الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بل لقد بلغ به التواضع والرحمة أعماقًا وآفاقًا بعيدةً .. بعيدة .. تعال معي إلى هذا المشهد المضحك المبكي في طرقات مدينة النبي صلى الله عليه وسلم .. مشهد لـ
النبي صلى الله عليه وسلم والإماء والمعاقين
حيث نرى النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الطرقات تقوده أمةٌ أو امرأة في عقلها شيء .. دون أن ينهرها .. أو يطالبها بالتوقف أو يطالب أهلها بردعها عن مجلسه .. كان يجعل لها من قلبه ووقته نصيبًا كالآخرين .. يقوم من مجلس قد يجلس فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي إلى امرأة في عقلها اضطراب .. يستمع إليها وينصت حتى تنتهي وتقضي حاجتها .. يقول أنس رضي الله عنه:
(كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت)(1)، ويقول رضي الله عنه: (إن امرأة كان في عقلها شيء فقالت:
يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان .. انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها) (2).
كان صلى الله عليه وسلم جنّة من المشاعر .. ينعم بها الجميع، حتى ضعاف العقول .. حتى العصافير والطيور .. كان صلى الله عليه وسلم جدول حب يشرب منه الجميع .. فيرتوون. يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) حديث صحيح رواه البخاري (6072).
(2)
حديث صحيح رواه مسلم (2326).
في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة، فجعلت تفرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولده؟ ردوا ولدها إليها.
ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلَّا رب النار) (1) .. كان صلى الله عليه وسلم يتغيّر وجهه ويتألم لمنظر الفقراء .. فلا يقرّ له قرار حتى يذهب ما بهم .. فإذا لم يجد سوى الكلمات بذلها يريح بها نفوسهم ويقوّيهم بها .. يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم: (كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاء قوم عراة، حفاة، متقلّدي السيوف، عامتهم من مضر -بل كلّهم من مضر- فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل، ثم خرج، فأمر بلالًا فأقام الصلاة، فصلّى ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا})(2)، و {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (3).
تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشقّ تمرة.
فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفّه تعجز عنها -بل لقد عجزت- ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلّل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سنّ في الإِسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من
(1) حديث صحيح: انظر: صحيح سنن أبي داود (3/ 1618).
(2)
سورة النساء: الآية 1.
(3)
سورة الحشر: الآية 18.