الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من بعد ما أصابهم ما أصابهم من فقد الأحباب والأصحاب .. لكن قريشًا لاذت بالفرار خشية أن يصيبها ما أصابهها في أوّل المعركة .. أو يحدث لها ما كان في غزوة بدر .. فجيش محمَّد صلى الله عليه وسلم كالأسود الجريحة .. الرماة يريدون التكفير عن معصيتهم لأوامر قائدهم صلى الله عليه وسلم .. وبقية الصحابة يريدون اللحاق بحمزة وعبد الله بن حرام وأصحابهم .. لعل الله أن يخاطبهم هذا المساء .. لكن قريشًا لاذت بالفرار.
فمكث صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه بعض الوقت ثم عادوا مثقلين إلى المدينة الحزينة .. المشتاقة إلى نبيّها وفرسانها ..
سأستأذنكم قليلًا لأسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته لا إلى المدينة .. بل سأعود إلى أرض أُحد .. فقد خيّم اللّيل على جبالها وشعابها .. وهناك حركة غريبة تحدث بين تلك الشعاب .. هناك شبح ينهض من بين الأموات ..
شبح على أرض أُحُد
دعونا نقترب منه .. إنه يقف على قدميه .. يترنّح من الألم والبرد يزيد من آلامه .. ها هو .. إنه ليس من الجنّ .. إنه أحد أفراد جيش أبي سفيان .. وقد كان طوال اليوم يتظاهر بالموت والدم ينزف منه .. يقول أنس بن مالك: (كان وهب بن عمير شهد أُحدًا كافرًا، فأصابته جراحة، فكان في القتلى، فمرّ به رجل من الأنصار، فعرفه فوضع سيفه في بطنه حتى خرج من ظهره ثم تركه، فلما دخل الليل وأصابه البرد لحق بمكة، فبرأ، فاجتمع هو وصفوان بن أمية في الحجر، فقال وهب: لولا عيالي ودين عليّ لأحببت أن أكون أنا الذي أقتل محمدًا، فقال له صفوان: كيف تصنع؟
فقال: أنا رجل جواد لا ألحق، آتيه فأغترّه، ثم أضربه بالسيف، فألحق بالخيل ولا يلحقني أحد.
فقال له صفوان: فعيالك مع عيالي، ودينك علي) (1).
لن أكمل هذا الحوار .. سأترك الرجلين وما يكيدان لألحق بحبيبي صلى الله عليه وسلم .. ها هو يسير نحو المدينة الحزينة .. دون حمزة .. دون سبعين من الشهداء الأبرار .. والبيوت تضجّ بالحزن والنواح .. يدخل صلى الله عليه وسلم المدينة ويمشي بين أبياتها .. فيحاصره النواح والبكاء في كل الطرقات والدروب ..
لم يتوقف النواح في المدينة ولم تتوقف الدموع .. ولا الأحزان .. إنها تتقاطر من قلوب المؤمنين .. كما يتقاطر سيف هذا المحارب المخيف .. الذي يسلم لحبيبته سيفًا أحمر يتقاطر موتًا .. سيفًا حنته المعركة لكنها لم تَحْنِ حامله ..
إنه عليّ بن أبي طالب وهو الآن برفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ولا أعلم هل هما في بيت النبي صلى الله عليه وسلم أم في بيت فاطمة .. ؟
يبدو أنهما في بيت فاطمة رضي الله عنها، فقد (جاء علي رضي الله عنه بسيفه يوم أحد قد انحنى فقال لفاطمة رضي الله عنها: هاكي السيف
(1) سنده قوي رواه الطبراني (17/ 62) وابن منده -ذكره في الإصابة .. وسند الطبراني: حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا محمَّد بن سهل بن عسكر، حدثنا عبد الرواق، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجوني- لا أعلمه إلا عن أنس بن مالك:
…
وقد توبع ابن عسكر عند ابن منده تابعه أبو الأزهر .. وأبو الأزهر حسن الحديث إذا لم يخالف، ومحمَّد بن سهل ثقة، انظر التقريب (2/ 167) وعبد الرزاق معروف، وجعفر بن سليمان صدوق من رجال مسلم- التقريب (1/ 131) وأبو عمران الجوني اسمه: عبد الملك بن حبيب الأزدي تابعي ثقة من رجال الشيخين، التقريب (1/ 518). وابن منده من شيوخ الطبراني.
حميدًا فإنها قد شفتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كنت أجدت الضرب بسيفك لقد أجاده سهل بن حنيف، وأبو دجانة وعاصم بن ثابت الأقلح، والحارث بن الصمة) (1).
توجّه صلى الله عليه وسلم إلى بيته خلال النواح والبكاء .. إنه يستمع إلى النائحات والوجد يحرق أكبادهن .. فيتذكر عمّه حمزة رضي الله عنه .. وتعاوده الأحزان من جديد .. فيستجيب لها بكلمات تفيض حزنًا ووفاءً لذلك الفقيد الحميم .. فقد (مرّ صلى الله عليه وسلم بنساء بني الأشهل)(2) عندما (رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد فسمع نساء بني الأشهل يبكين على هلكاهنّ، فقال:
لكن حمزة لا بواكي له، فجئن نساء الأنصار فبكين على حمزة عنده .. ورقد صلى الله عليه وسلم فاستيقظ وهن يبكين، فقال: ويلهنّ إنهن لها هنا حتى
(1) سنده صحيح رواه الحاكم (3/ 24) واللفظ له والطبرانيُّ (7/ 122)(11/ 251) وسند الحاكم هو حدثنا أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله الصفار، حدثنا أبو الحسن علي بن محمَّد الثقفي بالكوفة حدثنا منجاب بن الحارث التميميّ، قال: وزعم سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار عن عكرمة عن ابن عباس
…
وهذا السند صحيح فسفيان وعمرو وعكرمة أئمة ثقات معروفون ومنجاب التميميّ ثقة من رجال مسلم (التقريب-2/ 264) فقول الحاكم رحمه الله إن الحديث على شرط البخاري فيه نظر .. بل العكس لأن منجاب من رجال مسلم فقط فالحديث على شرط مسلم .. وأبو الحسن الثقفي ثقة انظر: تاريخ بغداد (12/ 63) وشيخ الحاكم عالم ثقة قال عنه تلميذه الحاكم: أنه محدث عصره. انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 437) وقد توبع الثقفي عند الطبراني وفيه تصريح بسماع سفيان من عمرو.
(2)
سنده حسن رواه ابن ماجه (الصحيح 1/ 26) والحاكم (3/ 195) ابن وهب وعبيد الله ابن موسى أخبرنا أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر وأسامة بن زيد حسن الحديث إذا لم يخالف (التقريب- 1/ 53) وصحح الحديث الإمام الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 265) وبقية السند كالذهب.