الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لديهم .. فشدوا على المسلمين في محاولة يائسة .. محاولة كالانتحار .. وهي في حركتها تشبه كتلة من اللهب تهوي على الأرض فتنطفئ لكنها تؤذي من يتصدى لها .. ومع ذلك كان أشجع الناس يتقدم كالموج يطفئها .. كالموت يخمدها .. وخلفه كان سعد الذي يقاتل كرجلين .. والزبير الذي يهزم الحديد .. وعلي بن أبي طالب بشجاعته المعروفة .. وعمه حمزة الذي فعل بهم الأفاعيل .. وعمر بن الخطاب الذي تهابه كل قريش .. وأبو بكر الصديق درع رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين صنعوا الأحداث والتاريخ .. هؤلاء وغيرهم قاتلوا في ساعة من ساعات بدر خلف ذلك الشجاع فمن هو:
أشجع رجلٍ في بدر
؟
إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وأحد الذين كانوا يلوذون بشجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أحد الذين كانوا يلوذون بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بنفسه فيقول:
(لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا)(1) و (لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس بأسًا)(2).
وأمام هذا البأس تساقط المشركون من اليأس .. وتفتت آخر حلم وثني على أرض بدر .. وعلى سماء بدر أيضًا .. فجيش محمَّد صلى الله عليه وسلم ليس على الأرض فقط .. بل وفي السماء له جيش .. أحد الذين كانوا يقاتلون
(1) حديث صحيح. رواه ابن أبي شيبة (7/ 354) وانظر ما بعده.
(2)
حديث صحيح. رواه أحمد (1/ 126) والبيهقيُّ (3/ 69) واللفظ
…
وسنده وسند ما قبله هو: إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه .. وهو سند صحيح مر معنا كثيرًا.
المؤمنين .. أحد الذين أصابهم اليأس والإحباط رأى بين السماء والأرض شيئًا كالبساط .. شيئًا قادمًا لمحمدٍ ولأصحاب محمَّد صلى الله عليه وسلم .. فماذا رأى جبير بن مطعم .. وما هو أثره على قومه .. يقول جبير: (رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الأسود، أقبل من السماء مثل النمل الأسود، فلم أشكك أنها الملائكة، فلم يكن إلا هزيمة القوم)(1) الكافرين الذين تطايروا من جديد كالشظايا هربًا من الموت القاسي الذي يمتطي نواضح يثرب بعد أن أطلقه صلى الله عليه وسلم في وجوه المشركين .. أطلق شباب الإِسلام حماسًا يفتك بأوصال الوثنية .. حماسًا أوقده صلى الله عليه وسلم عندما قال:
(من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا، فسارع في ذلك شبان الرجال وبقي الشيوخ تحت الرايات)(2).
وبين بريق الانتصار وبرق التسابق نحو رقاب الطغاة كان هناك من يسابق الشباب نحو تلك الرقاب .. هذا أحد شباب الإِسلام .. واسمه الحارث ويكنونه بأبي واقد الليثي .. يشتد مسرعًا نحو أحد الطغاة فيشاهد العجب .. العجب يقول رضي الله عنه: (إني لأتبع رجلًا من المشركين لأضربه فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي، فعرفت أن غيري قد قتله)(3) ..
(1) سنده قوى. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 61): حدثني أبي عن جبير بن مطعم
…
وهذا السند قوى والد ابن إسحاق ثقة وقد روى عن معاوية ومعاوية توفي بعد جبير بن مطعم رضي الله عنهما.
(2)
حديث صحيح. وصححه الإمام الألباني في صحيح أبى داود (2/ 522).
(3)
سنده حسن. رواه ابن إسحاق ومن طريقه البيهقي (3/ 56) حدثني والدي إسحاق بن يسار حدثني رجال من بني مازن عن أبي واقد الليثي .. وهذا السند حسن لأن شيوخ والد ابن إسحاق وهو ثقة جمع ووالد ابن إسحاق يروي عن الصحابة وعن كبار التابعين
…
فإن كانوا صحابة فالسند صحيح وإن كانوا من كبار التابعين فيقوي بعضهم بعضًا.
كان أحد الملائكة لا شك .. الملائكة التى تحز الرقاب .. وتلطم الأنوف والوجوه المشركة .. فبين السماء والأرض كان هناك صراخ .. كان هناك حيزوم .. ولا أدري ما هو هذا المخلوق الذي تردد اسمه في الفضاء .. هل هو جواد ذو أجنحة أم أن حيزومًا ملك من الملائكة .. لكنه كان مسرعًا لا شك .. يسابق أحد الفرسان نحو أحد المشركين ..
فـ (بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم .. ، إذ نظر إلى المشرك أمامه، فخر مستلقيًا، فنظرنا إليه، فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط، فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة) (1) ومدد السماء لم يقتصر على حز الرقاب ولطم الأنوف والوجوه وتمريغها في الذل .. مدد السماء كان يفعل شيئًا آخر .. عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. العباس بن عبد المطلب كان قد خرج مع قريش فوقع في الأسر .. وها هو الأنصاري الذي أسره يقتاده نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لكن العباس يصر على أن هذا الأنصاري القصير لم يأسره .. والأنصاري يصر على أنه أسره .. لم يكذب الأنصاري ولم يكذب العباس .. والحقيقة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم .. لقد (جاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد الطلب أسيرًا، فقال العباس:
يا رسول الله، والله إن هذا ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهًا على فرس أبلق ما أراه في القوم .. فقال الأنصاري:
أنا أسرته يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم:
(1) حديث صحيح. رواه مسلم والبيهقيُّ واللفظ له (3/ 52).
اسكت فقد أيدك الله تعالى. بملك كريم) (1) .. لا بشيطان رجيم .. لكن يا ترى أين الشيطان الرجيم من هذه الأحداث .. لا شك أنه بين صفوف المشركين يتلقى نصيبه من الهزيمة والذل .. أخبرنا عن ذلك ربنا وهو يقول: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)} (2) لقد هرب إبليس .. رآه بعض المشركين وكل الذي أعرفه عنه في تلك المعركة أنه أغواهم ثم تبرأ منهم وفر كفأرٍ جبان من أرض المعركة وهو على صورة ذلك الرجل الذي طارد رسول الله صلى الله عليه وسلم وطارد أبا بكر في طريق الهجرة إلى المدينة .. لقد كان إبليس في صورة "سراقة بن مالك"(3) ولما تهاوت الأجساد من حوله وشخبت الدماء منها خاف أن يلقى المصير الذي لقيته تلك الجثث ففر .. وفر المشركون قبله .. تطايروا كالشظايا في الشعاب والجبال .. وانقشعوا عن أرض بدر .. وانقشع الغبار .. وهدأت الأنفاس .. تأمل صلى الله عليه وسلم ذلك المشهد .. وتأمل فرسانه من حوله .. فإذا الساحة صمت حزين ورهيب .. منظر لا يسر .. سبعون
(1) هو جزء من حديث أحمد عن علي وقد مر معنا وهو صحيح. انظر الفتح الرباني (21/ 30) وسيرة ابن كثير (2/ 422).
(2)
سورة الأنفال: الآيتان 47، 48.
(3)
لم يأت ذلك بسند صحيح لكن هناك روايات متفرقة ضعيفة عن عروة مرسلًا عند ابن إسحاق (سيرة ابن كثير 2/ 386) وعنده أيضًا وعند البيهقي (3/ 52) بسند فيه جهالة وهو متصل، وعند الطبراني بسند ضعيف (2/ 433) وعند البيهقي بسند فيه انقطاع (3/ 78) وعند الطبري (6/ 265) بأسانيد ضعيفة ويصح من مجموع هذه الروايات ذكر إبليس وأنه كان في صورة سراقة.
جسدًا من قريش بلا حراك .. سبعون جسدًا من أبناء العمومة والعشيرة .. بلا أرواح .. ما الذي أوصلهم إلى هذه المأساة .. من هو الذي قادهم إلى هذه النهاية المخيفة .. إلى الهزيمة وإلى جهنم .. ؟ أبو جهل قادهم .. والشيطان أجج الشرك في نفوسهم .. أما يكفيهم ثلاثة عشر عامًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .. من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمته وحرصه عليهم .. ؟ نهاية مخيفة تلك التي انتهى إليها أولئك السبعون .. لقد فر أصحابهم وتركوهم للشمس والغبار .. وتركوا مثل هذا العدد بين القيود والحبال .. سبعون أسيرًا يغشاهم الذل وتجللهم الهزيمة .. ها هو الشرير: عقبة بن أبي معيط مأسورًا .. وها هو أبو يزيد واسمه: سهيل بن عمرو مأسورًا أيضًا ..
وها هم الصحابة يستجيبون لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيكتفون بأسر العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر ابن عمه عقيل بن أبي طالب لأنهم خرجوا كارهين لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال نبي الله صلى الله عليه وسلم:"من استطعتم أن تأسروا من بني عبد المطلب فإنهم خرجوا كارهين"(1) لكن لماذا لم ينه صلى الله عليه وسلم عن قتل أمية بن خلف وقد خرج كارهًا أيضًا .. ؟ السبب لا يحتاج إلى كثير من التفكير .. فأمية بن خلف كان من أشرس الناس على الإِسلام وأتباعه خاصة بلال بن رباح بعكس بني عبد المطلب .. ثم إن أمية لم يكن كارهًا لقتال المسلمين .. إنه يتمنى سحقهم وسحق نبيهم صلى الله عليه وسلم .. لكنه كان خائفًا على نفسه لأنه يدرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ولا ولن يكذب ..
(1) رواه أحمد (1/ 89) بسند حسن من أجل أبي سعيد شيخه وهو حسن الحديث من رجال البخاري (التقريب 1/ 487) قال الحافظ: صدوق ربما أخطأ، ولعل الصواب أنه ثقة ربما أخطأ. انظر التهذيب وقد قال أبو سعيد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي
…
وهذا السند صحيح وقد مر معنا.