الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نهض صلى الله عليه وسلم من نومه .. وهبّ لجمع أصحابه .. لا ليقرّر .. ولا ليأمر بل:
دعاهم ليستشيرهم
وبعدما اجتمعوا شاورهم جميعًا دون استثناء .. وكان رأيه صلى الله عليه وسلم ورأي بعض الصحابة أن يقاتلوا داخل المدينة .. وقص عليهم صلى الله عليه وسلم رؤياه .. لكن أناسًا منهم لم يحضروا غزوة بدر .. غمرهم الحماس وأصرّوا على الخروج لتأديب أولئك الوثنيّين .. لعل أحدهم عمّ أنس بن مالك واسمه أنس بن النضر .. يقول أنس عن عمّه رضي الله عنهما: (عمي أنس -سمّيت به- ولم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فشقّ عليه، وقال: أول مشهد (1) شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبتُ عنه، ولئن أراني الله مشهدًا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع ..) (2) قال أنس بن مالك: إن عمه (هاب أن يقول غيرها)(3) .. إن رجالًا بهذه المعنويات لا يمكن أن يقنعوا بقتال الشوارع والمدن .. إنهم يريدون ساحات ومساحات يعانقون فيها الخلود .. وينتشون فيها بريق الشهادة والسيوف.
لكن الحماس لا يعني الانتصار .. والمعنويات لا تكفي .. فخارج هذه المدينة يربض عدو استعدّ وأعدّ وكشرّ .. عدو حمل كل ما يمكن حمله للانتقام والثأر .. فالبقاء في المدينة أحكم وأسلم عسكريًا في ظلّ عدم الاستعداد والمفاجأة التي لم تكن في الحسبان .. لدرجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث أصحابه وهو في ثيابه العادية حتى الآن ..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله .. وأبدى رأيه وترك الاختيار لأصحابه رضي
(1) يقصد رضي الله عنه غزوة بدر.
(2)
حديث صحيح رواه مسلم وأحمدُ واللفظ له (سيرة ابن كثير- 3/ 62).
(3)
سنده صحيح وهو جزء من حديث أحمد والبيهقيُّ السابق.
الله عنهم .. (فقال له ناسٌ لم يكونوا شهدوا بدرًا: يخرج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم نقاتلهم - ورجوا أن يصيبوا من الفضيلة ما أصاب أهل بدر، فما زالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم .. حتى لبس أداته (1)، ثم ندموا وقالوا: يا رسول الله .. أقم فالرأي رأيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنبي أن يضع أداته بعد أن لبسها حتى يحكم الله بينه وبين عدوّه) .. وقبل أن ينطلق صلى الله عليه وسلم إلى أرض المعركة أحب أن يستعرض جيشه الذي تداعى من كل مكان في المدينة متلهفًا .. فأجاز من يستطيع القتال وردّ صغار السن .. هذا أحدهم: البراء بن عازب يقول رضي الله عنه: (عرضت أنا وابن عمر يوم بدر فاستصغرنا وشهدنا أحدًا)(2)، لكن ابن عمر أرجع لأنه لم يتجاوز الخامسة عشر.
يقول ابن عمر رضي الله عنه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أُحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه)(3) للخروج مع الجيش ..
عاد ابن عمر مكسور الخاطر بعد أن ودّع والده الحبيب .. لكنه لم يكن أكثر انكسارًا ولا حماسًا من ذلك الشيخ الكبير الذي يحاصره أبناؤه الأربعة وتحاصره الإعاقة .. إنه: (عمرو بن الجموح .. أعرج شديد العرج، وكان له أربعة بنون "مثل الأُسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد" .. يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
(1) أي أداة الحرب.
(2)
سنده حسن، رواه الطبراني (2/ 8) حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثني عمي أبو بكر، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن مطوف، عن أبي إسحاق عن البراء
…
وشيخ الطبراني ثقة من أوعية العلم قال عنه الإِمام الألباني: فيه كلام، لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن (الصحيحة- (4/ 156) وشيخه أبو بكر بن أبي شيبة صاحب المصنف والإمام المعروف، وعبد الله بن إدريس ثقة فقيه عابد - التقريب (1/ 401) ومطوف ثقة فاضل - التقريب (2/ 253) وأبو إسحاق تابعي علم مر معنا كثيرًا.
(3)
حديث صحيح رواه البخاري (4097).
يتوجه إلى أُحد "أرادوا حبسه"، قال له بنوه: إن الله عز وجل قد جعل لك رخصة، فلو قعدت فنحن نكفيك، فقد وضع الله عنك الجهاد، فأتى عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إن بني هؤلاء "يريدون أن يحبسوني" .. يمنعوني أن أخرج معك، ووالله إني لأرجو أن أستشهد معك، فأطأ بعرجتي هذه في الجنة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد، وقال لبنيه: وما عليكم أن تدعوه لعلّ الله عز وجل يرزقه الشهادة) (1).
كان رضي الله عنه يحلم بشوارع الجنّة تلامسها تلك العرجة وتتدلّى من شرفاتها وتخوض في مياهها العذبة .. لذلك توجّه بسؤال ينبض بالشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لقد (أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟ -وكانت رجله عرجاء- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم)(2).
إجابة ملأت صدر عمرو بن الجموح بالنهار .. إجابة ألجمت الأسود الأربعة .. فخرجوا كالأشبال حول هذا الشيخ الجسور .. خرجوا دون أن يودعوا أمّهم فاطمة .. فهي ليست في البيت الآن .. لأنها تسير مع رفيق دربها وحبيبها .. أخرجها الشوق إلى الجنّة مثلما أخرج زوجها وأبناءها .. وكان لفاطمة العظيمة هذه أخ اسمه: عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري .. وعبد
(1) رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 246) والزوائد عند ابن كثير: حدثني والدي عن أشياخ من بني سلمة: ووالد ابن إسحاق تابعي ثقة يروي عن الصحابة ولعل هؤلاء منهم -وهو الأرجح- لأنه يروي هذه الصيغة عن الصحابة، وهؤلاء جمع ومن بني سلمة- وهم قوم جابر وعمرو بن الجموح
…
وإلا فالسند مرسل
…
(2)
سنده حسن رواه أحمد (5/ 299) وابن أبي شيبة (الإصابة- 7/ 96) .. حدثنا أبو صخر ابن زياد أن يحيى بن النضر حدثه عن أبي قتادة
…
وأبو صخر حسن الحديث إذا لم يخالف (التهذيب- 3/ 41) وشيخه تابعي ثقة (التقريب- 2/ 359).