الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} (1)، فرح جابر بهذه البشرى، فرح بحفاوة الرب الكريم بأبيه .. فخفّفت البشرى كثيرًا من أحزانه، لكن:
ما سر حفاوة الله بوالد جابر
؟
ما سرّ هذا الشيخ المحلّق في النعيم .. إنه لم يقاتل كما قاتل حمزة .. ولم تمزقه الطعنات كما مزقت أنس بن النضر .. لقد شرب الخمر -وهو لا يزال مباحًا- ثم انصرف إلى المعركة فكان أول من سقط من الشهداء .. ومع ذلك يلقى كل هذا الفيض الغامر من النعيم .. ؟!
ليس هكذا يُنْظرَ إلى والد جابر رضي الله عنه .. دعونا نتأمل عالم هذا الشيخ من كل زواياه .. دعونا نجعل أنفسنا مكانه .. إن هذا الشيخ الكبير لم يحارب عن اثنين كما فعل سعد في بدر .. ولم يحارب بسيفين كحمزة ..
لكنه كان يحارب في معركتين شرستين .. أحدهما على أرض أُحُد .. أمّا الثانية فكانت ساحتها داخل أعماقه وبين حناياه .. وهي معركة أكثر ضراوة وقسوة .. إنها معركة مع الذات .. مع الدنيا .. مع عواطف الأبوة الجياشة التي تتغلغل في أعماقها تسع بنات مسكينات .. والدنيا .. كل الدنيا .. تعلم أن الشيخ أكثر حنانًا وعطفًا علي بنيه منه وهو شاب .. والدنيا .. كل الدنيا تعرف للبنات رحمة لا تعادل في قلوب الآباء .. فكيف إذ كنّ تسع بنات يترصّد لهن اليتم والفقر .. إن عبد الله بن عمرو بن حرام ينتزع نفسه من بين بناته .. من بين أبوّته وأحزانه ليتّجه بها نحو
= وابن عقيل حسن الحديث إذا لم يخالف انظر: الفتح الرباني للبنا (22/ 308). والزيادة له.
(1)
سورة آل عمران: الآيات 169 - 171.
الجنّة .. نحو الله .. فحب الله متشعب في كل خلاياه ومشاعره .. وهو بحاجة إلى الله أكثر من حاجة بناته إليه .. هكذا نتأمل هذا الشيخ .. وهذه الطريقة نتحسّس بعض سرّه وسر حفاوة الله به.
والد جابر ورفاقه الآن أحياء عند ربّهم يرزقون .. قال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1).
سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية .. عن تلك الحياة الفسيحة التي ينعم بها الشهداء .. وعن ذلك الكرم الإلهي المدهش .. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سألنا عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: (أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلّقة بالعرش، تسرح من الجنّة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطّلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنّة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب .. نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)(2)، وقال أحد الصحابة رضي الله عنهم: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأُحُد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنّة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم، قالوا: ياليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله عز وجل: أنا أبلّغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا
(1) سورة آل عمران: الآية 169.
(2)
حديث صحيح رواه مسلم -الإمارة- باب: بيان أرواح الشهداء في الجنة.
بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وما بعدها) (1). زخّات من النعيم أمطرتها تلك الكلمات على قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .. فحفرت فيها الأخاديد والشقوق .. حسرة على ما فاتهم في هذا اليوم من لذّة الحديث إلى أحبّ حبيب .. لذّة الاستماع إلى الله ..
إن الإنسان ليعرف من حال العاشق حالة من الذهول عن كل ما يحيط به عند لقاء المحبوب.
فليت شعري من يصف مشاعر من يتحدث إلى أحب حبيب وأعظم محبوب .. ؟
تمنى فرسان أحد وهم يغادرون تلك المقابر الطيبة .. تمنوا لو كانوا فيها .. بين أولئك المسافرين في النعيم ..
وتمنى صلى الله عليه وسلم لو كان مجندلًا على أرض أحد لينعم بلقاء اليوم .. تحدث صلى الله عليه وسلم بذلك وباح به لأصحابه .. فازداد شوقهم وحنينهم إلى الله وإلى الجنّة وإلى هذا الحبيب الذي يبوح بمشاعره .. ويقول:
(أما والله لوددت أني غودرت مع أصحابي بحضن الجبل -يعني سفح الجبل)(2)، يقول جابر رضي الله عنه أنه قصد: ليتني (قتلت معهم)(3).
(1) حديث صحيح بما قبله: رواه ابن إسحاق ومن طريقه أحمد (1/ 265 - 266) وابن جرير في التفسير (3/ 513): حدثنا إسماعيل بن أبي أمية عن أبي الزبير عن ابن عباس وهذا السند صحيح لولا عنعنة أبي الزبير .. وقد دلس أبو الزبير اسم شيخه الذي صرح به في الرواية لابن إسحاق عند أبي داود (2520) والحاكم (2/ 88) وهو الإمام المجاهد سعيد ابن جبير .. كما أن للحديث شاهدًا سنده حسن عند ابن جرير (3/ 513).
(2)
سنده صحيح رواه إسحاق ومن طريقه: أحمد (3/ 375) والحاكم (2/ 86)(3/ 30) حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه .. وهذا سند صحيح .. عاصم ثقة عالم بالمغازي: التقريب (1/ 385) وعبد الرحمن تابعي ثقة (475).
(3)
هو الحديث السابق.