الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلم يحبس عنهم الأجر .. فالمسلم ليس بأعماله فقط .. بل بنواياه أيضًا .. وإذا كان ابن أم مكتوم قد حبسه العمى .. فإن هناك رجالًا حبسهم عن الجهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم .. رغم أنهم لا يشكون من شيء في أجسادهم .. ولا يشكّ صلى الله عليه وسلم في إيمانهم .. وإنما حبسهم عليه الصلاة والسلام ليكلفهم. بمهمة جهادية داخل المدينة هي الرباط والحفاظ على المدينة من أي عدو .. سواءً كان غدر يهودي أو منافق .. أو كرّ مشرك من خارج المدينة ..
المرابطون
على الآطام (1) والحصون .. هم رجال شجعان أوكل إليهم صلى الله عليه وسلم حراسة المدينة والرباط فيها .. وبشّر المرابطين بأجر عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم:
(رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات مرابطًا جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان)(2) و (رباط شهر خير من صيام دهر، ومن مات مرابطًا في سبيل الله أمن من الفزع الأكبر، وغدي عليه برزقه، وريح من الجنّة، ويجري عليه أجر المرابط حتى يبعثه الله)(3) ..
وكان من بين الذين حظوا هذا الأجر والأمر والد حذيفة بن اليمان ذلك الرجل الذي منعه العهد والوعد من مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر .. وصحابي آخر اسمه: ثابت بن وقش بن زعوراء رضي الله عنهما .. فـ (لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أُحد وقع اليمان بن جابر -أبو حذيفة- وثابت بن وقش بن زعوراء في الآطام مع النساء والصبيان)(4).
(1) الحصون.
(2)
حديث صحيح رواه مسلم (انظر: صحيح الجامع- 655).
(3)
حديث صحيح رواه الطبراني (انظر: صحيح الجامع- 655).
(4)
سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه الحاكم (3/ 202): حدثني عاصم بن عمر بن =
استعدّ الجميع .. وتأهبوا للخروج إلَّا رجلين .. الأول لا حاجة به إلى الاستعداد .. فهو لا يملك من هذه الدنيا شيئًا يحتاج إلى وداع أو وصية .. فأملاكه كلّها بين يديه وفي صدره .. مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف .. ابن الأم الثرية .. الشاب المنعم أيام شركه .. لا يملك الآن إلَّا سيفه وقرآنًا يملأ صدره ويملأ بيوت المدينة بعد أن سافر في بيوت الأنصار .. وزرع فيها العلم والإيمان .. هذا هو مصعب بن عمير الذي لقبه الأنصار بـ "المعلم" ..
أمّا الآخر فهو شاب يتمتّع بأحلى أيام عرسه .. إنه الآن مع عروسه .. يتبادلان عذب الكلام والأحلام .. صفو المشاعر والغرام .. وفجأة يدوي في المدينة داعي الجهاد فينسل حنظلة بن أبي عامر من فراشه ويتحول العاشق إلى محارب يودع عروسه بحرارة المحبِّ الذي لن يعود .. فتهمي دموع حبيبته وتستودعه الله الذي لا تضيع ودائعه .. فهو أغلى ما تملكه .. ويغيب حنظلة عن عينيها .. وتغيب في همومها وأحزانها التي لا تدري متى تنتهي .. أحزانها التي لا يخفّفها سوى الإيمان.
خرج صلى الله عليه وسلم من المدينة متوجهًا نحو أُحد .. حاملًا سيفه "ذا الفقار" الذي غنمه من غزوة بدر .. ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بلبس درعه .. بل لبس عليه درعًا آخر .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر يوم أُحد بين درعين -أو لبس درعين-)(1). وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم الذي يحفظه الله من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله ومن فوقه ومن
= قتادة عن محمود بن لبيد، وعاصم تابعي ثقة من علماء المغازي
…
ومحمود بن لبيد صحابي رضي الله عنه.
(1)
حديث صحيح انظر: صحيح أبي داود (2/ 491).
تحته يحتاط كل هذا الاحتياط .. فصحابته أولى .. يقول الزبير رضي الله عنه: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين يومئذ)(1).
انطلق صلى الله عليه وسلم لملاقاة حشود الشرك المحتقنة .. كانت رايته ترفرف في الهواء (كانت سوداء من نمرة)(2) صوف .. أما لواؤه صلى الله عليه وسلم فكان لواؤه (أبيض)(3) .. كان كل شىء في هذا الجيش يرفرف للجنّة وعوالمها الساحرة.
كان الرجال يتجمّلون للشهادة .. إلَّا أشباه رجال خرجوا بأجساد نخرة .. وبمعنويات يجرّونها خلفهم كالذلّ .. رجال يرتجفون من كل شيء حولهم .. يحسبون كل صيحة عليهم .. خوفًا خرجوا .. خوفًا صحبوه صلى الله عليه وسلم .. لكن هلعهم تفاقم عندما اقتربوا من الحقيقة -المعركة .. تحركت الخيانة في في دمائهم .. ونهضت كالشيطان تشير بأصبعها إلى الوراء .. تأمرهم بالعودة إلى المدينة وترك محمَّد صلى الله عليه وسلم وأصحابه .. فاستجابوا ورجعوا .. صدم الصحابة بما حدث ولم يصدم صلى الله عليه وسلم لأنه يعرفهم .. صعق الصحابة بما يجري .. هل هؤلاء مسلمون .. هب أنهم غير مسلمين هل هذا التصرّف- العار من شيم العرب وأخلاق العروبة .. أين الرجولة .. أين النخوة؟ .. هباء .. كل شيء داخل هؤلاء الخونة هباء .. إلَّا الكفر والحقد .. لكن الصحابة لم يسكتوا .. ولم يتحمّلوا هذا الموقف المخزي .. قرّر بعضهم أن
(1) سنده صحيح رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 238) حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جده، عن الزبير رضي الله عنه .. يحيى ثقة (التقريب- 2/ 350) ووالده تابعى ثقة - التقريب (1/ 392).
(2)
حديث صحيح انظر: صحيح أبي داود (2/ 491) وقد حذفت لفظًا ضعيفًا من الحديث هو "مربعة".
(3)
المصدر السابق (2/ 491).
يبدأوا بقتال هؤلاء الأنذال الجبناء قبل أن يقاتلوا جيش مكّة المشرك .. لكن البعض فضّل عدم إهدار طاقتهم وتدنيس أيديهم بدمائهم القذرة .. وهذا ما مال إليه صلى الله عليه وسلم .. فلا بدّ من التركيز على الخطر الداهم - العاجل .. يقول زيد بن ثابت ملخصًا ما حدث من خيانة:
(إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم .. وفرقة تقول: لا، فأنزل الله: {فَمَا لَكُمْ في الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ الله وَمَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة)(1).
شعّت الفضّة ولمعت بعد أن تعرضت لنار الشدائد فانسلخ خبث النفاق عنها .. ورجع الخونة دون أخلاق إلى جحورهم في المدينة كالحيات .. كالعقارب .. وأصبح جيش محمَّد صلى الله عليه وسلم قليلًا .. ضعيفًا إلَّا بالإيمان .. لكن قلّة العدد والخيانة واستعداد العدو خيّم للحظات على بعض الأنصار وهم بنو حارثة وبنو سلمة .. فقد كاد الإحباط والفشل أن يستولي عليهم .. لكن القرآن يفعل المعجزات .. نزل القرآن يغسل ما بهم من هموم وإحباط .. فثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجبال .. بل لقد صار ذلك الموقف مبعث فخر لهم إلى يوم القيامة .. لقد فرحوا بما نزل من آيات تصف حالهم وتثني عليهم .. هذا أحد أبنائهم يفرح بنزول كلام الله على نبيه فيهم، فيقول:
(1) حديث صحيح رواه البخاري (4589) ومسلمٌ - المنافقين، وأحمدُ (5/ 184) واللفظ لأحمد والآية عندهم إلى قوله تعالى:{بما كسبوا} وأكملتها للفائدة.