شهد بدرًا وسهمه) (1).
لكن أين رقية .. أين حبيبتك يا عثمان .. أين حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته .. ؟ الإجابة حزن على وجه عثمان وعلى وجه أسامة.
ماتت رقية ووالدها بعيد عنها .. ماتت قبل أن ترى والدها وتطمئن على سلامته .. دون أن ترى أختها الحزينة زينب .. ها هو الحزن من جديد يخيم على بيت النبي صلى الله عليه وسلم .. فاطمة تبكي وأم كلثوم تبكي حزنًا على رقية .. زهرة تذبل وشباب يختفي أمام عينيهما .. كم لعبوا سويًا .. كم ضحكوا وتراكضوا وتسابقوا إلى حضن خديجة .. كم تواثبوا وتزاحموا ليركبوا على ظهر محمَّد .. ما أحوج فاطمة وأم كلثوم إلى أبيهما .. ما أحوجهما إلى خديجة .. ما أحوجهما إلى أختهما الكبيرة زينب .. ينثران على صدرها شيئًا من الدموع .. فزينب بعيدة هناك .. حزينة هناك .. في مكة لا يعلمان عنها شيئًا
…
ولا تعلم عنهم شيئًا ..
ماتت رقية قبل أن يصل زيد بالخبر .. فقد (وافق زيد بن الحارثة ابنه أسامة حين سوى التراب على رقية بنت رسول الله، فقيل له: ذاك أبوك حين قدم، قال أسامة فجئت وهو واقف للناس يقول: قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل، ونبيه ومنبه وأمية بن خلف، فقلت: يا أبت أحق هذا؟ قال: نعم والله يا بني)(2) ويختلط الحزن في أجواء المدينة بالفرح، ويبتهج بقية المهاجرين والأنصار بالخبر الذي لا يصدقه إلا
(1) حديث صحيح. رواه البخاري (4066).
(2)
حديثٌ حسنٌ. رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/ 217): حدثني عبد الله بن أبي بكر، وصالح بن أبي أمة عن أبيه .. وهذان طريقان يقوى بعضهما بعضا لأن صالحًا لم يوثقه إلا ابن حبان. ويشهد للحديث حديث أسامة السابق.
مؤمن .. ويخفف النصر من الحزن والدموع المنثورة على رحيل رقية .. ويخيم الليل والوجد على عثمان .. إنه يعود إلى منزله فلا يجد فيه رقية .. كم هو مشتاق إليها .. كم هو وحيد دون رقية .. وكم هو وحيد وقد انقطع نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم .. يا له من ليل حزين لا تبدده إلا الصلاة .. هذا ما يحدث في المدينة أما على أرض المعركة فتتسلل خيوط الفجر إلى سماء بدر .. ويشرق بلالٌ بالأذان .. ويستيقظ من كان نائمًا .. ويصلى الجميع خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم .. إنه فجر اليوم الثالث بعد انقضاء المعركة .. حيث يأمر صلى الله عليه وسلم بالاستعداد للعودة إلى المدينة .. ويطلب تهيئة راحلته .. ويفرغ الجميع مما أمروا به .. وينطلق صلى الله عليه وسلم إلى غير ما توقع الصحابة .. فهذا ليس بطريق المدينة .. إنه يتوقف ويتحدث إلى أقوام بشيء مفزع ومخيف جعل أحد الصحابة يستفسره عن ذلك .. أنس بن مالك يحدثنا عن ذلك المسير وعن ذلك التساؤل فيقول: (فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشدت عليها رحلها، ثم مشى واتبعه أصحابه وقالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته حتى قام على شفى الركى (1) فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم [يا أبا جهل بن هشام .. يا أمية بن خلف .. يا عتبة بن ربيعة .. يا شيبة بن ربيعة .. أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟] يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان .. أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا .. فقال عمر: يا رسول الله .. ما تكلم من أجساد لا أرواح لها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم [ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا (2)](3) ولا يقدرون على أن يعودوا فيتوبوا .. مصير أسود رسموه
(1) حافة البئر.
(2)
أي أنهم يستمعون لقوله صلى الله عليه وسلم حقًا أثناء خطابه لهم.
(3)
حديث صحيح. رواه البخاري عن أنس (3976) وما بين المعقوفين عند مسلم عن أنس.
لأنفسهم .. وجحيم مرعب تسابقوا إليه وهم يحملون أصنامهم .. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تركهم وما تسابقوا إليه .. وانعطف براحلته نحو عواطف جياشةٍ تنتظره في طيبة الطيبة ..
ليت شعري كيف استقبله أحبابه هناك .. أيهنئون أنفسهم به ويهنئونه بنصر الله .. أم يعزونه في رقية .. ؟
كيف استقبله عثمان هناك .. كيف كانت حالته صلى الله عليه وسلم عندما زاحم الحزن فرحًا يزين صدره ..
كيف كانت حالته عندما التقت عيناه بعيني فاطمة وعيني أم كلثوم ..
وكيف شكتا له الوجد على أختهما الحبيبة .. ؟
هذه الحياة لم تصفُ لمحمد صلى الله عليه وسلم .. لم تصفُ لحبيب الله .. فالحزن والمعاناة جزء من حياته .. يفقد ابنته الشابة ويصبر ويحتسب .. ويتوهج بوعد الله فيخفف عن غيره مصيبته ولوعته رغم ما هو فيه ..
ويقول لعثمان: (لك أجر رجل شهد بدرًا وسهمه)(1)
أما حارثة .. ذلك الشاب المكلف بالمراقبة والرصد والذي استشهد هناك في بدر .. فأمه هنا في المدينة تتلقى الركب تسأل عن حبيبها
…
فيقع الخبر عليها كالموت .. فيحملها الحزن والسؤال إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم .. لقد (أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع ..
(1) حديث صحيح مر معنا وهو عند البخاري (4066).