المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

اللَّهم إن تلك هذه الفئة لا تعبد فلما أن طلع الفجر - السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة - جـ ٢

[محمد الصوياني]

فهرس الكتاب

- ‌اليهود

- ‌ما هي قصة صيام يوم عاشوراء

- ‌يهودي ينتقد المسلمين

- ‌كيف ينادي إلى الصلاة

- ‌رجلٌ من حلم وأذان من وحي

- ‌فرحة لامرأة من الأنصار

- ‌المدينة حريقًا ومذابح

- ‌فماذا توقع أبو بكر

- ‌حراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌السلاح صباحًا .. السلاح مساءً

- ‌نشاط عسكري

- ‌غزوة العُشَيرة

- ‌غزوة الأبواء

- ‌سرية نخلة

- ‌فما هو هذا الخبر

- ‌أهل الصفة

- ‌ماذا حدث يا فضالة

- ‌ملابسكم يا أهل الصفة

- ‌صيام شهر رمضان

- ‌ما هو الصيام

- ‌أحكام جديدة في الصيام

- ‌رقية مريضة

- ‌كيف كان ليل رمضان في مكة

- ‌رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب

- ‌الخروج وأسبابه

- ‌المشورة قبل الانطلاق

- ‌سرية في الانطلاق

- ‌كيف علمت قريش بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌بدر

- ‌أين محمد

- ‌ كيف علم صلى الله عليه وسلم بخروج قريش

- ‌كيف عرف صلى الله عليه وسلم عدد قريش

- ‌عدد الصحابة

- ‌المشورة الثانية

- ‌وجاءت البشرى من الله

- ‌16/ 9/ 2 ه

- ‌مصارع القوم

- ‌المطر .. المطر

- ‌ الصلاة جامعة

- ‌بشرى ومنام

- ‌فعل السبب .. وجعل النتائج على الله

- ‌لماذا يرفض صلى الله عليه وسلم مشاركة حذيفة ووالده

- ‌الصوف الأبيض شعارًا للمسلمين

- ‌النعاس وشيء آخر

- ‌أين رسول الله وأين الملائكة

- ‌عبد الرحمن ابن عوف يتمنى مكانًا آخر

- ‌هل أسلم أبو جهل

- ‌(قم يا حمزة .. وقم يا علي .. وقم يا عبيدة)

- ‌شاهت الوجوه

- ‌علي خائف من الموت

- ‌قصة أمية وعبد الرحمن بن عوف

- ‌أشجع رجلٍ في بدر

- ‌ أين أبو جهل

- ‌ماذا فعل ابن مسعود بأبي جهل

- ‌ثمانية عشر شهيدًا

- ‌قضية الغنائم

- ‌إحراق الغنائم

- ‌قضية الأسرى

- ‌رأيًا لأبي بكر ورأيًا لعمر

- ‌إعدام طاغوت

- ‌بقية الأسري في نعيم

- ‌عفراء حزينة تنوح

- ‌ماذا قالت سودة

- ‌المعجزة

- ‌إطلاق الأسرى دون مقابل

- ‌ماذا عن بقية الأسرى

- ‌الخدمة الاجتماعية بدلًا من الحبس

- ‌كعب بن الأشرف

- ‌وثيقة مكتوبة بين النبي والمسلمين واليهود

- ‌أعلن يهود النضير وقريظة الحرب

- ‌قصة إجلاء بني النضير

- ‌أبو بكر وعمر وعلي يريدون فاطمة

- ‌هل وقع شجار بين حمزة وعلي

- ‌ألا يا حمزة للشرف النواء

- ‌مولد النفاق

- ‌النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالانتفاع بالخمر

- ‌أبو طلحة ومهر أم سليم الغالي

- ‌جبير بن مطعم والهموم

- ‌حمزة بابًا للحرية

- ‌رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌دعاهم ليستشيرهم

- ‌البنات والمعركة

- ‌والد جابر يشرب خمرًا قبل المعركة

- ‌إنهما من الأوائل

- ‌{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}

- ‌المرابطون

- ‌بين عينين وأُحد

- ‌البداية دعاء

- ‌بشائر النصر

- ‌هل من مبارز

- ‌ضيفان على المعركة

- ‌ضيف ثالث على المعركة

- ‌ماذا فعل الرماة

- ‌المعركة بأيدي المشركين

- ‌صرخة تقتل حسيلًا

- ‌استشهاد حمزة

- ‌إن محمدًا قد قتل

- ‌استشهد مصعب

- ‌حنظلة بن أبي عامر وأبو سفيان بن الحارث

- ‌شهادة هو اختارها

- ‌رسول الله صلى الله عليه وسلم في السماء

- ‌أول من عرفه صلى الله عليه وسلم

- ‌الرسول يستسقي دماءً

- ‌الشهيد الذي يمشي على الأرض

- ‌النعاس من جديد

- ‌هذا الفارس من أهل النار

- ‌أوجب طلحة

- ‌النبي يبشّر الشهداء

- ‌الصلاة على الشهداء

- ‌ما سر حفاوة الله بوالد جابر

- ‌أبو سفيان وجيشه نادمون

- ‌غزوة حمراء الأسد

- ‌شبح على أرض أُحُد

- ‌تحريم النياحة على الميت

- ‌أحب الأسماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌إلى أين تتجه الهموم بجابر

- ‌على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جابر يتعلم أدبًا

- ‌جاءت المعجزة

- ‌من أخذ مال سعد بن الربيع

- ‌ما هي عقبى أم سلمة

- ‌رؤيا أم الفضل

- ‌فاطمة تلد حربًا

- ‌عقيقة الحسن

- ‌أم الفضل تضرب الحسن

- ‌تتمادى البراءة فيتمادى الحب

- ‌الرحمة تذهله صلى الله عليه وسلم

- ‌النبي صلى الله عليه وسلم والإماء والمعاقين

- ‌قصة أولها رحمة وآخرها جحيم

- ‌اغتيال خالد بن سفيان

- ‌سرايا لمرثد بن أبي مرثد

- ‌حرم الله الزنا

- ‌عامر بن الطفيل يهدد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌سرية الرجيع

- ‌ماذا حدث لأم سليم رضي الله عنها

- ‌غزوة بني لحيان

- ‌أم سليم تلد طفلًا

- ‌أم سلمة تلد بنتًا

- ‌تغيير اسم برة بنت أبي سلمة

- ‌ذات الرقاع

- ‌أعرابي يحاول قتل النبي صلى الله عليه وسلم بسيفه

- ‌صلاة الخوف

- ‌صفة ثانية لصلاة الخوف

- ‌جابر وجمله الهزيل

- ‌المرأة والرجل

- ‌زريبة للنساء

- ‌زيد بن محمد ليس زيد بن محمد

- ‌ماذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم بأسامة لو كان فتاةً

- ‌شاب اسمه جليبيب

- ‌معركة جليبيب

- ‌تطلق زوجها لأنها لا تحبه

- ‌كيف فتحت توراتهم بيوت الدعارة

الفصل: اللَّهم إن تلك هذه الفئة لا تعبد فلما أن طلع الفجر

اللَّهم إن تلك هذه الفئة لا تعبد

فلما أن طلع الفجر نادى:

الصلاة عباد الله

-‌

‌ الصلاة جامعة

-

فجاء الناس من تحت الشجر والحجف فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال) (1) ثم احتضنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة قصيرة رأى فيها:

‌بشرى ومنام

ربنا سبحانه يتحدث عن ذلك المنام القصير فيقول: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (2) ..

وأشرقت في وجوه الصحابة شمس جديدة .. ويوم جديد .. فتنفسوا هواءً منعشًا .. وصباحًا طريًا بالصلاة والمطر .. الأرض أمامهم ساكنة ملبدة لا غبار فيها .. والأجواء تملأ صدور المؤمنين حماسًا وثقة بالله ووعده .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحرضهم على القتال .. يشرع لهم أبواب الشهادة والجنة .. ويجعل من أصحابه أحبابًا لله فـ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ

(1) سنده حسن. رواه ابن جرير في التفسير (6/ 193): حدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا مصعب بن المقدام، حدثنا إسرائيل، حدثنا أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي .. والسند من علي إلى إسرائيل صحيح وقد مر معنا .. لكن الذي جعل السند حسنًا هو أنه من رواية مصعب بن المقدام وهو حسن الحديث ومن رجال مسلم. التقريب (2/ 252) وهارون الهمداني صدوق (التقريب 2/ 311).

(2)

سورة الأنفال: الآية 43.

ص: 77

يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (1) .. والرسول صلى الله عليه وسلم يحب أن يكونوا كذلك .. لذلك نظمهم .. وجعلهم صفًا كأنهم بنيان مرصوص .. وصار يمشي بينهم .. يصفهم ويعدل صفهم ثم قال لهم:

(إن جمع قريش عند هذا الضلع الحمراء من الجبل)(2) .. لقد بدأ المشركون بالنهوض مثقلين .. وصداع الخمر يرن في رؤوسهم .. بدأوا بالنهوض وقلوبهم شتى .. وأفكارهم شاردة .. والنظام عنهم شارد .. بعضهم لا يريد الخروج .. والبعض يرى أن من الخطأ قتال أبناء عمومتهم وإخوانهم وأبنائهم .. وهناك من خرج أشرًا وبطرًا وقد أغراه قلة عدد المؤمنين فضمن النصر واطمأن للنتيجة ..

و (لما اطمأن القوم بعثوا عمر بن وهب الجمحي فقالوا: أحرز لنا القوم من أصحاب محمَّد ..

فاستجال حول العسكر ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلًا أو ينقصون .. ولكن أمهلوني حتى انظر أللقوم كمين أو مدد .. فضرب في الوادي حتى أبعد فلم يرَ شيئًا .. فرجع إليهم فقال: ما رأيت شيئًا .. ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا .. نواضح يثرب تحمل الموت الناقع .. قوم ليس لهم منعة إلا سيوفهم والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم .. فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم) (3).

(1) سورة الصف.

(2)

رواه أحمد بسند صحيح وهو جزء من حديث على الطويل الذي مر معنا.

(3)

أثرٌ رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبري (2/ 42): حديث إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم عن أشياخ من الأنصار قالوا: لما اطمأن

وهذا السند صحيح إلى هؤلاء الأشياخ فابن إسحاق سمع من والده

ووالده ثقة وقد سمع من بعض الصحابة (التقريب 1/ 62) وهؤلاء الأشياخ ربما كانوا من الصحابة فإن كانوا كذلك فالسند متصل

وإن =

ص: 78

سكت الجميع وهم يستمعون إلى هذا الوصف المرعب .. وتسلل من بين هذا الحشد الصامت رجلٌ حكيم .. اسمه أيضًا: حكيم ..

حكيم بن حزام تأثر بكلام عمر بن وهب الجمحي وأحس بشيء خطير تحمله نواضح يثرب ..

(فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة فقال:

يا أبا الوليد .. إنك كبير قريش الليلة وسيدها والمطاع فيها .. [هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت](1).

هل لك ألا تزال تذكر منها بخير إلى آخر الدهر .. قال:

وماذا يا حكيم؟

قال: [إنكم لا تطلبون من محمَّد إلا دم ابن الحضرمي](2) ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي .. قال عتبة:

قد فعلت [أنا أتحمل بديته](3) أنت علي بذلك إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله .. فأتِ ابن الحنظلية [يعني أبا جهل فقل له: هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك](4) فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة خطيبًا فقال:

= لم يكن أحدهم من الصحابة فهم جمع من التابعين يقوي بعضهم بعضًا

وللأثر شاهد يقويه أيضًا انظر ما بعده.

(1)

هذه الزوائد ليست عند الطبري (انظر ابن كثير 2/ 407).

(2)

هذه الزوائد ليست عند الطبري (انظر ابن كثير 2/ 407).

(3)

هذه الزوائد ليست عند الطبري (انظر ابن كثير 2/ 407).

(4)

هذه الزوائد ليست عند الطبري (انظر ابن كثير 2/ 407).

ص: 79

يا معشر قريش إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا .. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه .. قتل ابن عمه أو ابن خاله .. أو رجلًا من عشيرته .. فارجعوا وخلوا بين محمَّد وبن سائر العرب .. فإن أصابوه فذلك الذي أردتم .. وإن كان ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون) (1).

كان عتبة بعيد النظر .. خائفا من مصير قومه الأسود الذي يقودهم إليه رجل طائش حاقد هو أبو جهل .. كانت عتبة على جمله الأحمر يدور بين المشركين .. يحاول ثنيهم عن عزمهم فهو يرى الموت سهامًا في نظرات أصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم .. ويرى العار في قتل أبناء العم وقتالهم .. كان عتبة على تلك الحال يناشد ويمشي ويناشد ويحاول حقن دماءٍ توشك أن تُسفح على جنبات بدر .. يحاول ردم مقابر ومآسٍ كالهاوية ..

لا بد أن أمية بن خلف كان في تلك اللحظات يستمع إليه .. ويستبشر به ويحتفي بكلماته وقلبه يرقص طربًا بما يقول .. ولسان حاله يقول: لله درك يا ابن عتبة كم أنت رائع .. أنت تنقذني من موت ينتظرني ..

لم يكن من حول عتبة فقط هم الذين يثنون على رأيه .. رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراقبه من بعيد .. من الجهة الأخرى كان ينظر إليه .. لم يعرف من هو .. لكنه أدرك من حركاته أنها حركات رجلٍ نصوح مشفق على قومه.

(نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتبة وهو على جمل أحمر فقال:

(1) هذا الأثر هو بقية الأثر السابق (انظر ابن كثير 2/ 407 - السيرة) وشاهده عند الطبري عن حكيم بن حزام، وفيه ضعف ليس بالشديد. (2/ 443).

ص: 80

إن يكن عند أحد من القوم خير فهو عند صاحب الجمل الأحمر .. إن يطيعوه يرشدوا -وهو يقول: يا قوم أطيعوني في هؤلاء القوم، فإنكم إن فعلتم لم يزل ذلك في قلوبكم .. ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه .. فاجعلوا جبنها برأسي وارجعوا) (1).

كان عتبة يريد أن يتحمل عارها وشنارها .. ويجنب قومه جحيم الحرب ونارها ..

أراد صلى الله عليه وسلم أن يعرف من هو صاحب الجمل الأحمر (فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: ناد بعض أصحابك فسله من صاحب الجمل الأحمر؟ قالوا: عتبة ابن ربيعة وهو ينهى عن القتال وهو يقول: يا قوم إني أرى قومًا مستميتين، والله ما أظن أن تصلوا إليهم حتى تهلكوا)(2).

والتفت صلى الله عليه وسلم فرأى عمه حمزة في موقع قريب من المشركين فأراد أن يتحقق من قول أصحاب الزبير ويتأكد:

(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي .. ناد لي حمزة -وكان أقربهم من المشركين- منْ صاحب الجمل الأحمر؟ .. وماذا يقول لهم؟

(1) سنده جيد وهو صحيح بالشواهد. رواه البزار (2/ 313 - زوائد)

يزيد بن هارون أنبأنا جرير بن حازم، عن أخيه يزيد بن حازم، عن عكرمة عن ابن عباس .. : يزيد ثقة متقن عابد (التقريب 2/ 372) وشيخه جرير ثقة لكن حديثه عن قتادة فيه ضعف وهذا ليس منها فشيخه هنا هو أخوه يزيد وهو ثقة (التقريب 1/ 127)(2/ 63) وعكرمة غني عن التعريف وقد مر معنا كثيرًا .. وللحديث شواهد ترفعه إلى درجة الصحة.

(2)

سنده صحيح. رواه البزار (2/ 311) بالسند الصحيح الذي مر معنا كثيرًا وهو: إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة عن علي

وتلميذ إسرائيل عند البزار هو عثمان بن عمر العبدى: ثقة من رجال الشيخين. (التقريب 2/ 13) وتلميذه هو شيخ البزار الثقة الثبت: محمَّد بن المثنى المعروف بـ (الزمن)(التهذيب 9/ 425).

ص: 81

فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم إني أرى قومًا مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم، اعصبوها اليوم برأسي وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم) (1) .. كان عتبة فوق جمله الأحمر يثير إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم برأيه السديد .. لكنه كان يثير حسرة لدى أحد الشباب المؤمنين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم .. كأني بهذا الشاب يتطاول .. ويتطاول ليحظى بنظرة أخيرة لصاحب هذا الجمل الأحمر .. كأني به يرفع رأسه ليراه فيتحرك قلبه نحوه بالأسى والحزن .. والذكريات الحلوة المريرة .. عندما كان هذا الشاب طفلًا كان صاحب الجمل الأحمر يحمله ويداعبه .. كان يسير معه في طرقات مكة .. كان يكسوه أحسن الثياب .. ويطعمه أطيب الطعام .. كم مرة قبله .. وكم مرة عانقه .. وكم مرة تعثر فحمله .. وبكى فأسكته بما يرضيه .. ومرض فبحث له عمن يداويه .. ذكريات حلوة ومريرة .. فمن يكون هذا الشاب وما هي صلته بهذا الشيخ الكبير؟ إنه: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ..

وهذا الشيخ هو أبوه الذي رباه ورعاه وحنا عليه .. وهو اليوم عدوه .. والده اليوم أعقل وأحكم من في معسكر قريش .. فأين تلك الحكمة وأين هذا العقل قبل اليوم .. أين الحكمة في الخروج من أجل أصنام لا تستطيع الحراك من أماكنها .. أين الحكمة في عبادة حجر أو خشبة تفتقر إلى أبسط صفات السيادة ألا وهي إصدار الأمر أو النهي .. ؟

(1) حديث صحيح مر معنا. رواه أحمد (سيرة ابن كثير 2/ 422) إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي.

ص: 82

كان هذا الشاب يتحسر على أبيه مثلما تحسر علي بن أبي طالب على أبيه وهو يشاهد رجاءات النبي صلى الله عليه وسلم تتحطم على صخرة العناد في قلب أبي طالب .. ويموت أبو طالب وهو كتلة من العناد .. وها هي الصورة تتكرر على أرض بدر ..

كان عتبة خائفًا أشد الخوف على مسجد قريش أن يدفن في هذا الصباح الممطر الجميل .. عتبة يرى الموت يطل عليهم من فوق الجبال .. يرى الموت في السحاب وفوق نواضح يثرب .. لذلك أرسل حكيم بن حزام إلى أبي جهل لعله يتراجع عن غيه .. أرسل حكيم بن حزام إلى أبي جهل ليعرف رأيه فهو صاحب شر مستطير .. وعقل صغير .. أبو جهل سفيه متهور .. قد يثير الفتنة والمشاكل بين جيش قريش نفسه .. فيكونون غنيمة سهلةً لمحمد وأصحابه .. غنيمة أسهل من قافلة أبي سفيان .. فلا بد من كلمة واحدة .. ورأي واحد ولو كان مرًا.

توجه حكيم كما طلب منه عتبة وقال:

(فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نثل درعًا فهو يهنئها (1) فقلت له: يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ..

فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمدًا وأصحابه، فلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبن محمَّد، وما بعتبة ما قال، ولكنه رأى محمدًا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه) (2).

(1) أي يصلحها ويهيئها ويطليها بعكر الزيت.

(2)

أثر حسن. رواه ابن إسحاق ومن طريقه الطبري (2/ 444) وهو حديث ابن إسحاق الطويل وهو ضعيف عدا ما كان له من الشواهد ما يقويه مثل هذا الجزء الذي يشهد له ما عند البزار وهو الحديث التالي.

ص: 83

كان أبو جهل يستخدم العواطف .. يثيرها .. يفجرها فتنةً يفجرها ثارات وسيوفًا ..

ها هو يقلب الحقائق .. يجعل من رأي عتبة العاقل جبنًا .. يجعله خوفًا على ابنه الذي بين صفوف المؤمنين ..

ويبرر هذا الرأي الساقط بأن عتبة يرى أن محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يأخذون من المشركين جهدًا أكثر من جهدهم في تناول وجبة من الطعام قد طبخ فيها جمل من الجمال ..

إنه يرى المسلمين جزورًا شهيًا قد قدم على مائدة بدر وقد حان موعد تناولها .. وابن عتبة لقمة في هذه الوجبة الشهية .. وقد خشي عتبة على ابنه من أفواه قريش وسيوفهم المتلمظة .. المتعطشة .. أبو جهل يقول:

(انتفخ والله سحره حين رأى محمدًا وأصحابه .. إنما محمَّد وأصحابه كأكلة جزور .. لو قد التقينا)(1) .. ويفقد أمية بن خلف آخر آماله في الحياة .. فلقد تحرك ابن الحنظلية مفتشًا عن إثارة أكثر لهذه القلوب السوداء .. مفتشًا عن جمر يلقيه في تلك النفوس كي تتحرق للثأر.

فـ (بعث إلى عامر بن الحضرمي .. فقال:

هذا حليفك يريد أن يرجع الناس .. وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فأنشد خفرتك ومقتل أخيك ..

فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ:

واعمراه ..

واعمراه ..

(1) حديث صحيح. وهو جزء من حديث البزار السابق (2/ 313 - الزوائد).

ص: 84

فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة، فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره قال:

سيعلم مصفر أسته من انتفخ سحره أنا أم هو) (1) ..

لم يكتف أبو جهل ببلوغ صراخه إلى عتبة ..

لقد تحرك الطاغوت نحو عتبة بن ربيعة لاستفزازه .. ليوظفه باتجاهٍ شقهُ أبو جهلٍ .. ليحوله من نقطة ضعف وسكينة إلى بركان تتفجر منه المعركة حالًا

توجه أبو جهل إلى عتبة صارخًا بوجهه: (أنت تقول ذلك، والله لو غيرك يقوله لأعضضته قد ملأت رئتك جوفك رعبًا)(2) فثار عتبة وانفجر في وجه أبي جهل قائلًا: (إياي تعير يا مصفر أسته؟ ستعلم اليوم أينا الجبان)(3)(ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه، فما وجد في الجيش بيضة (4) تسعه من عظم رأسه .. فلما رأى ذلك اعتجر (5) على رأسه بردٍ له) (6).

لقد نجح أبو جهل بتحريضه لغضب عتبة فأوصله إلى حالة شديدة من التوتر والتهور .. وأفلح الطاغوت في إثارة حمية أخيه وابنه (فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية)(7) يريدون الحرب ..

(1) جزء من حديث ابن إسحاق السابق وهو حسن.

(2)

حديث صحيح. وهو جزء من حديث الإمام أحمد وقد مر معنا.

(3)

حديث صحيح. وهو جزء من حديث الإمام أحمد وقد مر معنا.

(4)

الخوذة التي توضع على الرأس في الحروب.

(5)

لف البرد على رأسه كالعمامة

والبرد قماشى يلتحف به.

(6)

جزء من أثر ابن إسحاق السابق وهو حسن.

(7)

حديث صحيح. وهو جزء من حديث الإمام أحمد وقد مر معنا.

ص: 85

سمع المسلمون ذلك الضجيج فتزينوا للجنة ..

وتوجه النبي صلى الله عليه وسلم .. إلى جبار السموات والأرض يناشده .. ويناشده ويستمطره رحمةً ونصرًا .. فنظر إليه الصديق فرق لحاله وأشفق عليه .. ثم تحرك نحوه بكل رفق والتف حوله وضمه ضمةً لا يجرؤ عليها إلا أبو بكر ..

ومشاعر أبي بكر لا يعبر عنها إلا أبو بكر ..

فكم أبكى ذلك المشهد من الصحابة عندما (نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف .. ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: اللَّهم أنجز لي ما وعدتني ..

اللَّهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام فلا تعبد في الأرض أبدًا ..

فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده -ألقاه على منكبيه (1) - ثم التزمه من ورائه ثم قال: كفاك يا نبي الله بأبي وأمي (2) مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك .. فأنزل الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} ) (3).

(1) لفظ مسلم.

(2)

لفظ ابن جرير.

(3)

حديث صحيح. رواه مسلم وأحمدُ (ابن كثير 2/ 417) وابن جرير في التفسير (6/ 188).

ص: 86